علي الهاشم – باحث ومختص كويتي بمجال الدفاع والطيران والأنظمة الدفاعية
لكن، حادثة أخرى غيرت تلك التكتيكات فما هي ؟
شكلت الخمسينيات مرحلة تفوق أمريكي ما لبث أن اضمحل، فقد كانت الإدارة الأمريكية قد وافقت على دعم عدة مشاريع، خصوصًا تلك التي تتعلق بالقاذفات الأسرع من الصوت. فعلى سبيل المثال، كان هناك مشروع القاذفة الثورية XB-70 فالكيري ذات القدرة على الطيران بارتفاع شاهق وبثلاثة أضعاف سرعة الصوت.
أما من ناحية التجسس والاستطلاع قبل أن توكل تلك المهمة إلى الأقمار الصناعية، فقد كان مشروع طائرة التجسس السرية U-2 التي تشغلها المخابرات الأميركية المركزية CIA، تصول وتجول فوق الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن يملك قدرة على منعها. ولكن ذلك لم يدم طويلا، ففي منتصف العام 1960، وحينما كانت إحدى تلك الطائرات في مهمة استطلاع وتجسس فوق الاتحاد السوفياتي يقودها الطيار فرانسيس “غاري باورز” تعرّضت لثلاثة صواريخ من طراز “دفينا سام – 2” (S-75)، فانفجر أحدها بالقرب من الطائرة الهشة لتسقط الطّائرة ويتم أسر الطّيّار.
هنا ظهر تصدع كبير في الإدارة الأمريكية، التي لم تكد وقتها تتقبّل تفوّق السوفيات عليها بإطلاق أول قمر صناعي “سبوتنيك”، حتى بدا أنّ عنصرَي السرعة والتحليق الشاهق لم يكونا كافيين لضمان عنصر التفوق للولايات المتحدة على السوفيات، الذين باتوا يمتلكون ترسانة نووية متنوعة من أسلحة الهلاك.
بعد حادثة إسقاط طائرة التجسس U-2، و بروز خطر صواريخ سام المضادة للطائرات وخصوصًا على علو شاهق، وجدت قيادة سلاح الجو الأمريكي و الطيران الاستراتيجي المتفرع منها نفسها في وضع حجر خصوصًا وأنها بصدد حيازة قاذفة جديدة قيد التطوير هي “XB-70 فالكيري”، التي يفترض أنها ستحلق على علو شاهق، وبثلاثة أضعاف سرعة الصوت، ممّا جعل الولايات المتّحدة الأمريكيّة تعتقد أنّها منيعة عن الإسقاط بواسطة المقاتلات السوفياتية الاعتراضية وصواريخ “سام” ولكنّ الأمور انقلبت رأسًا على عقب.
في المقابل، كانت هناك عملية تسليم تقوم بها شركة “كونفير للصناعات الجوية”، التي اشترتها فيما بعد شركة جنرال ديناميكس، لقاذفة B-58 هاسلر النّووية والتي تبلغ سرعتها ضعف سرعة الصوت في العام نفسه أي 1960. أما ما يميز هذه القاذفة، هو بدنها النحيف وحمولتها الكبيرة ومخزن أسلحتها المتنوع الذي يمكن له حمل قنابل نووية إلى جانب معدات تصوير للاستطلاع الجوي والمسح. ويمكن قذف هذا المخزن المركب أسفل بدنها والانطلاق بسرعة عالية مما يساهم في مرونة القاذفة B-58 و سرعة تفلّتها من الاعتراض.
كل ذلك ساهم في جعلها قادرة على الطيران على ارتفاع بالغ الانخفاض بين التضاريس، حيث تدفعها محركاتها النفاثة الأربعة المثبتة على جناحها الكبير الذي يشبه الدلتا بسلاسة منقطعة النظير. أما الأهم فهو أنّ نظام رادارات الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، ولعقود من الزمن، لم تكن قادرة على رصد أي هدف يحلق على ارتفاع أقل من عدة آلاف من الأقدام، مما يعني أن قاذفة B-58 لا يمكن رؤيتها ولا رصدها ولا حتى توجيه مقاتلات لاعتراضها على ارتفاعها المنخفض ذاك. وعليه، تُعتبر الهاسلر B-58 نظريا خفية عن الكشف.
لكن، ولكثرة الاعطال والحوادث المميتة لهذه القاذفة، لم يلتفت لها صناع القرار بقيادة سلاح الجو الأمريكي من ناحية قدرة الاختراق العميق على ارتفاع منخفض، الأمر ما ستتمتع به قاذفة B-1B بعد عقدين من الزمن.
قصور الصواريخ العابرة للقارات
اقترح أحد الخبراء في قيادة الطيران الاستراتيجي SAC الأمريكية، التحول فقط للصواريخ العابرة للقارات والتخلي عن قوة القاذفات نهائياً. وفي حقيقة الأمر، تعتمد الصواريخ البالستية العابرة للقارات على أمرين هامين:
أوّلاً، الحاجة إلى خرائط لاختلاف جاذبية الأرض من موقع لآخر جغرافيا.
ثانيًا، الحاجة إلى معلومات دقيقة عن الموقع المراد ضربه.
لذا، وبعكس الصواريخ البالستية، فإن الطاقم الذي على متن القاذفات يمكنه باستمرار تتبع العاملين الهامين وتحديث البيانات أثناء التحليق باستمرار، مما يزيد من دقّة عملية الوصول إلى الهدف و ضربه بشكلٍ أكبر من دقّة الصواريخ البالستية مهما كانت.
كما أن معطيات القاذفة B-58؛ من قدرتها على اختراق الأجواء السوفياتية، والتوغل داخل عمقها الاستراتيجين يمنحها فرصًا كبيرة في تحقيق عنصر المفاجأة، وإمكانية أكبر على إحباط قدرات العدو.
ومن أجل ذلك ولدت فكرة القاذفة B-1
قاذفة مع وقف التنفيذ!
بعد إلغاء مشروع القاذفة العملاقة فائقة السرعة B-70، كانت للشركة الصانعة آنذاك “North American Aviation” خطة لإنتاج نموذج آخر من القاذفات يعتمد على مبدأ الجناح متغير الزاوية او variable geometry wing، أو ما يدعى الجناح القابل للإمالة Swing wing بدلاً من الجناح دلتا.
اغتنمت الولايات المتحدة الأمريكية هذه المعرفة عن الجناح المتغير الزاوية من ألمانيا النازية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، حيث نقلت القوات هناك نموذجًا لطائرة اختبارية ألمانية هي Messerchmitt P.1101، وكانت حينها نموذجًا ليس له مثيل وسابقًا لعهده. قامت شركة Bell Aircraft بنسخها بنموذج أطلق عليه اسم X-5 وتمت دراسة جدوى هذه التكنولوجيا الجديدة، فأرتأت North American Aviation، التي أصبح اسمها فيما بعد “روكويل انترناشونال”، تطبيق هذه التكنولوجيا على نموذج القاذفة الاستراتيجية الجديدة والتي حملت اسم B-1. وكانت شركة “جنرال ديناميكس” قد طبقت هذه التكنولوجيا أوّلاً على القاذفة التكتيكية F-111، ونجح المشروع. فطورت بعدها F-14 مع B-1A كنماذج حديثة للدخول في الخدمة الفعلية بعد ذلك.
تم الانتهاء من النموذج الأول لقاذفة B-1A، وعُرضت على المسؤولين في 1974، وبررت الشّركة المنتجة إنتاجها بسد ما كان يعرف بفجوة الصواريخ البالستية ما بين الاتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة.
بعد أن عُرِض أول نموذج لقاذفة B-1A عام 1974، لم تمض مدة طويلة حتّى تقلد الرئيس “جيمي كارتر” السلطة للفترة الممتدة ما بين 1977 و1981، وقد عُرف عنه إلغاء العديد من المشاريع العسكرية الكبيرة والهامة ومن بينها مشروع القاذفة B-1A مُعلّلاً بأنها باهظة التكاليف و مضيعة للوقت خصوصًا وأن الغرضمنها في البداية كان القصف على ارتفاع عالي و حمل صواريخ جوالة يمكن لقاذفة B-52 حملها والقيام بالمهمة نفسها من دون أي تكلفة تذكر. لكنه كان في حقيقة الأمر يخفي أمرًا هامًّا ومشروعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية يضمن للولايات المتحدة التفوق العسكريّ لأجيال، وهو ما حدث بالفعل. فقد كان “كارتر” قد اطلع على مشروع ما بات يعرف بالقاذفة الاستراتيجية الخفية “ستيلث” وهي ما ترجمت الى طائرة B-2A، لذا قام “كارتر” بخداع السوفيات وإيهامهم بأنه قد تخلى عن مشروع B-1A في مقابل الدخول في مفاوضات الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل SALT، التي كانت دائرة بين موسكو و واشنطن. ولكنه في الوقت نفسه كان يخطّط لتطوير طائرة لا يمكن للسوفيات ردعها مهما أوتوا من قوة. هذا وقد قامت وزارة الدفاع الأمريكية بدارسة بينت أنه، ووصولا للعام 1995، لن تتمكن القاذفات ولا الصواريخ الجوالة الأمريكية من اختراق دفاعات الاتحاد السوفياتي بتاتًا، الا من خلال تكنولوجيا “ستيلث” القادرة وحدها على تشكيل معضلة مريعة للسوفيات، الأمر الذي تحقق على أرض الواقع.
يتبع
