أ.د. غادة محمد عامر
وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث – جامعة بنها
زميل كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا
أصبح من الواضح للكل الآن أنه لا توجد طريقة بديلة لضمان النصر في المعارك المستقبلية سوى امتلاك التكنولوجيا المتقدمة والتي لا تأتي إلا من الابتكارات الوطنية. وبما أن بيئة الابتكار لا تخلق بين ضحية وعشاها، وإنما تحتاج إلى خبرات وأن يكون هناك ثقة متبادلة فيها، ثقة تسمح لأفراد تلك البيئة أن يكونوا رياديين يعرفون كيف يغتنمون الفرص بل ويتنبؤوا بما يحتاجه المستقبل، وأن يكون لديهم إيمان أن الفشل هو علامة فارقة في النجاح. وأن يكون بينهم تكامل ولديهم رؤيته مشتركة وهدف واضح من خلق هذه الابتكارات. وأن يكونوا ممن هم شغوفين بالبحث العلمي والابتكار -وليسوا موظفين اعتياديين- وعلى دراية تامة بأهميته لوطنهم سواء أمنه أو تنميته، ولا يفكرون مغادرة مراكزهم للبحث عن فرص أفضل إلا بعد تحقيق تقدما حقيقيا فيما اؤكل إليهم.
لذلك أدركت وزارة الدفاع الأمريكية ذلك، وكان التحدي الأساسي لها هو كيفية توجيه الطموح والأصول الفكرية إلى الابتكار في أدوات الدفاع والرد الازمة لحروب المستقبل. لقد أدرك وزير الدفاع آشتون كارتر أن الإستراتيجية مهمة فقط إذا كانت لديه الموارد اللازمة لتنفيذ هذه الإستراتيجية. وقال “ إذا لم نتمكن من تحديد مواردنا وفهمها وتحفيزها وتنشيطها واستخدامها ، فلن تكون الاستراتيجية مهمة”. وهذا خلق مجموعه من الأسئلة لدى العاملين في وزارة الدفاع الأمريكية مثل: من سيكون المبتكر؟ كيف تخلق وزارة الدفاع ثقافة واسعة ومبتكرة؟ هل يتم الاستعانة بمصادر خارجية للابتكارات لمراكز التفكير والمعامل التجريبية ، أم أنه من الأفضل أن تكون مخصصة للأفراد الذين أصبحوا خبراء في حقولهم الفرعية ويقودون الابتكار أينما كانوا؟ أم من الأفضل أن تعمل هذه النماذج بالتوازي؟ وإذا تعاونت وزارة الدفاع مع جهات أو أفراد من خارجها (كالجامعات ومراكز الأبحاث) فهل نحن على استعداد لنتعرض للفشل، وإذا كان الأمر كذلك ، فما هو الفشل المقبول؟ وكانت هذه هي الأسئلة هي بداية المعالجة في عملية التحول وبناء أكبر بيئة ابتكارية للتكنولوجيا الدفاعية والمدنية في العالم تقريبا.
فكان التفكير أولا في استغلال الموارد المتاحة، فوجدوا أن الأبحاث العلمية في الجامعات والمراكز البحثية تراعاها الحكومة، وأن هذه الأبحاث لا فائدة منها إلا تعبئة عزم الدوران الفكري الأكاديمي لضمان استمرار منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، ومعظمها (ولا أقول جميعها) لا تفيد دعم القوات المسلحة وبناء منظومة دفاعية قوية، وأن الغالبية العظمى من الجامعات والمراكز البحثية تسعى للحصول على المنح البحثية الحكومية كدخل ولكسب الموارد لتمويل الجهة التي ينتمون لها. كما أن معظم الأبحاث تكون إما بحوثا في العلوم الأساسية أو بحوثا تكنولوجية لكن يصعب تطبيقها لأسباب عديدة، وحتى لو كانت تدعم أحد مجالات الأمن القومي أو الدفاع الوطني، تفقد قيمتها لأنها تنشر علنا حتى يضمن الباحث ترقيته!!!
إنهم وجدوا أن المنح التي تقدمها الحكومة لدعم البحث العلمي أصبحت تستخدم لدعم التقدم الوظيفي والأكاديمي فقط، وكان هذا بالنسبة لوزارة الدفاع الأمريكية أهدار للموارد، فكانت فكرة تركيز أن يكون هناك مشاريع بحثية ترعاها وزارة الدفاع في الجامعات والمراكز البحثية التي تستثمر الوقت والمجهود لضمان إن يكون مخرجات البحث العلمي لها علاقة بمتطلبات الدفاع والأمن القومي ولدعم الفرد المقاتل. وبالتالي تكون الفائدة من ذلك الربط ليس فقط الحصول على الابتكارات الداعمة للدفاع والأمن القومي ولأدوات حروب المستقبل، لكنها سوف تخلق جيلا من الأكاديميين والباحثين لديه فهما أكبر لما يبدو عليه مشهد التهديدات والتحديات المستقبلية.
أما التفكير الثاني كانت الاستحواذ على أحدث الابتكارات من القطاع التجاري المحلي، فقامت وزارة الدفاع بدعم وحدة الابتكارات الدفاعية التجريبية (DIUx) في أغسطس 2015، على أن ترفع تقارير عمل تلك الوحدة إلي مكتب وزير الدفاع مباشرة (دليل على أهميتها)، و قد كان الدور الرئيسي لهذه الوحدة هو لتسريع استخدام الابتكارات التجارية المحلية لحل مشاكل الأمن القومي و لدعم أنشطة وزارة الدفاع المختلفة، و أيضا إنشاء النظام البيئي لتعزيز الابتكار وتطوير التكنولوجيا في الدفاع، و إشراك الصناعات بما في ذلك المشاريع الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة والمبتكرين الأفراد ومعاهد البحث والتطوير والأوساط الأكاديمية لتطوير البحوث والأفكار التي لديها لاعتمادها في المستقبل لاحتياجات الدفاع. كما توفر الوحدة رأس المال للشركات الصغيرة والشركات الناشئة التي تعمل على تطبيقات التكنولوجيا المتقدمة ذات الصلة بأهداف البحث والتطوير طويلة المدى التابعة لوزارة الدفاع، وكذلك تسهيل التطور السريع للتكنولوجيات الجديدة المحلية، لتلبية احتياجات الدفاع والأمن القومي في أقصر وقت ممكن، وتمكين ثقافة الابتكار والبحث المشترك بين القطاع المدني والعسكري. ولدعم هذا كله نصت استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي لعام 2018 على أن مفتاح الأمن الوطني الأمريكي في المستقبل يكمن في امتلاك التكنولوجيا الحديثة وخلق الابتكارات خاصة في المجالات التالية: التقنيات الحديثة في الحوسبة المتقدمة، وتحليلات “البيانات الكبيرة”، والذكاء الاصطناعي، والتحكم الآلي، والروبوتات، والطاقة الموجهة، والتكنولوجيا الحيوية – وهي التقنيات التي تضمن القدرات والكفاءات على خوض حروب المستقبل وكسبها.
ما فعلته وزارة الدفاع الأمريكية يؤكد أنه لابد من وجود بدائل، وأنه على من يريد خلق بيئة داعمة للابتكار الوطني ألا يفكر بشكل تقليدي، بل عليه البحث عن بدائل عديدة حتى لا يفقد الفرص، وهذا يؤكد على ما قاله الرئيس الأمريكي السابق هنري كيسنجر: “إن غياب البدائل يمسح العقل بشكل رائع”.
قم بكتابة اول تعليق