ا.د. غادة محمد عامر
عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
زميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا
في عام 2016م أعلنت وكالة مشاريع البحوث المتقدمة “داربا” التابعة إلى وازرة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أنها تطور برنامجاً يهدف إلى تدشين رقاقة تُزرع في أدمغة الجنود لتتيح لهم التحكم في الأجهزة والآلات عن طريق عقولهم. وبحسب موقع “ذي نيكست ويب” أن الوكالة ذكرت في تقريرها إنها تطمح إلى توظيف أبحاثها في مجال علم الأعصاب وزراعة الرقائق في أدمغة البشر في المناحي العسكرية مثل تحكم الجنود في الأجهزة والآلات مباشرة عن طريق أدمغتهم. أيضا أفادت أن هذا المشروع يهدف إلى تنمية قدرات ذكاء العقل البشري لتتلاشى أية فروق بين الإنسان والآلة. وأوضح الباحثون في وكالة “داربا” التابعة للبنتاغون أن الرقاقة المزروعة في المخ تتيح التعامل مباشرة مع شبكة الإنترنت والدخول إلى محركات البحث والوصول إلى جميع المعلومات، وأي نوع من التواصل المباشر بين الدماغ البشري والعالم الرقمي. كذلك أفادوا أن الرقاقة البالغ حجمها 1 سنتمتر مكعب سوف تزرع في المخ لتحقيق اتصال في الوقت الحقيقي بين الدماغ وجهاز الحاسوب عن طريق رمز ثنائي.
لقد سبق هذا الإعلان إعلان اخر لنفس الوكالة “داربا عن مشروع مشابه ” عام 2009م يسمى “التحدث الصامت” “Silent Talk” وقد وُضع للوكالة لتنفيذ هذا المشروع في ذلك العام ميزانية تقدر بأربعة ملايين دولار، وكان الهدف من المشروع هو السماح بالاتصال بين الجنود في ساحة المعركة دون استخدام الكلام اللفظي من خلال تحليل الإشارات العصبية. وقبل هذا التاريخ مول البنتاغون مشاريع أخرى في “داربا” لعمل تقنيات التنصت على العقل وقراءة أفكاره، ولديهم بالفعل قرود أصبح الباحثين في “داربا” قادرين على قراءة أدمغتهم. قد يكون للتخاطر أيضًا مزايا تتجاوز الأحاديث السرية في ساحة المعركة، ففي عام 2015م أصدر المجلس القومي للبحوث ووكالة استخبارات الدفاع تقريرًا يشير إلى أن “تكنولوجيا قراءة الادمغة والتخاطر قد تكون مفيدة ليس فقط في للانصياع لأفكار القائد التي تنقل عن بعد، ولكن أيضًا لجعل العدو يطيع الأوامر عن بعد “!
لقد قامت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة “داربا” منذ مدة باختبار الخوذات التي تسمح “بالحديث عن طريق التخاطر”، وذلك عن طريق قراءة الموجات الدماغية للمستخدم وتحويلها إلى بيانات قابلة للنقل، هذه البيانات سوف يتلقاها نظام المستلم ويترجمها إلى إشارات مسموعة أو مرئية في سماعة رأس المستلم. وفي عام 2018م أعلنت “داربا” أن فردًا مجهزًا بواجهة تجريبية بين الدماغ والحاسوب قد نجح في التحكم -عن طريق عقله- في سرب من ثلاثة أنواع مختلفة من الطائرات في وقت واحد خلال عملية محاكاه. وهذا معناه أنه يمكن أن يؤدي هذا النوع من التكنولوجيا إلى تمكين الطيارين المقاتلين من التحكم في طائرتهم بدون طيار المجهزة بالذكاء الاصطناعي بسلاسة من خلال التفكير، وهذا يمكن تطبيقه في برامج عديدة مثل برنامج “سكاي بورج” “Skyborg” (أحد برامج القوات الجوية الأمريكية Vanguard لتطوير مركبات جوية قتالية بدون طيار مخصصة لمرافقة طائرة مقاتلة مأهولة)، أو برنامج”Boeing’s Loyal Wingman” (هذا البرنامج معروف أيضا باسم Boeing Air Teaming System (ATS) هو عبارة عن مركبة جوية خفية ومتعددة المهام وغير مأهولة طورتها شركة Boeing Australia لسلاح الجو الملكي الأسترالي ، وتم تصميمها كطائرة مضاعفة للقوة قادرة على الطيران جنبًا إلى جنب مع الطائرات المأهولة من أجل دعم وتنفيذ المهام المستقلة بشكل مستقل باستخدام الذكاء الاصطناعي). هذا معناه إنه في المستقبل يمكن الاستفادة من نفس التقنية لمنصات الطائرات بدون طيار والمنصات الجوية والبحرية والأرضية شبه المستقلة الأخرى مما يسمح لمقاتلين الحربيين بجلب تعزيزاتهم الثقيلة معهم، أو حتى للتحكم في الهياكل الخارجية الروبوتية التي يرتدونها في القتال.
إن ما تقوم به الوحدة “داربا” من أبحاث يجدها البعض (خاصة في منطقتنا العربية) إنها درب من الخيال، نجحت بسبب إن هذه الوكالة أنشئت في الأساس لدعم هذا النوع من البحوث (الخيالية)، فقد أعلن الرئيس “أيزنهاور” في خطابه عن حالة الاتحاد لعام 1958م عن أهمية مثل هذا النوع من البحوث حيث قال “أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون استشرافية في أبحاثها لكي نتوقع أسلحة المستقبل غير المتخيلة”. بعد بضعة أسابيع من هذا الخطاب أنشأت إدارته “وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة” “أربا” “ARPA “، وهي هيئة بيروقراطية مستقلة تقدم تقاريرها إلى وزير الدفاع. كان الاختصاص الأصلي للوكالة هو تسريع دخول أمريكا إلى الفضاء وكان الدافع وراء هذه الخطوة هو الإطلاق السوفيتي للقمر الصناعي سبوتنيك.
وبعد انشاء الوحدة “أربا” بسنوات قليلة، نمت مهمة الوحدة “أربا” لتشمل البحث في “التعايش بين الإنسان والحاسوب” وبرنامج سري للتجارب في التحكم بالعقل والذي أطلق عليه اسم مشروع “Pandora”. كانت هناك جهود غريبة تضمنت محاولة تحريك الأشياء عن بعد عن طريق التفكير وحده. في عام 1972م مع زيادة الصراحة، تمت إضافة كلمة الدفاع إلى الاسم، وأصبحت الوكالة “داربا” DARPA بدلا عن “أربا” ARPA. لمتابعة مهمتها، مولت “داربا” الباحثين -عن طريق تمويلات البنتاغون- الذين ساعدوا في ابتكار تقنيات غيرت طبيعة للأمور العسكرية مثل الطائرات الشبحية، والطائرات بدون طيار وشكلت الحياة اليومية للمليارات عن طريق تقنيات مثل: تقنية التعرف على الصوت، أجهزة GPS والانترنت الذي كان أشهر تلك الابتكارات.
لقد تبنت “داربا” لعقود فكرة الدمج بين البشر والآلات. وقبل بضع سنوات عندما أصبح احتمال الأسلحة التي يتحكم فيها العقل مسؤولية “داربا”، خرج المسؤولون بكل براعة وأعادوا صياغة الغرض المعلن من أبحاثهم في مجال تكنولوجيا التحكم وقراءة العقل، للتركيز ظاهريًا على الهدف الضيق المتمثل في شفاء المصابين في الدماغ وعلاج الأمراض. وزعم مسؤولو الوكالة أن العمل لم يكن عمل الأسلحة أو لأي أمور عسكرية، بل أن كل هذه المشاريع تتعلق بالعلاج والرعاية الصحية (ومن يمكنه الاعتراض؟) ولكن، حتى لو كان هذا الادعاء صحيحًا، فإن مثل هذه التغييرات سيكون لها آثار أخلاقية واجتماعية وميتافيزيقية واسعة النطاق. وأنا اعتقادي أنه في غضون عقود، يمكن أن تسبب التكنولوجيا التحكم في العقول والتخاطر اضطرابًا اجتماعيًا على نطاق واسع!
الأستاذ الدكتور غادة عامر هي عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وزميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا، سفير تقني لوكالة الفضاء المصرية 2022 – 2024، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للعلوم والتكنولوجيا ونائب رئيس المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا. شغلت عددًا من المناصب الاخرى، مثل وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث بجامعة بنها مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في اكاديمية البحث العلمي – مصر، ومدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في جامعة بنها ، والرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمختبر الابتكار ASTF ، والرئيس السابق لقسم الهندسة الكهربائية بجامعة بنها والمدير التنفيذي للأوقاف العالمية. كما اختيرت لتكون ضمن أحد أعضاء لجنة تحكيم جوائز” رولكس” للابتكار بسويسرا.
تم الاعتراف بجهودها دوليًا اختيرت من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات التعليم الهندسي IFEES ومجلس عمداء الهندسة العالمي GEDC في الولايات المتحدة الأمريكية، كأحد أفضل القصص الملهمة للمرأة في مجال الهندسة والتكنولوجيا في أفريقيا.
قم بكتابة اول تعليق