العقيد الركن م. ظافر مراد
تحتل عمليات وجهود مكافحة الإرهاب مركزاً متقدماً في السياسات الدفاعية والأمنية لمعظم الدول، لا سيما الدول العربية التي تعرَّضت للهجمات مرات عديدة، لذلك تم إنشاء وحدات وفروع متخصصة بمكافحة الإرهاب، وتقوم هذه الوحدات والفروع بفئتين من الأعمال، إستباقية لإحباط المخططات الإرهابية وكشفها قبل التنفيذ، ولاحقة بهدف كشف المنفذين وإلقاء القبض عليهم. حدد الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية والقانون الدولي تعريف واضح للارهاب: “الارهاب هو استراتيجية عنف محرّم دولياً، تحفزها بواعث عقائدية، ايديولوجية او دينية، وتتوخى إحداث عنف مرعب داخل شريحة خاصة من مجتمع معين لتحقيق الوصول الى السلطة أو للقيام بدعاية لمطلب او لمظلمة بغض النظر عما اذا كان مقترفو العنف يعملون من أجل أنفسهم ونيابة عنها أم نيابة عن دولة من الدول”. وكانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية-CIA قد وضعت تحديداً للإرهاب يشير إلى أن القصد منه “إحداث صدمة، أو فزع، أو ذهول، أو رُعْب لدى المجموعة المُسْتَهدَفَة، والتي تكون عادةً أوسع من دائرة الضحايا المباشرين للعمل الإرهابي”.
تعتبر مكافحة الإرهاب عملية ذات بعد إستراتيجي، تتعاون فيها الدول والمنظمات والوكالات على كافة أشكالها، متجاوزة الخلافات والصراعات بينها بهدف هزيمة العدو المشترك، وتُشكِّل عمليات المعلومات العصب الرئيسي في مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي والوطني، كما أن مصادر تمويل الإرهاب ومنظومة التخطيط والقيادة تُشكِّل أهدافاً رئيسية لوكالات الإستعلام الحكومية والعسكرية، حيث يجري تعقب وملاحقة العمليات المالية داخل وعبر الحدود، ورصد الإتصالات والبريد والرسائل الإلكترونية، إضافة الى تتبع تحركات المجموعات والأشخاص الذين تدور حولهم شبهات معينة.
يتبين من خلال تحليل البيئة والظروف التي عاشها الإرهابيون، أن هناك عدة عوامل مشتركة مؤثرة دفعتهم للقيام بأعمالهم الإرهابية، وأبرز هذه العوامل هي:
- التطرف والفهم الخاطيء للدين.
- التحريض السياسي.
- الشعور باللاعدالة.
- الجهل والتصحر المعرفي.
- الإحباط واليأس ورفض الواقع.
- وجود حالة نفسية مرضية.
أما أبرز الأهداف في استعمال الإسلوب العنفي الرهيب مثل الحرق والذبح والقتل الجماعي هو ما يلي:
- الإنتقام (يأتي في الدرجة الأولى)
- تحقير وإذلال الخصم وإظهاره ضعيفاً.
- نشر الرعب والصدمة في مجتمع الخصم وعند الموالين له.
- تحقيق التفوق والإبتكار في طبيعة وإسلوب العملية.
- تحقيق الذات وكسب تقدير البيئة الحاضنة للإرهابيين.
وعلى طريق تحقيق الذات واكتساب الثقة والقوة، تكون البداية في رغبة الأشخاص في الإنتماء إلى مجموعة قوية سرية أثارت إعجابهم، كخيار مفضل أو وحيد، حيث يمكنهم عن طريق هذه المجموعة تحقيق نزعاتهم العدائية ضد خصومهم، وتنفيذ إنتقامهم من خلال المشاركة في الأعمال الإرهابية.
لقد جاء الحدث الإرهابي في مسرح “كروكوس سيتي هول” عند الجهة الشمالية الغربية للعاصمة الروسية موسكو، ليضع موضوع الإرهاب مرة أخرى في واجهة الأحداث، وقد وقع الهجوم مساء الجمعة في 22 آذار الحالي، بينما كان الناس يأخذون مقاعدهم لحضور عرض لفرقة موسيقية، حين دخل 5 رجال يرتدون زياً عسكرياً قاعة الحفلات وفتحوا النار على مَن بداخلها، بهدف تسجيل أكبر عدد ممكن من القتلى. ثم ألقوا متفجرات أدَّت إلى اشتعال حريق ضخم في المبنى، وبعد أن قتلوا حوالي 140 شخصاً وجرحوا حوالي 180، إستطاعوا الفرار، ليتم لاحقاً القبض عليهم جميعاً إضافةً إلى عدد من المتواطئين وذلك وفقاً لجهاز الأمن الفيديرالي الروسي. وفي شأن هذه العملية المترافقة مع ظروف الحرب الروسية-الأوكرانية، يُلاحظ كثرة التحليلات المتناقضة والمختلفة والمتنوعة المصادر والأهداف، في وقتٍ يتطلب أي تحليل الخبرة والمعرفة العميقة في مجال مكافحة الإرهاب وطريقة عمل التنظيمات الإرهابية، وكل ما يتم تقديمه في سياق التحليلات يجب أن يستند على وقائع ومعلومات مؤكدة في مقاربات علمية متجردة.
من الواضح أن العملية ببعدها الإستراتيجي تستهدف هيبة وسمعة أجهزة الأمن الروسية، ونتيجة الإنتخابات التي أفضت لإعادة إنتخاب بوتين على رأس السلطة الحاكمة. وان الضحايا سقطوا بفعل الصدفة التي جمعتهم في هذا المكان مع هذه المجموعة الإرهابية، وقد أعلنت داعش خراسان مسؤوليتها عن العملية، في وقت غابت فيه الشخصية الداعشية عن مسرح الجريمة، مثل صرخات التكبير والأحزمة الناسفة والرايات السوداء وخطف الرهائن، إضافة إلى إعترافات أحد الموقوفين بقبض أموال مقابل هذه العملية، ما يثير شكوك حول هوية وانتماءات المنفذين والجهة التي تقف وراء هذا العمل.
وفي خضم التساؤل الذي يُطرح حول حقيقة الجهة التي تقف وراء العملية، هل هي داعش خراسان أم أجهزة مخابراتية، أم مجموعة غير محترفة تبغي كسب المال؟ يجب فهم منظومة عمل الإرهابيين وكيف يمكن إختراقها وتوجيه أفرادها نحو أهداف محددة وفي ظروف معينة.
تعمل المنظمات الإرهابية من خلال منظومة معقدة عبارة عن عدة شبكات بعدة مستويات، وفي كل مستوى هناك ما يسمى “العقد-Nods” و”الروابطLinks-” والعقد هي الأشخاص أو القيادات، بينما الروابط هي العلاقة والإتصال وتبادل الأوامر والمعلومات، وفي الوقت الذي تبدو فيه الأمور وكأنها هيكلية قيادية عسكرية، قد يتفاجأ البعض أن الأوامر والتعليمات ومحفزات العمل الإرهابي تصدر عن قيادات إفتراضية في معظم الأحيان، قد تقف وراءها أجهزة إستخبارات تعمل بأساليب ووسائل متطورة جداً، أو منظمات وطنية أو دولية سرية تسعى إلى خلق حالة شعبية عامة وتوجيه الرأي العام وخداعه لتبرير عمل أو فعل محدد. وفي منظومة العمل هذه، يكون هناك ثلاث مستويات، المستوى الأعلى وهو المقرر والآمر لتنفيذ عمل ما يُعطي تأثيرات ونتائج محددة ومطلوبة، والمستوى الأوسط وهو المخطط الذي يختار طبيعة العمل وإسلوب التنفيذ والأشخاص المنفذين، والهدف أو الأهداف التي يجب التعامل معها، وأخيراً المستوى الأدنى وهو المنفذ والمشارك في العملية الإرهابية، والأشخاص في هذا المستوى هم الأكثر جهلاً للأهداف الحقيقية ولمن يقف حقيقةً وراء العمل المطلوب تنفيذه. وفي هذه المنظومة تكمن القوة ودرجة السرية والمناعة بالروابط والعقد التي تجمع بين المستويات الثلاث، والتي يجب أن تكون غامضة جداً وعصية عن الإكتشاف، فتكون هذه الروابط ظرفية تعمل لوقت قصير، أما العقد أي الأشخاص القائمين بالإتصال، فهم عادة أشخاص إفتراضيين ووهميين، وكل ذلك يجعل من الصعب جداً تتبُّع الخيوط التي تكشفها المعلومات للوصول إلى المخططين وأصحاب القرار في المستويات العليا في أي عملية مخابراتية سرية يُراد لها أن تلصق بمجموعات إرهابية.
وهنا تجدر الإشارة إلى عدة تفاصيل هامة وهي:
- لا يجب أن يعرف المنفذون أية معلومات عن المستوى الأعلى الذي خطط للعملية والجهة التي اصدرت القرار، فهم فقط يتلقون التعليمات والأوامر بكل ما يتعلق بالعملية عن طريق الوسيط المجهول.
- لا يدرك المنفذون من هي الجهة الحقيقية التي دفعتهم لتنفيذ العمل، وليس من الضروري أن تكون قياداتهم الإرهابية الحقيقية بل جهاز مخابرات أو جهة أمنية أو عسكرية أو سياسية مستفيدة.
- لا يعرف المخططون من هي الجهة الحقيقية التي أصدرت القرار بالعمل الإرهابي، فهم أيضاً يتلقون التعليمات عن طريق وسيط مجهول.
في العادة هناك الكثير من الأعمال الإرهابية أو التخريبية التي تبقى غامضة ولا تُعرف الجهة الحقيقية التي أمرت بها، ومن السهل على أجهزة المخابرات إختراق منظومة الإرهابيين والإدعاء بأنها جزء منها وإعطاء الإشارات أو الأوامر أو المحفزات لتنفيذ عمليات إرهابية، أو تعيين شخص عميل في موقع قيادي في هذه المنظومة الإرهابية، أو حتى إنشاء منظومة ذات صفة إرهابية يتم توجيه أعمالها لتخدم أهداف معينة على مستوى استراتيجي، وهناك الكثير من العمليات المخابراتية السرية والمعقدة في الإسلوب والأهداف والمدى المادي والنفسي، حيث يصبح الإرهاب أفضل تبرير لما يُطلق عليه “العمليات السرية الوسخة-Dirty Secret Operations”، إذ يبدو من غير المنطقي أن بعض العمليات الإرهابية النوعية، والتي تحتاج إلى مستويات عالية جداً من التخطيط والتدريب والدعم اللوجستي والتسهيلات المادية والمحفزات النفسية، أن يكون مصدرها مجموعات مطاردة ومراقبة في معظم أنحاء العالم، حيث يتم التنصت على كل المكالمات وتتبع كل حركات الأموال وانتقالات الأشخاص المشبوهين، حتى أن ما يُطلق عليهم الذئاب المنفردة، والذين يقومون بأعمال إرهابية من تلقاء أنفسهم وبمبادرات فردية، هم في الحقيقة ليسوا ذئاب منفردة، بل ذئاب تم اختيارها وتحفيزها وتوجيهها، عن طريق وضعهم في ظروف معينة وتحضيرهم عقائدياً ونفسياً لفترة طويلة، وتقديم التسهيلات والوسائل التنفيذية بطرق مباشرة أو غير مباشرة، بهدف جعلهم يفكرون في الإنتقام من جهة ما، وبهدف إكتساب دور “البطل” ضمن البيئة العقائدية التي يعيشونها في مجتمعهم.
أما في شأن عملية مسرح كوركوس يجب طرح الاسئلة التالية:
- لماذا تم إستهداف هذا المسرح على الرغم من عدم وجود رمزية له تستدعي إستهدافه.
- لماذا تم إختيار هذا التوقيت وهذا الإسلوب؟
- ما هي طبيعة ومستويات وعمق العقيدة الأيديولوجية التي ينتمي إليها المنفذون ويتأثرون بها؟
- ما هو القاسم المشترك بين المنفذين وكيف اجتمعوا على هذا العمل؟
- أين وكيف تم اللقاء النهائي قبل تنفيذ العملية؟
- من أين تلقوا السلاح والمواد المتفجرة في الداخل الروسي؟
- ما هي طبيعة حياتهم وظروفهم الإجتماعية وكيف غادروا أو ودَّعوا عائلاتهم وأصدقاءهم؟
- أين كانت جهة فرارهم، وما هي الوسائل والتسهيلات التي اعتمدوا عليها؟
- هل صحيح أن إسلوب العملية وطبيعة الأشخاص مطابقة لإسلوب داعش؟
- من هي الجهات المستفيدة والجهات المتضررة من هذا العمل؟
- ما هو سلوك وردات فعل الجهات المتَّهمة بعد تنفيذ العملية؟
- هل يجب الإفصاح عن المعلومات في شأن كل ما يتوصل إليه التحقيق، وإعلان النتائج أم إبقاء الأمور غامضة وغير معروفة؟
وفي شأن السؤال الأخير، قد يكون إبقاء نتائج التحقيقات سرية وغير معلنة أفضل من إعلانها، ويعود السبب في ذلك إلى شؤون سياسية خفية أو مفاوضات وإتفاقات مخابراتية سرية، أو بسبب عدم القدرة وعدم النية بالرد على الجهة التي تقف وراء هذه الأعمال، أو لإبقاء الغموض سيد الموقف وتضليل الجماهير. وفي عملية مسرح كروكوس كل الإحتمالات واردة، إلى أن تظهر نتائج التحقيقات والأدلة الدامغة التي تؤكد وتشير إلى الذي أمر بتنفيذ هذا العمل والذي خطط له، فالمنفذين أصبحوا في قبضة الأمن الفيديرالي الروسي، والأيام القادمة قد تكشف الحقيقة أو تبقيها غامضة ومبهمة.