القنابل العملاقة.. هل حان وقت استخدامها؟

العقيد الركن م. ظافر مراد

تقبع معظم المنشآت العسكرية الغامضة والحساسة في مناطق سرية وعلى عمق عشرات الأمتار تحت سطح الأرض، وذلك بهدف المحافظة على سرية النشاطات التي تحدث فيها، ولتأمين حمايتها من الهجمات الجوية والصاروخية المختلفة، ومن عمليات التجسس ومحاولات الرصد أو التتبع أو التنصت على أي حركة أو إشارة تدل على طبيعة النشاطات التي تحدث هناك.

يعود استخدام دول عديدة للمخابئ وبناء المنشآت في عمق يتجاوز 50 متراً تحت سطح الأرض، بسبب تطور تكنولوجيا المراقبة من الفضاء بواسطة الأقمار الاصطناعية، والتي تستطيع ملاحظة أو رصد أي تغيير في طبيعة الأرض وكثافة التربة، والتقاط إي إشارة صادرة عن نشاط إنساني أو صناعي، وتحليلها بواسطة الذكاء الاصطناعي، حيث يتم بسهولة التعرف على الأشخاص عن طريق البصمة الصوتية أو تفاصيل الشكل الخارجي الدقيقة من الثبات والحركة، بالاستناد على مجموعة هائلة من البيانات التي تم حفظها عن كافة الأشخاص والمنشآت والأجهزة والآلات التي تستعمل في النشاطات الأمنية والعسكرية، لذلك يتم عمداً إبعاد المداخل والمخارج لهذه المنشآت والمخابئ العميقة لمسافاتٍ بعيدة، قد تتجاوز عشرات الكيلومترات، في محاولة لإخفاء وتضليل العدو عن ما يدخل إليها وما يخرج منها.

لطالما شكَّل استهداف هذه المخابئ معضلة للجيوش والدول، لذلك بدأت الصناعات العسكرية تعمل على تصاميم لقنابل تستطيع الوصول إلى المخابئ العميقة وتدميرها، وكان أول ظهور حديث لاستخدام لقنابل من هذا النوع في أفغانستان، في نيسان من العام 2017، ، حينها وبأمر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ألقى الجيش الأمريكي “قنبلة عصف هوائي- Massive Ordnance Air Blast bomb”  من طراز “جي بي يو-43/بي- The GBU-43/B” مستهدفاً موقعاً لتنظيم الدولة الإسلامية في ولاية “نانغرهار”، وقد مُنحت هذه القنبلة لقب “أم كل القنابل-MOAB, The Mother Of All Bombs”.

يبلغ طول “GBU-43” 9 أمتار وقطرها متراً واحداً، يتم إلقاء هذه القنبلة المسيرة بنظام تحديد المواقع بالأقمار الصناعية، من مزلقة الشحن في طائرة النقل من طراز “C-130″، وتبطيء مظلة سرعة سقوطها وهو ما يسمح بإلقاءها من ارتفاع أكبر ويمنح بالتالي الطيار وقتاً كافياً للخروج من منطقة العصف، وقد صممت هذه القنبلة الارتجاجية لتنفجر قبل ارتطامها بالأرض لتتسبب بقوة عصف هائلة وتوليد موجة صدم مدمرة، وقد تم تطوير هذه القنبلة في مختبر أبحاث القوات الجوية الاميركية في العام 2003، لتكون سلاحاً فعالاً للتأثير في المناطق الجبلية الوعرة والقوية الانحدار والمليئة بالكهوف العميقة، حيث أن عصفها قادر على الوصول عبر الانعطافات والزوايا الحادة وبزخم كبير إلى عمق هذه الكهوف والأنفاق.

مقابل “أم كل القنابل”، طوَّر الروس ما أطلقوا عليها تسمية “أب كل القنابل-FOAB: Father Of All Bombs”، ووفقاً لتصريحات مسؤولين في الجيش الروسي،  فهي قنبلة حرارية أقوى بأربع مرات من “أم كل القنابل” الأميركية ، وتبلغ قوة تفجيرها 44 طناً من مادة “TNT”، ويُصادق خبراء أميركيون على ما صدر عن الجيش الروسي في شأن هذه القنبلة، مؤكدين إن “FOAB” هي قنبلة حرارية، تنفجر حمولتها متسببة بدرجات حرارة عالية جداً، ما يعني أن الكائنات الحية داخل منطقة التفجير سوف تتبخر، مما يجعل ” FOAB” سلاحًا فظيعًا بشكلٍ مذهل. وهذه القنبلة وعلى الأرجح يتم إسقاطها من القاذفات الإستراتيجية الروسية مثل التوبوليف “TU-160M” أو كما يسميها الغرب “Black Jack”.

 أعلنت روسيا أن القنبلة تم اختبارها بإلقائها من الجو لأول مرة في العام 2007. صرح حينها “ألكسندر روكشين”، نائب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية في ذلك الوقت، إن القنبلة الجديدة قادرة على إرسال موجات صادمة بقوة قنبلة نووية. وقال روكشين إنه وفقاً لنتائج اختبارات هذه الذخيرة الجوية يمكن مقارنتها بسلاح نووي من حيث كفاءتها وقدراتها، مؤكداً أن تأثير هذه الذخيرة لا يلوث البيئة بأي شكل من الأشكال مقارنة بالذخيرة النووية، والقنبلة الروسية “FOAB” يبلغ وزنها 7100 كلغ، وهي أخف وزناً من القنبلة الأميركية “MOAB” والبالغ 8200 كلغ. 

في فترة الإعلان عن تصنيع ” أب كل القنابل” من قبل روسيا، كانت الولايات المتحدة تطوِّر نسخة جديدة من “أم كل القنابل” تحت تسمية “GBU-57 ” أو “MOP-Massive Ordnance Penetrator” ويبدو أن تطوير هذه الأنواع من القنابل، يأتي ليحاكي متطلبات عسكرية خاصة، مثل الحاجة لاستهداف مناطق معينة أو أهداف محددة قد تضطر الدولة الصانعة لضربها في المستقبل، وفي تقرير لشبكة NBC في أيار من العام 2023، أوضح أن الجيش الأميركي نشر صوراً للقنبلة الجديدة “GBU-57” أثناء عملية إسقاط اختبارية من قاذفة “B-2” الشبحية، وهذه القاذفة هي الوحيدة التي تستطيع حمل وإسقاط هذه القنبلة، ويعتقد التقرير أن هذه الصورة والتي تم حذفها لاحقاً، مرتبطة باحتمالات شن هجمات على منشآت إيران النووية حيث يجري التدريب على ذلك بشكلٍ سري، وهذه المنشآت تحت الأرض قد يصل عمق بعضها، وفقاً لتقارير غربية، إلى حوالي 100 متر، وكان الجيش الأميركي قد طلب عدة قنابل من هذا النوع ومن المفترض أن يكون قد تسلَّمها بين العامين 2018 و2020، ولهذه القنبلة قوة اختراق وقدرات تدميرية قد تصل إلى أعمق من 60 متراً في باطن الأرض.

اختبرت الصين في العام 2019، النسخة الصينية من أم القنابل، حيث تم إلقاؤها من قاذفة ثقيلة نوع H6-K، وتم الاختبار بنجاح، ولم يُعرف اي معلومات إضافية عن هذه القنبلة سوى أن طولها يبلغ حوالي 7 أمتار، وأنها تسببت بانفجار هائل وعامود ناري ودخاني ضخم جداَ. 

لم تصدِّر روسيا قنبلتها “FOAB”  إلى أي دولة أخرى،  ومن غير المرجح أن تقوم بتصديرها في المستقبل، فهذه الأسلحة فريدة من نوعها، واستعمالها يتطلب شروط ووسائل إطلاق خاصة، كما أن الطلب عليها منخفض بسبب كلفتها العالية وندرة الحاجة لها، ومن الصعب أيضاً أن ترضى الدول المصنعة لها أن تصدرها لدول أخرى، فهي لا تريد كشف أسرارها وطبيعة المواد المستعملة فيها، وعلى الرغم من ذلك ربما تكون الولايات المتحدة قد صدَّرت منها إلى دولة واحدة هي إسرائيل، ولغاية الآن لم يسجل أي حالة إستعمال من قبل سلاح الجو الإسرائيلي لهذا النوع من القنابل في غزة أو في أي مكان آخر، ولكنها استخدمت قنابل مشابهة ولكن بقوة تدميرية أقل، مثل قنابل “MK-82″ التي تزن 227 كلغ  و”MK-84” التي تزن أكثر من 900 كلغ. وقد حصلت إسرائيل على 2300 قنبلة من هذين النوعين في الفترة الأخيرة، لتعزز ترسانتها من القدرات التدميرية.  

 تعتبر القنابل مثل “أُم وأب كل القنابل”، ذات القوة الهائلة، والتي تم تصنيعها للاستعمال ضد أهداف منيعة، خياراً جيداً بالنسبة للجيوش التي تريد التأثير بقوة على معنويات الأعداء وتدمير تحصيناتهم القوية والعميقة، دون أن تضطر لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية والتعرض لإنتقاد المجتمع الدولي، ويأتي التركيز على هذا التصنيع في الآونة الأخيرة، ليشكل استجابة لتهديدات “ما تحت سطح الأرض-Underground Threats”، ومحاولة لتجريد الأعداء من ميزة الحماية والتخفي في الكهوف والحفريات الضخمة والعميقة في باطن الأرض. ويُشكِّل ذلك نهجاً جديداً في التسلح، والذي يهدف لامتلاك قدرات تدميرية تُغني عن الأسلحة النووية أو الكيميائية أو الجرثومية، وبالتالي فهناك احتمالات كبيرة لاستخدام هذه القنابل في ظروف المواجهات الحالية المشتدة أو المتوقع حدوثها مستقبلاً، لا سيما في أوكرانيا وربما في منطقة الشرق الأوسط.