العقيد الركن م. ظافر مراد
تشهد دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إقبالاً كبيراً على اقتناء أحدث المنظومات القتالية بكافة أنواعها البرية والجوية والبحرية، ويرتبط تعاظم الإنفاق العسكري لهذه الدول بالظروف الدولية عالية التوتر، مثل غموض الموقف في الحرب الروسية-الأوكرانية، والتوتر في بحر الصين الجنوبي، وأخيراً تصاعد المواجهة في منطقة الشرق الأوسط جرَّاء الحرب في غزة، إضافةً إلى تهديد سلاسل الإمداد والتوريد العابرة في البحر الأحمر.
يتم احتساب الإنفاق العسكري للدول وفقاً لاعتبارين أساسيين، الأول قيمة الإنفاق السنوي بشكلٍ عام، والثاني نسبة الإنفاق من قيمة الناتج القومي المحلي السنوي، وقد كان العام 2022 لافتاً بالنسبة للإنفاق العسكري في المنطقة، حيث حلَّت المملكة العربية السعودية في المرتبة الخامسة عالمياً في الإنفاق العسكري للعام 2022، بحوالي 75 مليار دولار، وجاءت في المرتبة الثانية عالمياً بعد أوكرانيا بنسبة 7.4% من الناتج القومي المحلي، أما قطر فجاءت في المرتبة العشرين عالمياً في العام نفسه، بقيمة بلغت 15.4 مليار دولار والثالثة عالمياً من حيث النسبة للناتج القومي المحلي والتي وصلت إلى 7%.
والجدير ذكره هنا أن 6 دول عربية جاءت ضمن أول عشر دول في الإنفاق نسبة للناتج القومي المحلي على مستوى العالم، في العام 2022.
لماذا تقدم الدول على زيادة إنفاقها العسكري؟
تُعتبر مسألة زيادة الإنفاق العسكري وتطوير قدرات الجيوش، خياراً تتَّخذه السلطة السياسية وفقاً لمعطيات قد تكون روتينية بهدف اللَّحاق بمستوى الجيوش الأخرى، أو طارئة بسبب ظروف وتهديدات مستجدة، بهدف تكريس مفهوم الردع ضد هذه التهديدات والتمكُّن من التصدي لها، ومع ذلك فإن مسألة تطوير القدرات العسكرية لأي دولة، ليست خياراً سهلاً وحراً، فهي تخضع لتقييدات معينة، أبرزها القدرات الاقتصادية لهذه الدولة وقيمة ميزانية الدفاع المخصصة، ومسألة الثقة وطبيعة العلاقة بين الدول المصدرة للأسلحة والدول المستوردة، حين لا يُسمح لدولة ما باقتناء أنواع محددة من الأسلحة الحديثة والمتطورة.
من الذي يتخذ القرار بحجم ونوعية الإنفاق العسكري؟
تشكِّل وزارة الدفاع الرابط بين المستوى السياسي المُتمثِّل بالحكومة، والمستوى العسكري المتمثِّل بقيادة الجيش أو رئاسة الأركان، وتنسق هذه الوزارة بين المستويين، وتحدد أولويات الإنفاق والتطوير للقدرات العسكرية، وذلك وفقاُ لاقتراح القيادة العسكرية، وهنا تتم دراسة الحاجات من الأسلحة والتدريب وزيادة العديد. وفي هذا الإطار يتم تقييم البيئتين الإستراتيجيتين الداخلية والخارجية، لتحديد الفرص التي يجب الاستفادة منها، والمخاطر والتهديدات التي يجب مواجهتها والتصدي لها والتخفيف من أضرارها، وعلى هذا الأساس يتم اختيار أنواع الأسلحة التي يجب الاستحواذ عليها، وتحديد الأولويات في الإنفاق حيث أن الميزانية المخصصة تكون محدودة في العادةً، وهنا يجب الإشارة إلى أنَّ طريقة تنظيم الجيش وتحديد نوعية وحداته وطبيعة أسلحته، يجب أن تكون الرد المثالي على نوعية وطبيعة التهديدات والمخاطر المحدقة بالوطن، كما أن إختيار الأسلحة يجب أن يتناسب مع مساحة الدولة وطبيعتها الجغرافية وموقعها الجيوبوليتيكي ودورها الإقليمي والعالمي.
فلا حاجة مثلاً لدول الخليج الصغيرة أن تقتنى غواصات أو حاملات طائرات أو صواريخ باليستية بعيدة المدى لتدافع عن نفسها، فليس لديها عمق إستراتيجي ونفوذ عالمي ومصالح في أعالي البحار تريد حمايتها، كما هو الحال مع الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين، وكل كا تريده هو حماية نفسها، بينما الدول ذات المساحة الكبيرة والدور الهام، مثل المملكة العربية السعودية مثلاً، فالوضع يختلف، فهي تتميز بعمق استراتيجي وموقع جغرافي يطل على الخليج العربي والبحر والأحمر، حيث مضيقي هرمز وباب المندب، كما لديها دور جيوبوليتيكي هام وحاسم في المنطقة. وتتميَّز الدول ذات العمق الإستراتيجي والمساحات الواسعة بأنها تستطيع إستيعاب الضربة الأولى، والرد من مناطق متعددة في عمق أراضيها، حيث يتوافر لها الوقت والمساحة لحشد قوى الإحتياط وشن الهجمات المعاكسة وتحضير المناورات على المستوى العملياتي، وهي بذلك تستطيع أن تُكرس معادلة الردع التقليدي ومنع الإعتداء عليها. ومن أبرز دول المنطقة التي لديها عمق إستراتيجي، إضافة إلى قدرات عسكرية متناسبة مع هذا العمق، نجد مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا وإيران، لذلك نلاحظ أنهم من أكثر الدول تأثيراً في المنطقة على المستويين السياسي والأمني، ويحسب لهم حساب على المستوى العالمي، بينما في المقابل تفتقد دولة إسرائيل لهذا العمق على الرغم من قدراتها العسكرية الكبيرة، لذلك هي تشعر بالتهديد الدائم في المنطقة.
ما هي شروط تكريس معادلة الردع وضمان نجاحها؟
إن مفهوم الردع حالياً يختلف عما سبق، فهناك عدة أنواع من الردع، وليست كلها متعلقة بالإرغام والتهديد، وهناك أربعُ طرق رئيسية للردع:
- الردع عن طريق العقاب، أي بتهديد الخصم بعقابٍ رهيبٍ، إذا أقدم على إتخاذ إجراءات معينة، وهذا الأسلوب هو الأكثر شيوعاً، وبعض التعريفات للردع تشير إلى أنه الطريقة الوحيدة للردع. ويتطلب ذلك حيازة كم كبير من الأسلحة الهجومية المتطورة والفعالة مثل الطائرات والصواريخ والمسيرات.
- الردع بالحرمان من إستخدام القوة، وذلك بإقناع الخصم بأنّك محصَّن تماماً لدرجة تجعل عدوانه غير مجدي. ويتطلب ذلك حيازة قدرات دفاعية برية متفوقة، ومنظومات دفاع جوي ودفاع ساحلي متطورة تغطي كامل النطاق الوطني، وقادرة على العمل بفعالية ولوقتٍ طويل.
- الردع بالتطمين، وذلك بإقناع الدوَل الأخرى بحسن النوايا، وبأنك لن تقدم على أي فعل عدائي تجاهها، فتقابلك بالمثل. وهنا تلعب الدبلوماسية دوراً هاماً في هذا المجال.
- الردع بالمصالحة، أي مكافأة الخصم على إحجامه عن إتخاذ إجراءات عدائية، مثل تقديم الفرص والإستثمارات ومنح القروض والمساعدات. ويكون العامل الإقتصادي هو الأداة الأكثر أهمية.
أمَّا بالنسبة لفعالية ونجاح تحقيق الردع بالعقاب، وهو النوع الأكثر شهرة، فهذا يفترض وجود ثلاثة شروط وهي:
- يَجِب أن تُوَضِّحَ الجهة الرادعة وتُعلن بشكلٍ واضح التزامها بالدفاع عن مصلحةٍ أو قضية معينة.
- يَجِب أن يُصدِّق الخصوم أن الجهة الرادعة لديها القدرات والإمكانات لتنفيذ تهديداتها.
- يَجِب أن يُصدِّق الخصوم بأنّ الجهة الرادعة ستنفِّذ تهديداتها مهما كانت المخاطر والتداعيات المترتبة على ذلك، بما فيها التورط في حرب شاملة.
يكمن جوهر المسألة والأساس في تحقيق مفهوم الردع، بحيازة القدرات العسكرية التي من خلالها يتم معاقبة الخصم في حال الإعتداء، وهذه القدرات لا تنحصر فقط بشراء الأسلحة الحديثة والمتطورة، بل أيضاً ترتبط بتوافر متطلبات إستخدامها بفعالية، وهذه المتطلبات تشمل بالإضافة إلى الخبرة والمعرفة التقنية، البُعد المادي الذي يسمح باستخدامها، أي المجالات البرية والجوية والبحرية.
ما هو الحل عند الدول الصغيرة لتكتسب قدرات الدفاع عن النفس؟
أفضل الحلول على المستوى السياسي والدبلوماسي، إكتساب حلفاء وأصدقاء يعززون ويدعمون موقعها وقدراتها السياسية العسكرية، ومستعدين للتدخل للدفاع عنها، أما على المستوى العسكري، فيجب التركيز على المنظومات الدفاعية البرية والبحرية والجوية، والتي تشمل رادارت كشف دقيقة ومتطورة تعمل لمسافات مختلفة، إضافة إلى شبكة كبيرة من صواريخ ومنظومات الدفاع الجوي والساحلي والأسلحة المضادة للدبابات، تغطي كامل الحدود البرية والبحرية والمناطق الداخلية والمنشآت الوطنية الهامة والحساسة، لتتمكن من تدمير التهديدات من الصواريخ العادية والباليستية والمسيرات والزوارق التي قد تهاجم أراضيها. إضافةً إلى ذلك، حيازة قدرات الحرب الإلكترونية، وأخيراً والأهم، إنشاء عدد كبير من وحدات القوات الخاصة عالية المستوى في التدريب والتسليح، وتركيزها في المناطق المناسبة للتدخل وفقاً لتخصُّصها، حيث يمكن زجها في المعركة بوقتٍ قصيرلتقاتل في المناطق المبنية، في السهول والغابات، وفي السواحل والمياه الإقليمية، والتصدي لأي عدوان أو خرق ما من قبل دولة معينة أو من قبل إرهابيين، والجدير ذكره هنا، أن الدور الأساسي لهذه الوحدات الخاصة في الدول الصغيرة، هو أن تقاوم وتصمد وتوقع الخسائر في قوات العدو وتمنعه من السيطرة على الأرض، وتأكيد عدم إنهيار الجيش بسرعة، أقله في المرحلة الأولى من الحرب، ريثما يتحرك المجتمع الدولي والحلفاء والأصدقاء.
لماذا تشدد على القوات الخاصة وليس على الوحدات التقليدية عند الدول الصغيرة؟
نحن لا ننفي أهمية وضرورة حيازة الأسلحة التقليدية من دبابات ومدافع وطائرات مقاتلة وقاذفة، ولكن وبسبب العمق القليل والمساحات الصغيرة لهذه الدول، سيتم في الضربة الأولى تدمير قواعدها البحرية ومطاراتها العسكرية وتجمعات الدبابات والمخازن اللوجستية، وحدها القوات الخاصة المنتشرة بكثرة وبمجموعات صغيرة، والخفيفة والسريعة في التنقل والمناورة، يمكن لها أن تكون بعيدة عن الكشف والإستهداف، ولها الحظ الكبير أن تنجو من الضربة الأولى، لا سيما من هجمات المسيرات والصواريخ، وعليها يتم الإتكال لإستيعاب الهجوم وإيقاع الخسائر في العدو، ويجب أن تتجهز هذه القوات بأسلحة م/د مختلفة المدى، وصواريخ دفاع جوي قصيرة ومحمولة، وبنادق قناصة، على أن تكون جاهزة للتدخل بوقتٍ قصير جداً ضمن خطط محضرة مسبقاً، والأهم من كل ذلك، يجب أن تتمتع بتدريب عالي المستوى، وبرباطة الجأش والروح القتالية.
كلمة أخيرة في مجال الأمن والدفاع لدول الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
أعتقد أن هناك عوامل مستجدة دخلت بشكلٍ حاسم وغيَّرت في معادلات الصراع وموازين القوة لدى الدول والمجموعات العسكرية، ونتكلم هنا بشكلٍ خاص عن المسيرات التي برزت بدايةً في الحرب الأذرية-الأرمينية، حيث كان لها الفضل الكبير بإنتصار الجيش الأذري، ثم جاءت الحرب الروسية-الأوكرانية لترفع من شأن وأهمية هذه المسيرات، والتي استطاعت أن تنفذ ضربات لها مفعول إستراتيجي، وتحاول حالياً كل من روسيا وأوكرانيا حيازة أكبر عدد ممكن من المسيرات، إستعداداً لإتِّساع الحرب واحتمالات تدخل دول الناتو فيها بشكلٍ مباشر. وتقوم جميع الدول المصنعة للمسيرات، بتطوير قدراتها لتصبح أسلحة استراتيجية بعيدة المدى، قادرة على تنفيذ ضربات قاتلة في العمق المعادي لمسافة آلاف الكيلومترات، ومن الممكن أن تحمل صواريخ وذخائر غير تقليدية، مع إكتساب قدرات التخفي والسرعة الكبيرة وميزات الذكاء الإصطناعي، وحالياً يبدو أننا دخلنا في عصر المسيرات التي ستضعف كثيراً من دور الدبابات والطائرات والسفن الحربية. إن أي تطوير للإستراتيجيات الدفاعية والعسكرية لدى الدول، يجب ان يأخذ بعين الإعتبار دور المسيرات وتعاظم قدراتها وميزاتها مستقبلاً، حيث أنها وبلا شك، ستكون نجمة الحروب المستقبلية، ويجب الإستعداد لها جيداً والسعي لحيازة أفضلها، وعدم إهمال مخاطرها وتهديداتها المؤكدة.