العميد م. ناجي ملاعب
بعد أن استكان الكيان الصهيوني الى نجاحاته في سلوك سياسة التطبيع مع الدول العربية البعيدة عن اعتداءاته كبعض دول الخليج العربي أو الدول التي عانت وتعاني من أزمات داخلية كالسودان تفاجأ من إصرار أصحاب الأرض الذين اتخذوا المقاومة طريقاً لعودة الحق الى أصحابه وأقدموا على اجتياز السور الإسمنتي الإلكتروني الذي يغلّف شمال قطاع غزة في عملية عسكرية محكمة بوسائل من ابتكار وصناعة محلية في 7 تشرين الأول من العام الماضي، وعادوا الى القطاع مع أسرى عسكريين ومدنيين والأهم من ذلك مع كنز من الوثائق والمعلومات ساعدتهم في كشف خطط الجيش الإسرائيلي ما أربك القيادة الإسرائلية على المستويين العسكري والسياسي.
في هذه المقالة سوف أتطرق الى النظام السياسي الإسرائيلي وعملية صنع قرارات الأمن القومي. والكثير من هذه المعلومات استقيناها من دراسة للدكتور محمود محارب نشرت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في 21/2/2011 وفيها الإجابة على إشكالية العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري في الكيان الصهيوني ولو كانت تعود لتاريخ سابق.
تأثر النظام السياسي الإسرائيلي بالنظام السياسي البريطاني، ولكنه لم يستند إلى تقاليد عريقة وأعراف راسخة ومنيعة كما هو الحال في بريطانيا، ولم يستند إلى دستور كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأميركية، إذ لا يوجد دستور في إسرائيل حتى الآن. فقد استعاضت إسرائيل عن وضع دستور لها بسنّ مجموعة من القوانين الأساس التي تعالج وظائف الأذرع المختلفة للحكم والمؤسسات الرسمية في الدولة، وقام البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي بتشريعها بالتدريج.
ويتميز النظام السياسي في الكيان الصهيوني بكثرة الأحزاب السياسية وبعدم تمكن أي حزب سياسي من الحصول على أغلبية في الكنيست منذ تأسيس الدولة وحتى اليوم، لأسباب تعود إلى طبيعة إقامة مجتمع المستوطنين والمهاجرين الصهيونيين في فلسطين، وكذلك إلى تبني إسرائيل نموذج نظام الانتخابات النسبي وتدني نسبة الحسم، الأمر الذي فتح الباب واسعا أمام الأحزاب الصغيرة والمتوسطة للحصول على تمثيل في الكنيست. وقاد هذا الأمر إلى أن تكون جميع الحكومات في إسرائيل منذ تأسيسها حتى اليوم حكومات ائتلافية يشكلها أكثر من حزبين.
مكانة رئيس الحكومة ودوره
الحكومة في إسرائيل هي مركز القوة في النظام السياسي، وفيها تتم عملية صنع القرارات الرسمية والقانونية. ويتمتع رئيس الحكومة بعوامل قوة مهمة، الأمر الذي جعل الحكومة الإسرائيلية هي حكومة رئيس الوزراء، تقع ضمن مهماته وصلاحياته المسؤولية المباشرة عن جهازي أمن مهمين للغاية هما “جهاز الموساد” و”جهاز المخابرات العامة (الشاباك)، وهو المسؤول مسؤولية مباشرة عن الملف النووي [وهو رئيس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية] وعن الملف الكيماوي والملف البيولوجي، بهيئاتهم ومؤسساتهم ومنتجاتهم المختلفة. والصحيح أن وزير الدفاع هو المسؤول عن وزارة الدفاع، وهو الذي يمثل سلطة الحكومة على الجيش، ولكن من حق رئيس الحكومة دعوة رئيس الأركان ورئيس “جهاز المخابرات العسكرية [أمان]”، بعلم وزير الدفاع، للتشاور.
مجلس الأمن القومي
أُسس مجلس الأمن القومي بقرار من حكومة بنيامين نتنياهو الأولى في العام 1999 باعتباره مؤسسة تابعة لديوان رئيس الحكومة. وكان الهدف من تأسيسه أن يصبح مجلس الأمن القومي الهيئة التي تعد الاستشارة والمعلومات والتحليلات وتقدمها إلى رئيس الحكومة والحكومة في القضايا التي تخص الأمن القومي. ويستمد مجلس الأمن القومي صلاحياته من الحكومة، ويعمل وفق التعليمات المباشرة لرئيس الحكومة، ويتبع رئيس مجلس الأمن القومي رئيس الحكومة مباشرة، كما يعمل مستشاراً لرئيس الحكومة في قضايا الأمن القومي
قرارات الحرب والعمليات العسكرية
أحدثت حرب لبنان الأولى (1982) التي بادر إليها اريل شارون ومناحيم ويغن، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل انقساما في الرأي العام الإسرائيلي في شأن الحرب وأهدافها، وطرحت أسئلة خلال الحرب وبَعدها، عن طبيعة العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري ومدى سيطرة القيادة السياسية على الجيش. وأدت هذه العوامل إلى قيام قادة وباحثين من صلب المؤسستين الأمنية والسياسية بطرح موضوع عملية صنع قرارات الأمن القومي وبمعالجة دور المؤسسة العسكرية وتأثيرها في تلك العملية، وخاصة في ظل عدم وجود هيئة أو مؤسسة مدنية مستقلة عن الجيش تتولى تقويم الأمن القومي. وفي هذا السياق أكد الجنرال يسرائيل طال، في مقالة له في العام 1983، “أن مسؤولية الأمن القومي تقع على كاهل الحكومات”، وأوضح “أن تقويم الوضع القومي هو شأن سياسي وليس عسكرياً”. وأردف: “من أجل تمكين الحكومات من ممارسة مسؤوليتها عن الأمن القومي بشكل سليم، ينبغي على الحكومات الاعتماد على أجسام تتابع تطور الأحداث ومساراتها بصورة منظمة، وتقوم بتحليلها وتقويمها بمنهجية، وبعد ذلك يتم عرض التقويم الشامل للوضع على صانعي القرارات”. وأكّد الجنرال طال “ممنوع أن تكون هذه الأجسام خاضعة للجيش أو لأي مؤسسة أخرى. وينبغي أن تكون مستقلة وأن تدرس جميع مواقف الأطراف الرسمية وتقويماتها ووجهات نظرها عندما تعرض تقويم الوضع القومي أمام الحكومة.
من هنا، فالحكومة هي الجسم الوحيد المخول اتخاذ قرار الحرب. فقانون الحكومة الأساس ينص بشكل واضح وصريح ما يلي: “لا تشن الدولة حربا إلا بقرار من الحكومة”. وعلى الحكومة أن تخبر، في أقرب وقت ممكن، لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست بقرارها شن الحرب. وكذلك يعلم رئيس الحكومة، في أقرب وقت ممكن، الكنيست بالحرب، بخطاب له من على منصة الكنيست.
علاقة الجيش بالقيادة السياسية
عرّف دافيد بن غوريون رئيس الحكومة ووزير الدفاع، والذي كان له الدور الأهم في بناء الجيش الإسرائيلي وبلورته، مكانة الجيش ودوره وعلاقته بالقيادة السياسية كالتالي: “الجيش لا يقرر السياسة ولا النظام ولا القوانين ولا نظام الحكومة في الدولة. وطبعاً، الجيش لا يقرر بنفسه حتى بنيته وأنظمته وخطوط عمله. والجيش ليس هو الذي يقرر شأن الحرب والسلام. الجيش هو الذراع التنفيذية لحكومة إسرائيل، إنه ذراع الدفاع والأمن. النظام في الدولة، والخطوط السياسية تجاه الداخل والخارج، وإعلان الحرب وصنع السلام، وتنظيم الجيش وتصميم صورته، ذلك كله من صلاحيات السلطات المدنية وحدها: الحكومة والكنيست والناخبين. الحكومة مسؤولة عن الجيش أمام منتخبي الشعب في الكنيست؛ والجيش خاضع في كل شيء للحكومة، وما هو إلا منفذ للخط السياسي وللأوامر التي يتلقاها من المؤسستين التشريعية والتنفيذية: الكنيست والحكومة.
هيمنة الجيش على قراءة وتوجيه الأمن القومي
في مقابل تضاؤل دور الأحزاب السياسية وانخفاض قوة الأحزاب الكبيرة وتحولها إلى أحزاب متوسّطة أو صغيرة، وكثرة الانقسامات والانشطارات فيها وانخفاض قيمتها ومكانتها، وتوجهها نحو تحقيق مكاسب لقطاعاتها في العقدين الأخيرين؛ عزز الجيش الإسرائيلي مكانته في المجتمع ودوره الحاسم في صنع القرارات التي تخص الأمن القومي. وساهمت مجموعة من العوامل في ذلك، أبرزها: مشاركة قادة الجيش الفاعلة في الاجتماعات التي تصنع فيها القرارات، واحتكار الجيش المعلومات والهيئات التي تقرأ الواقع وتفسره والتقويم القومي أيضاً، وشغل جنرالات الجيش وكبار ضباطه المناصب العليا في الحكومة والكنيست والحكم المحلي والقطاع العام والشركات الاقتصادية، كذلك فرض الحكم العسكري المباشر على المناطق الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 ومشاركة كبار ضباط الجيش في المفاوضات مع الأطراف العربية المختلفة ودوره المهم في صوغ الرأي العام وتأثيره في شؤون الأمن القومي.
لقد احتكرت المؤسسة العسكرية في الكيان الصهيوني، منذ إنشائها وحتى اليوم، قراءة الواقع وتفسيره، ما منحها قوة كبيرة في التأثير في عملية صنع قرارات الأمن القومي. صحيح أن المؤسسة العسكرية لا تقرأ الجانب العسكري للواقع وحده، وإنما الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية أيضاً، ولكنها تقرأه وتفسره وفق منطلقاتها ومنظورها وأولوياتها ووفق فهمها هي للأمن القومي والمصلحة الوطنية؛ هذا الفهم الذي يولي أهمية للجوانب العسكرية والتفكير العسكري.
و”قسم الأبحاث” في جهاز المخابرات العسكرية [أمان] ليس أهم مؤسسة في الجيش الإسرائيلي فحسب، وفي إسرائيل قاطبة، التي تقرأ الواقع وتفسره؛ إنما هو المؤسسة التي لا تزال تحتكر قراءة الواقع وتفسيره في إسرائيل، تماماً مثلما يحتكر جهاز المخابرات العسكرية [أمان] المعلومات المتعلقة بالأمن القومي. ومن الصعب أن تنافس مؤسسة أخرى في إسرائيل جهاز المخابرات العسكرية و”قسم الأبحاث” التابع له؛ فهو يتفوق عليها جميعاً بنسبة مرتفعة للغاية من حيث الميزانية وعدد الباحثين فيه ونوعيتهم والمعلومات الاستخبارية التي في حوزته وشمولية المواضيع التي يعالجها والمناطق التي يتابعها. وقد كان يعمل في ” قسم الأبحاث” التابع لجهاز المخابرات العسكرية 600 شخص في العام 2003، منهم 200 باحث متفرغ، بينهم 120 باحثا متخصصا في مجالات البحث العسكري والمخابرات العسكرية، و 80 باحثا منهم تفرغوا للبحث في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، أما الباقون فيعملون في جمع المعلومات وتوثيقها وفي مجالات أخرى ترتبط بالبحث.
علاوة على ذلك، فإن “قسم الأبحاث” في [أمان] هو القسم الوحيد الذي يجري أبحاثا عن جميع دول الشرق الأوسط في المجالات العسكرية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، وكذلك عن علاقات هذه الدول البينية وعلاقاتها بالدول الكبرى. وينشر “قسم الأبحاث” في [أمان] مجموعة مختلفة من النشرات الداخلية لعدد محدد من متخذي القرارات في القيادتين العسكرية والسياسية، أهمها:
–1 تقرير فوري عن معلومات استخبارية وصلت لتوها ولها أهمية عملانية، وتوزع المعلومات الاستخبارية كـ “مادة خام” كما وردت، مع بعض التعليقات عليها من كبار الباحثين
2- تقرير يومي عن المستجدات مع تحليل لها.
3- تقارير خاصة في موضوعات مختلفة بين الفينة والأخرى خلال السنة.
-4 التقرير السنوي، وهو الأكثر أهمية في إسرائيل ويصدر تحت عنوان “تقويم المخابرات القومي السنوي”. ويعرض هذا التقرير عند صدوره على هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والحكومة ولجنة الخارجية والأمن في الكنيست.
يقدم رئيس المخابرات العسكرية [أمان] تقريراً استخبارياً عسكرياً في الاجتماع الأسبوعي لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وكذلك إلى رئيس الحكومة وإلى وزير الدفاع، وإلى لجنة الوزراء لشؤون الأمن أيضاً، وإلى الحكومة وإلى لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست. وفي بعض الأحيان يصحب رئيس جهاز المخابرات العسكرية [أمان] معه إلى الاجتماعات التي يتم فيها صنع القرارات رئيس “قسم الأبحاث” في [أمان]- ورتبته عميد- إلى اجتماعات لجنة الوزراء لشؤون الأمن وإلى اجتماعات الحكومة. ولقد مكن ذلك كله رئيس المخابرات العسكرية [أمان] من ان يكون له شأن مهم في التأثير في عملية صنع قرارات الشأن القومي.
أين يمر الخط الفاصل بين المستوى العسكري والمستوى السياسي
على السطح، ومن الناحية الرسمية، الإجابة بسيطة للغاية. فمن يجلس في الحكومة وفي الكنيست يعتبر من المستوى السياسي، ومن يجلس في هيئة الأركان ومن يتبوأ رتبة رفيعة في الجيش يعتبر في المستوى العسكري. وفعلاً، يتعامل معظم الباحثين الإسرائيليين مع هذا الموضوع وفق هذا المعيار. ولكن في العمق الأمر مختلف تماماً. فنظرة عميقة تظهر أن هناك تداخلا كبيرا جداً بين المستويين. والتداخل هذا ليس متبادلاً وبالتالي ليس متوازناً. فالتداخل يأتي من اتجاه واحد فقط، من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي. أي أن كثيراً من أفراد القيادة السياسية ومن المستوى السياسي هم جنرالات وكبار ضباط سابقون.
وكثير من الجنرالات وكبار الضباط في الجيش اليوم هم سياسيو المستقبل وقادته. لذلك، كما يقول يوسي سريد، “عندنا، ما ان يخلع هذا بزته العسكرية حتى يبدأ في ارتداء بدلته المدنية، فحتى الأمس كان ضابطا رفيعاً، رئيس أركان أو جنرالا، وأصبح اليوم وزيرا رفيعاً أو رئيساً للوزراء. لذلك ليس واضحاً أحياناً، من هو هذا ومن هو ذاك؛ فمن حيث العقلية والتأهيل والرؤية والنظرة إلى المشاكل القومية، فإنهم يأتون جميعاً من المدرسة نفسها ومن التجارب نفسها المكونة والمؤسسة لشخصيتهم. ونتيجة لذلك تشبه الحكومة هيئة الأركان وهيئة الأركان تشبه الحكومة”. ففي إمكان الضابط أو الجنرال أن يترك الجيش بعد عشرات السنين من الخدمة فيه، ولكن الجيش والتفكير العسكري والعقلية العسكرية والرؤيا العسكرية وعلاقاته العسكرية تبقى في داخله لا تتركه، وتظل المؤثر الأساسي الحاسم في قراراته فيما يخص الأمن القومي. فمنهج تفكيره العسكري تأسس ومفاهيمه تبلورت وشخصيته صقلت في أثناء عقود خدمته في الجيش.
نموذج “الشعب المسلح“
منذ أن طرح هارولد لاسويل مصطلح “دولة القلعة” في العام 1941، اهتم كثير من الباحثين بموضوع علاقة الجيش بالمستوى المدني والقيادة السياسية في الدول التي يحتل فيها الأمن القومي أولوية عليا والتي هي في حالة حرب. تمثلت الفكرة الأساسية التي طورها هارولد لاسويل في أن وجود الدولة في حالة حرب وتوتر دائم، واحتلال الأمن القومي فيها الأولوية العليا، قد يؤديان إلى تغلغل القيم العسكرية وانتشارها في المجتمع، وإلى استيلاء خبراء العنف، أي الجيش، على السلطة. ونفى أستاذا العلوم السياسية دان هوروفيتس وموشيه ليساك أن تكون إسرائيل مثل “دولة القلعة”. وعرضا نموذجاً من نوع آخر، يميز العلاقات بين الجيش والمجتمع في الدولة التي تكون فيها مشاركة المواطنين في الجهد العسكري عند أعلى حد ممكن، وهو نموذج “الشعب المسلح” أو “شعب بالزي العسكري”.
واستند مبدأ “الشعب المسلح” على فرضية أن إسرائيل في حالة حرب دائمة، وما ان تنتهي حرب واحدة حتى تنتقل إسرائيل إلى حالة حرب كامنة تحمل بين ثناياها إمكانية التفجر والتحول إلى حرب فعلية في أي لحظة. لذلك ينبغي الاستعداد للحرب دائماً، وإيجاد أفضل الطرق لتجنيد أفراد الشعب كلهم. وقد عبر قانون الخدمة في الجيش الذي سنه الكنيست في آب/أغسطس 1949 عن ذلك عندما ذكر أن الهدف من القانون هو إعداد الشعب كله ليكون في وقت الضرورة شعباً مقاتلاً.