العقيد الركن م ظافر مراد
يشهد العالم حالياً حروباً هجينة في أكثر من مسرح عمليات، تستعمل فيها أساليب وقدرات متعددة ومتنوعة تتجاوز المفاهيم التقليدية للحروب، وتشمل كافة المجالات والقدرات وعناصر القوة الوطنية ومزيج القوتين الصلبة والناعمة (ما يسمى بالقوة الذكية)، والفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل وآليات الإعلام والتأثير على الجماهير وعلى صانعي القرار. وتدور هذه العمليات في كافة المسارح والمجالات، وهي تختلف في درجة التصعيد وفي أبعادها وأشكالها المادية من منطقة إلى أخرى، ولكن وبشكلٍ عام، تدور المواجهات بين “قوى الغرب” وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، في مواجهة “قوى الشرق” تحت قيادة كل من روسيا والصين، وفي الوقت التي تحتفظ فيه قوى الغرب بنسيجها الأيديولوجي الخاص كمعتقدات ومباديء فكرية وإسلوب حياة، تنفتح قوى الشرق على مزيج معقد من الأيديولوجيات والديانات والمباديء الفكرية المتنوعة وأساليب الحياة المختلفة، والتي بمجملها تستعدى الغرب، أو تدافع عن نفسها في مواجهة الهجمات الغربية ضد ثقافتها ومصالحها ووجودها.
تشمل المواجهات بين الشرق والغرب مجالات مادية متعددة، وهي أصبحت في الحروب الحديثة تتجاوز الأبعاد التقليدية الثلاث، البر والبحر والجو، وقد أضيف إليها أبعاد ثلاث أخرى، هي الفضاء والبعد السيبراني، إضافةً إلى بعد مادي يستحق أن يتميز عن غيره، وهو ما يسمى “تحت سطح” أي في أعماق البحار والمحيطات، حيث توجد الكثير من الثروات والمنشآت الحساسة ومكامن القوة الخطيرة التي يصعب مراقبتها وملاحقتها.
إن أبرز أدوات القوة العسكرية المستعملة في مواجهات “تحت سطح-Submarine” هي الغواصات في الدرجة الأولى والتي تطلق الطوربيدات على الأهداف تحت سطح الماء، ثم سفن السطح والطائرات التي تلقي قنابل الأعماق والمقذوفات الصاروخية التي تضرب أي هدف أو منشأة تحت سطح الماء أو في الأعماق، ومؤخراً تم تطوير غواصات صغيرة مأهولة أو غير مأهولة، مهمتها تنفيذ عمليات خاصة في الأعماق، ولا يجب أن ننسى الوحدات الخاصة من الغواصين القادرين على تنفيذ أعمال مماثلة، ولكن على أعماق قليلة. أما الأهداف التي يمكن أن تطالها العمليات “تحت سطح”، فهي كابلات الإنترنت، كابلات الربط الكهربائي، أنابيب إمداد النفط والغاز، منشآت إستخراج وصناعة موارد الطاقة، منشآت وعتاد مخصص للمراقبة والتجسس ونقل المعلومات العسكرية.
لقد كانت عملية تفجير أنابيب “نورد ستريم” التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، سابقة خطيرة تمس بأمن الطاقة العالمي، وقد شكَّلت هذه العملية “نموذجاً عن مواجهات تحت سطح”، وقد ساد الغموض تفاصيل تلك العملية، وعلى الرغم من توافر بعض المعلومات عن قيام غواص أوكراني بتنفيذها، إلا أن الجميع يعلم أن قراراً من هذا النوع، وتنفيذاً بهذا المستوى من الدقة والإحتراف لا يمكن أن يقف وراءه شخص، بل هو عمل مخابراتي إستوجب قدرات وتقنيات عالية المستوى، ولا يمكن ضمان نجاحه دون مساعدة خارجية.
يوجد على عمق آلاف الأقدام تحت سطح البحار والمحيطات، شبكة عالمية من كابلات الإنترنت المسؤولة عن تشغيل 97% من الاتصالات الدولية في عصرنا الرقمي، وتشكل هذه الكابلات ذات البنية المادية المعقدة، عنصراً أساسياً وحاجة لا يمكن الإستغناءعنها في النشاطات الوطنية والدولية على كافة المستويات، وإن اي مسّ أو تعطيل لها، من شأنه أن يعطِّل وصولنا إلى شبكة الإنترنت من خلال الهواتف وأجهزة الكمبيوتر، وسيعطل كل شيء من تبادل المعلومات والمعاملات المالية والخدمات المدنية والعسكرية وإدارة النقل والتجارة الدوليين، كما تعتمد العديد من إدارات الدفاع بشكل كبير على هذه الكابلات البحرية. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 10 تريليون دولار من المعاملات المالية تتم سنويًا عبر أكثر من 950 ألف كيلومتر من الكابلات الضوئية البحرية، الأمر الذي سيدفع بالعالم إلى فوضى هائلة تتسبب بكثير من ضياع البيانات والخسارات، وايضاً تتسبب بكثير من الكوارث وربما الضحايا باعداد كبيرة، وبحسب الخبراء فإن هذا السيناريو المروع يرقى إلى مستوى الحرب النووية كتهديد وجودي لأسلوب حياتنا. وعلى الرغم من أن الطبيعة المادية لهذه الكابلات قد تحميها من العوامل الطبيعية والحوادث البسيطة، إلا أنها لا تصمد أمام التفجيرات وأعمال التخريب الممنهجة، وتُصنع الكابلات البحرية من ألياف بصرية مصنوعة من زجاج السيليكا، وهي رقيقة للغاية ومغطاة بطبقات عديدة من البلاستيك والنحاس والفولاذ للعزل والحماية.
يعود تاريخ تركيب هذه الكابلات في أعماق البحر إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، بعدها تأسس الاتحاد الدولي للتلغراف (ITU) في عام 1865 والمعروف الآن باسم الاتحاد الدولي للاتصالات، وقد اتخذ هذا الإتحاد عدة خطوات لحماية الكابلات البحرية، بما في ذلك اتفاقية عام 1884 لحماية كابلات التلغراف البحرية. ومع ذلك، ظلت هذه الكابلات موضوعاً مثيراً للجدل بين الدول، مع عدم وجود إجماع على تدابير الحماية أثناء الحرب. وفي عام 1982، تم توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتي كانت مكملة لاتفاقية الاتحاد الدولي للاتصالات بما يتعلق في حماية حرية الشركات في مد الكابلات وخطوط الأنابيب البحرية في المياه الدولية. ومع ذلك، لم توقع الولايات المتحدة على هذه الاتفاقية بعد، ولدى كل من الولايات المتحدة والصين قوانين وطنية تتعارض مع بعض أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. كما أن الشبكة المتنوعة والمتعددة الأوجه من الجهات الفاعلة المشاركة في الكابلات البحرية تضيف مزيداً من التعقيدات إلى جهود التنسيق التي يبذلها الاتحاد الدولي للاتصالات. وفي غياب بيئة تنظيمية قوية وفاعلة تضمن حماية الكابلات البحرية، تزداد المخاطر المرتبطة بسلامة الإتصالات الدولية وشبكات الإنترنت بسبب تصاعد الصراعات، خاصة في المواقع الجيوستراتيجية الهامة، مثل البحر الأحمر وبحر الصين الجنوبي.
نشر موقع “Global Sentinel” في تشرين الأول 2024، حديثاً لرئيس الأركان العامة في الجيش البريطاني الأدميرال السير توني رادكين، أن روسيا هي القوة المعادية الأكثر احتمالاً لشل هذه الشرايين الحيوية، مشيراً إلى إنه كانت هناك “زيادة هائلة” في نشاط الغواصات الروسية على مدى السنوات العشرين الماضية، وروسيا طورت قدراتها على تعريض تلك الكابلات البحرية للخطر، مضيفاً إن أي تدخل من هذا القبيل سوف يتم التعامل معه بمنتهى الجدية. وعندما سُئل عما إذا كان تدمير الكابلات يمكن اعتباره عملاً من أعمال الحرب، أجاب “ربما نعم”.
لم يخرج الإستثمار في كابلات الإتصالات البحرية عن الصراع الاميركي-الصيني، فقد استثمرت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت وميتا بكثافة في هذا القطاع، وبين عامي 2016 و2022، بلغ إجمالي هذه الاستثمارات حوالي 2 مليار دولار، وهو ما يمثل 15٪ من الاستثمارات العالمية في الكابلات البحرية، ومن المتوقع أن يزيد هذا الرقم بمقدار 3.9 مليار دولار إضافية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وهو ما يمثل 35٪ من الاستثمارات العالمية في هذا القطاع. ويأتي ذلك على خلفية الصراع الأميركي-الصيني للسيطرة على كابلات الإتصالات، حيث أن تحقيق الهيمنة يتطلب السيطرة على وسائل نقل المعلومات السريعة، وأصبحت كابلات الإنترنت البحرية بمثابة المركز العصبي الجديد للقوة العسكرية والتجارية في النظام الدولي الحديث، الذي تسوده المنافسة على طريق بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب. وهذا يفسر إطلاق بكين لطريق الحرير الرقمي في عام 2015، والذي تضمن استثمارات ضخمة في الكابلات البحرية لترسيخ هيمنة الصين في المجال الرقمي، وتطوير قدراتها، وإنهاء السيطرة الغربية على هذا المجال. وتشكل هذه المبادرة جانبًا مهمًا من حروب الكابلات البحرية الحالية.
استحوذت شركة هواوي مارين على ما يقرب من 15% من سوق الكابلات البحرية العالمية في عام 2019 قبل مواجهة عقوبات أمريكية صارمة، وقد أدى ذلك إلى استحواذ شركة الكابلات البحرية الصينية، على شركة هواوي مارين، وهي تسعى منذ ذلك الحين إلى الحصول على عقود كبيرة في صناعة الكابلات البحرية. وردًا على تصرفات الصين، فرضت الولايات المتحدة قيودًا مختلفة على الشركات الصينية، في محاولة لاستبعادها من الصفقات الكبرى. وتقوم واشنطن بالضغط على شركات الإتصالات لعدم دعم العروض الصينية. وفي عام 2021، أقنع الضغط الأمريكي البنك الدولي بإلغاء مشروع كابل بحري كان من المفترض أن يربط بين ثلاث دول جزرية في المحيط الهادئ لتجنب منح العقد للشركة الصينية، وفي آذار 2023، أقر الكونجرس الأمريكي قانونًا للسيطرة على الكابلات البحرية، مما يضمن استمرار التفوق الأمريكي في هذا المجال. وعلى الرغم من ذلك، فقد واصلت الشركات الصينية بناء الكابلات الدولية لبكين والعديد من الدول الحليفة لها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وتشارك العديد من السفن الصينية حاليا في عمليات إصلاح معقدة للألياف الضوئية، حتى تلك المملوكة للولايات المتحدة، الأمر الذي يعقد جهود واشنطن الرامية إلى استبعاد الشركات الصينية من العمود الفقري للإنترنت العالمي.
أصبحت كابلات الإتصالات البحرية والبنية التحتية الأخرى المتعلقة بها، هدفاً حرجاً وضعيفاً قد يتم تعطيله أو تدميره في أي مواجهة مقبلة، وينبع هذا الضعف من المنافسة الدولية الشرسة في الهيمنة على الإتصالات الدولية، لا سيما في ظروف الحرب، إضافة إلى أن طبيعة البعد المادي تحت السطح، يصعب رصده ومراقبته، بسبب المساحات الهائلة للمحيطات والبحار، وبسبب الأعماق الساحقة المعتمة حيث لا رؤية ولا إستشعار، لذلك فإن الكابلات البحرية تُعد نقطة ضعف حرجة في الاقتصاد العالمي، مما يجعلها هدفًا رئيسيًا للصراعات في المنطقة الرمادية التي تنطوي على هجمات يمكن إنكارها، ولا تتسبب أو تتصاعد إلى مستوى الحروب واسعة النطاق.
شهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في الهجمات المتعمدة والعرضية على الكابلات البحرية. على سبيل المثال، تم قطع العديد من الكابلات قبالة ساحل جنوب فرنسا في نيسان وتشرين الاول عام 2022، مما أثر على الكابلات الرئيسية في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة. وفي شباط 2023، قطعت السفن الصينية كابلات بحرية تابعة لجزر ماتسو التايوانية. ما تسبب بتباطوء الإنترنت بشكلٍ كبير، وفي شباط 2024، تباطأت اتصالات الإنترنت فجأة في أجزاء من آسيا وأفريقيا وأوروبا بسبب الأضرار التي لحقت بثلاثة كابلات بحرية في البحر الأحمر، ويعد البحر الأحمر نقطة اختناق بالغة الأهمية للإنترنت والاتصالات، حيث يمر عبره حوالي 90% من الاتصالات بين أوروبا وآسيا، كما يمر عبره 17% من حركة الإنترنت العالمية عبر الكابلات البحرية في مضيق باب المندب. ورغم عدم وجود هجمات حوثية مباشرة على الكابلات البحرية في البحر الأحمر، إلا أن بعض التقارير الأميركية تشير إلى تسبب بالاضرار بطريقة غير مباشرة، حيث تسبب إستهداف السفينة البريطانية “روبيمار” بصاروخ حوثي في شباط 2024، بقطع بعض الكابلات البحرية.
يسود الغموض بيئة العمل في المجال “تحت سطح”، لذلك اصبح هذا المجال منطقة جذب للحروب الهجينة. ويزداد هذا الوضع خطورة نظرًا لسهولة استهداف البنى التحتية هناك، حيث يمكن لأي دولة صغيرة أو ضعيفة، القيام بذلك، كما يمكن لأي جهة غير حكومية أو منظمة عسكرية أن تشكِّل تهديداً مباشراً لها، إضافةً إلى صعوبة إثبات وتحديد الفاعل الذي يقف وراء أي عمل تخريبي، وتعتبر مراقبة الكابلات البحرية مهمة مستحيلة، حيث يمكن أن تلف هذه الكابلات العالم 30 مرة إذا تم وضعها في خط مستقيم، وبعض هذه الكابلات تقع على أعماق كبيرة تصل إلى 8000 متر، وهو ما يشكل تحديًا كبيرًا للعمليات في هذه الأعماق، ولا شك أن المستقبل سيشهد الكثير من الإستهدافات تحت السطح، وسيحوذ هذا المجال على الكثير من الإهتمامات العسكرية في مجال الهجمات والمناورات وتدابير الحماية، وقد تركز المنظمات العسكرية غير الحكومية على تطوير قدراتها في هذا المجال، لتستطيع التهديد وإيقاع الخسائر بخصومها.