داليا زيادة
يعيد الاضطراب السياسي الأخير في كازاخستان طرح السؤال الشائك حول قدرة القوة العسكرية على حسم نتيجة التمرد الشعبي ضد النظام السياسي. إلا أن حالة كازاخستان، بشكل خاص، تضيف زاوية أعمق تزيد من تعقيد هذا السؤال المهم، وهو البحث في المشروعية الأخلاقية والمبررات السياسية التي تسمح للنظام السياسي باستيراد قوة عسكرية أجنبية لقمع احتجاجات محلية يقودها مدنيون.
في الرابع من يناير، عندما تدفق آلاف المواطنين إلى شوارع المدن الرئيسية في كازاخستان للاحتجاج على ارتفاع أسعار الوقود، لجأ رئيس الدولة، قاسم جومارت توكاييف، على الفور، إلى استخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات. ولم يخجل من إصدار أوامر علنية لقواته الأمنية بـ “إطلاق النار بهدف القتل دون سابق إنذار” على المتظاهرين، في خطوة تم انتقادها في الغرب على نطاق واسع. ولكن، حسبما أثبتت تجربة الربيع العربي، فإن استخدام توكاييف للعنف كوسيلة لقمع التظاهرات قد أدى إلى نتائج عكسية، وبدلاً من قمع التمرد المدني، زاد عدد المتظاهرين وحجم ونطاق الاحتجاجات.
ثم في السابع من يناير، بعدما وجد نفسه عالقاً في ركن ضيق، دعا توكاييف الجيش الروسي إلى التدخل لإنقاذ نظامه، من خلال تفعيل معاهدة منظمة الأمن الجماعي، والتي تُعد بمثابة “حلف الناتو” الخاص بروسيا وحلفاءها الإقليميين في منطقة وسط أسيا. إذ تسمح المادة الرابعة من المعاهدة “بإرسال قوات عسكرية لمساعدة دولة عضو على مواجهة قوة خارجية تهدد أراضيها أو سيادتها”. لهذا الغرض، برر توكاييف طلبه الصادم بتدخل القوات الروسية، عبر الادعاء بأن الاحتجاجات ينظمها “إرهابيون تدربوا في دول أجنبية” بهدف زعزعة أمن واستقرار بلاده.
على الفور، استجابت روسيا لطلب توكاييف، وقامت بتعبئة أكثر من ألفين عسكري، و٢٥٠ معدة عسكرية، ونشرها في كازخستان، تحت قيادة القائد العسكري، نفسه، الذي سبق وقاد العمليات الروسية في كل من سوريا وأوكرانيا. في غضون أيام قليلة، نجحت قوات التحالف التي تقودها روسيا في قمع الاحتجاجات وتثبيت مقعد توكاييف. وفق تصريحات رسمية للحكومة الكازاخستانية، قتل ١٦٤ مواطن وجرح أكثر من ثمانية آلاف في غضون تلك الأحداث التي لم تستغرق أكثر من أسبوع واحد.
في الواقع، هذه ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها روسيا عسكرياً في كازاخستان لقمع الاحتجاجات المحلية، حيث يحكي التاريخ عن اعتداء روسي عنيف مماثل على مواطني كازاخستان، تحت أعين وآذان الحكومة الكازاخستانية، في ديسمبر ١٩٨٦، عندما قاد الطلاب المتعصبين للقومية الكازاخية مسيرات “جيلتوكسان” للاحتجاج على تعيين جينادي كولبين، الموالي لروسيا، كزعيم للجمهورية. وبحسب تقديرات رسمية صدرت لاحقًا، أدى القمع الروسي للاحتجاجات وقتها إلى مقتل نحو مائتين مدني وإصابة أكثر من ألف مواطن كازاخستاني.
الغريب هنا، أن روسيا لم تسارع إلى حشد قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي للتدخل في أحداث عسكرية أكثر خطورة وتعقيدًا في آسيا الوسطى، بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع الاضطرابات السياسية الداخلية في كازاخستان. أقرب مثالين على هذه الأحداث، هي الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في عام ٢٠٢٠، والصراع الحدودي بين قيرغيزستان وطاجيكستان في عام ٢٠٢١. هذا ربما لأنه، على عكس الدول الأخرى الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، فإن كازاخستان تمثل العمق الاستراتيجي الجنوبي للأمن القومي الروسي؛ ليس فقط لأن روسيا تشترك في الجزء الأكبر من حدودها الجنوبية مع كازاخستان، ولكن أيضًا لأن الاضطرابات السياسية الأخيرة في داخل كازاخستان قد حدثت في وقت تشعر فيه روسيا بقلق بالغ بسبب فقدان نفوذها الجيوسياسي على دول آسيا الوسطى، بينما يسعى أكبر اللاعبين على الساحة الدولية والإقليمية إلى فرض نفوذهم العسكري والاقتصادي على تلك المنطقة الغنية بالثورات النفطية والمعدنية.
في السنوات القليلة الماضية، ارتفعت استثمارات الصين المباشرة في قطاع الطاقة في دول آسيا الوسطى إلى عشرات المليارات، خاصة في اقتصاد كازاخستان، جارة الصين المباشرة على الحدود الغربية. في غضون ذلك، تقوم الولايات المتحدة، منذ انسحابها من فوضى أفغانستان، بحشد قوات الناتو للدفاع عن أوكرانيا ضد تهديدات روسيا. بالتوازي مع ذلك، قامت تركيا، التي تقود “منظمة الدول التركية” التي تشمل بطبيعة الحال أغلب دول آسيا الوسطى، بمساعدة أذربيجان، في عام ٢٠٢٠، على الفوز في حربها التاريخية مع أرمينيا ضد إرادة روسيا، كما أن تركيا بحكم كونها حليف في الناتو، تقف حاليًا إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا.
في ضوء كل تلك الأحداث السياسية والعسكرية المتسارعة والمتصارعة في منطقة وسط آسيا، فإن التدخل العسكري الروسي في كازاخستان، الأسبوع الماضي، يحمل أهمية أكبر بكثير من مجرد حماية نظام توكاييف من الانهيار أمام الاحتجاجات الشعبية العارمة أو حتى تقوية موقفه في مواجهة الدولة العميقة التي يقودها الديكتاتور السابق نور سلطان نزارباييف. إن تعبئة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، تحت قيادة الجيش الروسي، في هذا التوقيت الحرج بالنسبة للمنطقة، هو بمثابة إنذار عملي تطلقه روسيا لردع المنافسين الجيوسياسيين عن محاولة اقتحام عرينها.
قم بكتابة اول تعليق