العقيد الركن م. ظافر مراد
لا يمكن لعملية إستهداف الكرملين إلا أن تكون خطة مدروسة تم التحضير لها بشكلٍ دقيق، آخذةً بعين الإعتبار المكان والزمان بعناية فائقة، وقبل معرفة نتائج التحقيقات ونقطة إنطلاق الطائرتين المسيرتين ونوعهما، وبعيداً عن الأقاويل والتحليلات التي نشطت، لا يمكن أن تكون روسيا هي المنفذة لهذه الضربة، وذلك لعدة أسباب، السبب الأول يتمثل بتوقيتها الحساس قبل إسبوع من إحتفالات عيد النصر على النازية في 9 أيار، والسبب الثاني هو النكسة المعنوية التي تسببت بها هذه الضربة للقيادة العسكرية الروسية، خاصة تلك المسؤولة عن منظومات المراقبة والدفاع الجوي، أما السبب الثالث والأهم هو المس بالهيبة الروسية في عهد بوتين، والتي ضُربت في الصميم جراء هذا الإستهداف المباشر.
لا شك أن الوضع العسكري القائم على جبهات القتال في أوكرانيا بين القوات الروسية وحلفائها من جهة والقوات الأوكرانية من جهةٍ أخرى، لم يعجب بعض النافذين والمتدخلين في مسار الحرب، فهذا الستاتيكو الذي يتمثل بإقتصار المواجهات على منطقة باخموت، والتي طالت مدتها، يُعطي وقتاً للقوات الروسية لرفع قدرات جيشها في مجال التنظيم والتدريب والتسليح، فمصانع الأسلحة الروسية تعمل على قدمٍ وساق، وهي تنتج كيات ضخمة جداً من الأسلحة والصواريخ والذخائر، وما يجري حالياً في الحقيقة هو عبارة عن تحضير الجيش الروسي ليخوض معارك كبيرة مع قوات حلف الناتو ولو بشكلٍ غير مباشر، ويُلاحظ المراقبون العسكريون أن الجيش الروسي لم يزج بقدراته العسكرية الحديثة والمتطورة لغاية الآن، خاصةً بالنسبة للقوات المدرعة وسلاح الطيران، فهو ما يزال يخفي الكثير للمعركة الكبرى.
يتم الحديث منذ فترة عن الهجوم الأوكراني المضاد والمرتقب لتحرير الأراضي الأوكرانية التي إحتلتها روسيا، ويشمل ذلك شبه جزيرة القرم، علماً أن عدد الجنود الروس على الأراضي الأوكرانية يبلغ حوالي 320 الف جندي، مقابل ما يزيد عن 800 ألف جندي أوكراني يتحضرون لهذا الهجوم، وعلى الرغم من التفوق الأوكراني بالعديد، إلا أن هذا الهجوم لا يمكن أن ينجح دون تدخل كبير وربما مباشر من حلف الناتو، فهجوم من هذا النوع يتطلب تفوق جوي مترافق مع هجمات سيبرانية وحرب إلكترونية فائقة التركيز والفعالية، وهذا لا يتوافر عند الجيش الأوكراني، كما أن إتِّساع الجبهات وتعددها يفرض مزيداً من التركيز في زج القوى وتأمين الدعم الناري اللازم لها أثناء عمليات المهاجمة.
إنَّ إحتمال توسُّع الصراع كبيرٌ جداً بل يكاد يكون محسوماً، ويخطيء من يظن أن المواجهات ستبقى محصورة في نطاقها الحالي الضيق، وقد تشمل الحرب أراضي بيلاروسيا وبولندا واليونان، وقد تحدث مواجهات بحرية بعيدأ عن منطقة الصراع، أما المسرح الأكثر ضراوة في المواجهات إن حدثت، فستكون في شبه جزيرة القرم والبحر الأسود، أما أطراف الصراع فهم غير محددين لغاية الآن، ولكن ما هو مؤكد أن الولايات المتحدة بإدارتها الحالية، مصرَّة على إيقاع هزيمة كبرى بروسيا، مهما كلف ذلك الأوكرانيين والأوروبيين.
لم يحن الوقت بعد لرفع مستوى المواجهة إلى درجة الحرب الشاملة، فهناك عدة إستحقاقات مؤثرة يجب إنتظار نتائجها، وأبرز هذه الإستحقاقات الإنتخابات الرئاسية التركية القادمة، حيث أن تغيير الرئيس وإستبدال “أردوغان” المعتدل والحذر في تعاطيه مع الصراع الروسي-الأوكراني، بآخر أشد حماساً وولاءً للغرب، سيغيِّر المشهد العسكري بالكامل، وسيجعل من تركيا التي تملك أكبر ساحل على البحر الأسود، دولةً معاديةً لروسيا، حيث ستأخذ على عاتقها موقف متقدم في هذه الحرب، تستطيع من خلاله تضييق الخناق على روسيا وتقديم الكثير من الدعم لأوكرانيا.
يُدرك الجميع أن البحر الأسود يمثل بوابة روسيا الإستراتيجية نحو العالم، وإن فقدانها السيطرة على هذا البحر، سيجعلها دولة محدودة التأثير وغير قادرة على فرض إرادتها على الآخرين، وستفقد من خلال ذلك فرصة عودتها لتكون قوة عظمى تضاهي الولايات المتحدة والصين. لقد ذكر مسؤولون أوكرانيون في أكثر من مناسبة، أهمية أن يكون البحر الأسود منطقة خاضعة لسيطرة الناتو، فهناك ثلاث دول من أصل ستة لديها سواحل على البحر الأسود، أصبحت دولاً أعضاء في هذا الحلف، وهي تركيا، بلغاريا ورومانيا، لذلك خاضت روسيا حربها في جورجيا في العام 2008، لمنعها من الدخول في حلف الناتو، وهي ومنذ العام 2014، تتابع ذلك في حربها ضد أوكرانيا.
لم تبدأ هذه الحرب لتنتهي حيث هي الآن، لقد إنتهت أوروبا كلاعب قوي مستقل ومؤثر، فتأثيرها آخذٌ في الإنحسار في العديد من المناطق في العالم، وهي لا تملك قرارها السياسي، وأصبحت تابعاً وليس مقرراً، وهذا أول إنتصار يُسجل للولايات المتحدة، أما بالنسبة لروسيا فهي تستعد لأيامٍ صعبة، فمن تفجير خط نورد ستريم 2، إلى إستهداف الكريملين، رسائل عميقة وخطيرة جداً. الكثير من التحضيرات تتم والكثير من السلاح يتم شراؤه تحضيراً لحربٍ هائلة إقترب موعدها، وإذا كانت روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا مستعدون لما هو قادم، فهل باقي العالم على استعداد لتلقي تداعيات هذه الحرب؟