العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري
تتخذ العمليات العسكرية عبر التاريخ أسماءً متعددة لتمييزها وتوثيقها وهذه التسميات لم تكن من قبيل الصدفة بل إنها ذات مغزى بعيد وتكون على الأغلب قد خضعت للعديد من المؤثرات والدراسات البحثية والنفسية بشكل يوطن المفهوم العام للكلمة في النفوس ويدفعها إلى أن تقبع في الذاكرة الجماعية للأفراد عبر الحامل اللغوي
بحيث يكون الهدف منها إستنهاض الهمم ورفع الروح المعنوية وذلك بالتذكير بتاريخ أمتهم وقادتها العظام وإثارة حماستهم ونخوتهم بما يدفعهم لتحقيق النصر عند المشاركة في العمليات وبالمقابل إثارة الهلع والخوف في نفوس القوات المعادية والمدنيين على حد السواء.
في الحقيقة لا توجد قواعد ثابتة ومحددة لتسمية العمليات العسكرية سواءً الفعلية منها أو التدريبية ولكن جرت العادة عند إتخاذ الأسماء البحث في الدلالات العميقة للكلمات التي تحملها تلك التسميات لما لها من أثر كبير في تأكيد إرادة القتال التي تعتبر مهمة لحسم الحرب بدرجة كبيرة علاوة على حسن إستخدام التعبية والخطط العسكرية لتحقيق ذلك وهذا يوصل لمستوى عال من الروح المعنوية التي تصنف بأنها مفتاح النجاح في العمليات العسكرية يكون لحسن إختيار الأسماء للعمليات العسكرية نصيب كبير في نجاحها أو فشلها إذ أنها تاريخياً ستذكر بأسمائها التي أختيرت لها وذلك للتفريق بينها أثناء وقوعها ودراستها والبحث فيها فيما بعد ولذلك كله أهمية كبيرة من حيث الدراسة والتوثيق .
يلاحظ أن التسميات كثيراً ما تتخذ تعابير وألفاظ دينية لإثارة المشاعر الدينية والميل نحوها بإعتبارها الأكثر عمقاً في النفوس لإستثارة المقاتلين وحثهم على بدل المزيد من الجهد ويذكر التاريخ العسكري أن إطلاق أسماء تحمل معاني مرتبطة بأحداث تاريخية عظيمة للأمة أو مناسبات دينية هامة يجعلها ذات أهمية بالنسبة للعمليات حيث ترتبط روحياً ونفسياً بأنماط سلوك المقاتلين بشكل مثير ما يجعلهم يندفعون لخوض غمار تلك العمليات بشجاعة تصل لحد التهور وهو ما يعتبر مؤشر لنجاح تلك العمليات .
وقد ترتبط التسميات أيضاً بالظواهر المناخية الطبيعية أو بأسماء حيوانات مفترسة أو أسلحة قديمة وقد تعود التسمية إلى طبيعة العملية المراد الدخول فيها فتسمي باسم مدينة او وادي او ميناء او مطار أو اي مرفق حيوي ويتوقف علي ذلك قوة الوحدات التي تنفذها والزمن الذي ستستغرقه العملية.
بقراءة متأنية للتاريخ العسكري نجد أن الحروب التاريخية قديماً سميت بأسماء الأماكن التي دارت فيها ” كغزوة بدر” أو بأسماء الحدث الذي كان سبباً في إندلاع شرارة الحرب “كحرب داحس والغبراء” و”حرب البسوس” ولم يتغير سياق التسميات حتى يومنا هذا بل أنها أخذت بعداً كبيراً وجديداً بإطلاق تسميات ملائمة لنوع العملية وإسمها بحيث تكون مرتبطة إرتباطاً مباشراً بالهدف والغاية المرجوة من تلك العمليات “كالحرب العالمية الاولي والثانية وتختلف التسميات أيضاً حسب الأصول العرقية والإثنية فالعرب عموماً يختارون لعملياتهم وتدريباتهم بعض أسماء الأشهر العربية والأحداث التاريخية المتميزة مثل معارك الجهاد الإسلامي أو المعارك الوطنية ضد المستعمر أو أسماء المدن المقدسة التي لها مكانة في النفوس أو أسماء بعض المدن التاريخية ، وقد تكون التسمية كلمة مستمدة من آيات القرآن الكريم المباركة ويستخدمون لعملياتهم أيضاً أسماء بعض الطيور الجارحة التي تعكس مدى قوتها مثل إسم “شاهين” و “صقر”.
وفي بعض الأحيان تكون التسمية إحياءً لذكري شخصية عربية أو محلية لها طابع خاص وتحمل دلالة كبيرة بما تثيره من مشاعر جياشة تدفع لرفع المعنويات وتقويتها.
ونجد كذلك الإيرانيون يختارون لتسمية عملياتهم الأسماء ذات الدلالة الدينية العميقة لمخاطبة مشاعر جنودهم وحثهم على القتال حتى النصر أو الشهادة كمناورات ” بيت المقدس” و “الرسول الأعظم” و ” رمضان مبارك” وغيرها لما لها من أثر عظيم ومقدس في نفوسهم , بينما يختار الأمريكان الأسماء التي تعكس أمانيهم في السيطرة والقضاء على خصومهم بسرعة وحسم وهي عادة تمثل وجهة النظر الأمريكية بشأن الأحداث ويلاحظ ان تسمياتهم عادة ما تتكون من كلمتين كما حدث في عام 1991م بعد الغزو العراقي للكويت حيث سميت عملية إنتشار القوات بإسم “درع الصحراء” وأطلق علي العمليات العسكرية التي شنتها القوات الأمريكية وحلفاؤها وأستهدفت القوات العراقية لإخراجها من الكويت إسم عملية “عاصفة الصحراء” وهي العملية الكبيرة التي بدأت بحرب جوية لم يسبق لها مثيل في الحروب الحديثة ثم سمي الهجوم البري الذي أستهدف الكويت وجنوب العراق “وحش الصحراء” وأيضاً عمليات حلف الناتو في ليبيا 2011م والتي سميت “فجر أوديسا” وتصنف بأنها من أكبر وأقوي عمليات الحلف الجوية ويجذر القول بان وزارة الدفاع الامريكية تحرص كثيراً على أن يكون إسم العمليات مقبولاً في سائر اللغات وألا يتسبب فى مشاكل عند ترجمته للغة البلد الذي ستجري فيه تلك العمليات لما لذلك من اهمية في سير العمليات .
ويستخدم الأمريكان أيضاً أسماءاً مستعارة من كلمة واحدة للعمليات التي يلجأون إليها داخل العملية الأكبر وعادة ما تكون هذه أكثر وضوحاً مثل عملية “أناكودا” في أفغانستان وعملية “كوبرا” التي وجهت ضد المقاتلين العراقيين في منطقة الفرات كجزء من عملية “تحرير العراق” والتي لم تكن إلا وبالاً على العراق وأهلها والمنطقة بأسرها ويلاحظ أن الإعلام الأمريكي أختار لها إسم مواب وهذه الكلمة وردت في التوراة والعهد القديم كاسم لأقليم كبير يقع إلى الشرق من البحر الميت.
ويطلق البريطانيون أسماءاً عشوائية لعملياتهم مع أنهم يقدرون كثيراً أهمية التسمية بخلاف الكثيرين ممن لا يلقون لذلك بالاً حيث نجد بأنهم خصصوا مكتباً في وزارة الدفاع البريطانية لتقديم المقترحات حول تسمية عملياتهم يتم الإختيار بينها لاحقاً بما يحقق الهدف من العملية وبما يوافق النواحي المتعددة التي تهمهم وعادة ما يكون الإسم المكون من كلمتين يستخدم في التدريبات والمناورات مثل مناورات “السيف السريع” التي أجرتها مع سلطنة عمان بينما الإسم الذي يطلق على الحركات الفعلية يكون من إسم واحد فقط وكمثال علي ذلك أستخدم البريطانيون خلال العملية العسكرية ضد العراق في عام 2003م إسم “تيليك” وتيليك هذه ليست مكاناً معيناً بل هي صفة في اللغة الإنجليزية وهي مستمدة من كلمة تيلكوس الأغريقية التي تعني الغاية وهذا يدل على أنها كانت موجهة لغاية معينة ضمنياً وقد يتفق الأميركيين والبريطانيين على إختيار إسم واحد بحكم كونهم يتحدثون لغة واحدة فقد أطلق على عمليات الإنزال البحري خلال الحرب العالمية الثانية أسماء”ضوء شمال أفريقيا” فيما أطلق أسماء”سيسيلي” و”اوفرلورد” على الإنزال الأرضي في نورماندي.
وتتفرد القيادات الروسية بأختار أسماء الكواكب الشمسية لعمليات قواتهم وخاصة خلال أحداث الحرب العالمية الثانية فقد أطلق على عملية الهجوم المضاد في ستالينغراد في عام 1942م إسم”أورانوس” ثم إسم “زحل” على الهجوم المضاد التالي وأطلق إسم “المريخ” آلهة الحرب عند الرومان على عملياتهم خلال الحرب العالمية .
اسرائيل أيضا تفننت في تسمية عملياتها في حرب غزة صيف 2007 حيث استبدلت اسم عمليتها العسكرية 4 مرات ( القتال من بيت الى بيت – تدفيع الثمن – الشتاء الساخن – خلع الضرس ) بما يوافق غاياتها.
ودخلت المقاومة الفلسطينية ساحة تسمية العمليات وبرعوا في ذلك باختيار أسماء لامعة وبراقة لعمليات المقاومة ومنها إطلاق كتائب عز الدين القسام اسم “بقعة الزيت”على موجة إطلاق الصواريخ في شهر ديسمبر 2008م وقيام ألوية الناصر صلاح الدين بإطلاق اسم “خيوط الموت” على صواريخها الضاربة وذلك رداً على عمليات العصابات الصهيونية.
مؤخراً أعلن الجيش الإسرائيلي إطلاق عملية عسكرية على غزة تحت اسم “حارس الأسوار”، توعدت كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس) إسرائيل برد مؤلم يفوق توقعاتها إذا أقدمت على قصف منشآت مدنية أو منازل في غزة وهكذا لازلنا نشهد ردود فعل من زخات الصواريخ الفلسطينية تنهمر على رؤوس المحتلين ما جعل معادلة القوى تشهد إختلالاً لا يرغب الصهاينة حدوثه خاصة وأن ذلك أثر على معنوياتهم وحركتهم وجعل لصواريخ حماس كلمة قوية في الميدان.
وتبقى تسمية العمليات العسكرية إجراء عسكرياً تقليديا تتزايد أهميته لتسهيل الإشارة إلى العملية في الوثائق الرسمية والميزانية المخصصة لتنفيذها وكذلك في توزيع الميداليات التذكارية على المشاركين وتكريمهم مع ملاحظة أن حق منح الإسم يكون عادة من إختصاص أعلي سلطة ادارية او تنفيذية عسكرية تتابع سير التدريبات والتمارين العمليات وكذلك العمليات العسكرية علي مستوي الجيش او الدولة.
وفي العموم ومن خلال المتابعة والبحث في معاني ومدلولات تسمية العمليات العسكرية في كل اللغات نخلص إلى أنها كانت عبارات قوية منتقاة بعناية لتعكس المعنى الحقيقي للأهداف التي يراد لها أن تحققها مع تأثيرها على المتلقي نفسيا وجعله في حالة فزع وقلق وخوف مع مراعاة أن التسميات تعكس دائماً مدى ثقافة مختاريها وخلفيتهم السياسية والتاريخية والاجتماعية.
قم بكتابة اول تعليق