العميد صلاح الدين أبوبكر الزيداني الأنصاري
تعرف العقيدة العسكرية بأنها جملة المباديء والأفكار والممارسات والأساليب النابعة من الخبرة العملية والدراسات النظرية التي تمكن القوات المسلحة من إدارة أعمالها في السلم والحرب لتعزز من كفاءتها وفعاليتها القتالية وتوجيه العمليات العسكرية وتحديد كيفية خوض الحروب وهي ليست نموذج ثابت بل مزيج مرن من الخبرات والدراسات تتغير بتغير الزمان والمكان والمصالح .
كما نحتاج للتطور التقني ومواكبة التكنولوجيا في تجهيزاتنا القتالية من أسلحة ومعدات , نحتاج أيضاً للتطور الفكري العسكري الذي عادة ما يصاحب تلك التطورات التقنية للوصول إلى الكيفية والأسلوب الأمثل لإدارة التطور التقني بمستوى مميز ومثالي من الأداء لإستخدام تلك التقنيات والتكيف مع ظروف ومستجدات التقدم التقني والفكري العسكري وتطور السياسات المحلية والدولية وغاياتها , ولذك نحتاج لتبني وصياغة عقيدة عسكرية خاصة تتلائم مع حاجات وتطلعات وظروف الدولة وجيش بلا عقيدة سيكون كدولة بلا دستور تحكمها الأهواء والآراء الشخصية التي قد تصيب ولكنها كثيراً ما تخطيء .
تسعى الجيوش لتطوير ذاتها وتغيير عقائدها كل فترة وأخرى بما تتطلبه التغييرات الحاصلة في بيئة الحروب المرتبطة بشكل الطبوغرافي والتطور التكنولوجي، والتغيرات الجيوسياسية، وتقدم دراسات الفكر العسكري وأشكال النزاع المسلح بما يحقق لها المرونة اللازمة لمواكبة الظروف الجديدة والمستحدثة حتى تكون أكثر قدرة على تحقيق أهدافها بفعالية خاصة بعدما شهدناه في الحروب والنزاعات المسلحة من تداخل في أشكال الحروب وإستراتيجيات القتال , خاصة وقد أثبتت الدروس المستفادة تاريخيا بأن أي تغيير يحدث على مستوى العقائد أو التنظيم المؤسسي أو التكنولوجيا من شأنه أن يعزز من الفعالية القتالية للقوات المسلحة.
ومن أهم المرتكزات التي تبنى عليها العقائد العسكرية للجيوش التاريخ الحربي والدروس المستفادة منه وهذه تشمل دراسة مستفيضة لميادين الحروب وبيئتها وما يجرى فيها من حركات تعبوية وأنواع الأسلحة المستخدمة مع دراسة الظروف السياسية المحيطة والمتغيرة ومصادر التهديد وكذلك النتائج المباشرة للحرب وإنعكاس أثرها بشكل مباشر على العقيدة العسكرية المتبناة , وهناك أيضاً ماهية وطبيعة الحرب التي من الممكن أن تخوضها الدولة ونوع ومشروعية ومستوى وسائط القتال المتاح استعمالها في الحرب المتوقع أن تخوضها الدولة لتأمين كيانها وحدودها وأمنها مع توقع حدوث الأسوأ وهذه القواعد تساعد عملياً على إتباع وتبني عقيدة مناسبة تحقق السيادة والإستقرار بما يلائم متطلبات الإستراتيجية العسكرية للدولة.
ومن جملة الأساسات أيضا جغرافية الدولة وطبيعة أراضيها التي تنعكس على عقيدتها العسكرية المتبناة فموقع الدولة وطبيعة وتضاريس أقاليمها يحدد حجم تنظيماتها العسكرية ونوعيتها وطريقة استخدامها إلى جانب الواجبات والمهام العسكرية والأمنية التي تلعب دوراً رئيسياً في وضع وتطوير العقيدة العسكرية.
لسنوات خلت سادت العديد من العقائد العسكرية في مختلف الجيوش وتغيرت في بعضها لمرات عديدة بما يلبي مبادئها وواجباتها ومؤخراً فضلت بعض الجيوش الغربية العقائد العسكرية التي تعتمد أنماط التنقل والعمليات غير المتكافئة، والتي يكون للقوات الجوية والصواريخ دوراً بارزاً فيها وابتعدت تدريجيًا عن استخدام الدبابات الثقيلة والحرب البرية , مع محاولة توفير بدائل وأفكار جديدة لعقائد تكون متوافقة مع بنية الجيوش وعملياتها لتكون الأفضل.
تاريخياً تعتبر المدرعات من أقوى الوسائط القتالية التي ترتكز عليها قوة الجيوش ولا تزال كذلك فهي رأس الحربة وحجر الزاوية في خطط العمليات القتالية وبالتالي كان لها وضعها وحسابها في تقدير واضعي العقائد العسكرية على إعتبار أن هذه الأسلحة لها دورًا رئيسيًا في تحقيق التفوق على الأرض، ويُنظر إليها على أنها تعكس القوة الضاربة القادرة على تنفيذ العمليات في مختلف البيئات ولذا كان من الضروري أن تتكيف الدبابات مع التغيرات الحاصلة في بيئة القتال وساحة المعركة وتطور الأسلحة المضادة لها , وما يتطلبه ذلك من تحديث لإستراتيجيات القتال بإدماج هذه العناصر في خطط العمليات مع أنه لا يمكن للعقيدة والتدريب أن يفعلا الكثير عندما يتم فعل الشيء الخطأ بالأدوات الخطأ , خاصة إذا علمنا أن تكلفة الصراع باهضة فقد وصلت إلى مايقارب عن تدمير 3000 دبابة وخسارة مئات الآف من الرجال في الجانب الروسي وأضعاف ذلك في الجانب الأوكراني ولاتزال تتضاعف كل يوم.
وكان من المهم حساب خطر الأسلحة المضادة والمهددة للدبابات في بيئة عملها والعمل على تحييدها بمختلف الوسائل وتقليل المخاطر التي يتعرض لها اطقم المدرعات مع الحفاظ على قوة فتك عالية ضد الأهداف المدرعة
ثبت بأن أحدث الدبابات تظل عرضة للتهديدات الجديدة المستمرة مثل الطائرات بدون طيار والذخائر المتسكعة ومسيرات FPV والقذائف الصاروخية ATGM التي جعلت من الدبابات أهدافا سهلة وقبور حديدية لا تتوفر فيها أية وسيلة أمان وكل ذلك فتح باب الأنظمة الدفاعية المختلفة وشجع الجيوش على تجهيز دباباتها بأنظمة حماية نشطة قادرة على تحييد التهديدات قبل وصولها , لكن ذلك اثر بشكل سلبي على دورها وأهميتها في الحروب وجعل أغلب الجيوش الأوروبية تبتعد تدريجيًا عن إستخدام الدبابات لصالح وحدات أخف وزناً وأكثر قدرة على المرونة والحركة لمواكبة للعمليات القتالية.
ومع ذلك فقد أبرز غزو روسيا لأوكرانيا والحرب التي لا تزال دائرة هناك أهمية إستخدام الدروع الثقيلة لدعم الاختراقات والحفاظ على الخطوط الدفاعية، وتعزيز دور وحدات المشاة وظهرت دبابات حديثة مثل الألمانية ليوبارد 2A8 كسلاح رئيسي في محاولة جادة لإستعادة دورها المركزي في الميدان مع الحذر الذي صاحب تنفيذ عقائد قتالية تعزز من دور الدبابات الثقيلة وتأثيرها التعبوي والاستراتيجي وقدرتها على البقاء والفعالية في ساحة المعركة .
في الحرب الروسية الأوكرانية أمتزجت العمليات العسكرية الدائرة هناك بأنماط قتالية جديدة من حيث ظهور المسيرات والذخائر المتسكعة وما شكل ذلك من أخطار على كلا الفريقين مع أن الجيش الروسي ربما كان قادراً بأمكاناته الواسعة على هزيمة أوكرانيا، لو أنه اتبع عقيدته الخاصة ، ولكن يبدو أن التخلي عن عقيدته العسكرية التقليدية التي اتبعها منذ عقود لم يكن موفقاً ، وأن محاولة تقليده للعقائد العسكرية الغربية سبَّب إخفاقهم في إلحاق هزيمة كبيرة بأوكرانيا كما كان يتوقع العديد من الخبراء وخاصة في بداية الحرب.
وفي هذا المقام يقول أحد خبراء مؤسسة راند إن القادة الروس أخطأوا كثيراً في أساسيات العمليات العسكرية، وإن التكلفة الباهظة التي تحملتها روسيا لغزو أوكرانيا كانت نتيجة لعدم اتباع عقيدتها العسكرية , وبحسب ما نقل عن موقع Business Insider”” الأمريكي افتقر الروس أيضاً إلى حجم قوة الغزو اللازم لاتباع عقيدتهم القتالية.
تتباين العقائد القتالية التي اصطدمت ببعضها في الحرب الروسية الأوكرانية فينما تؤكد العقيدة العسكرية الروسية على العمليات الهجومية البرية واستخدام القوات المخصصة للمجهود الرئيسي دون النظر لأهمية المرونة والقدرة على التكيف لمحاولة تحقيق نصر حاسم مع التأكيد نظريا على معركة الأسلحة المشتركة , يقابلها في الجهة الأخرى الأوكران الذين إنتقلوا منذ فترة لتبني العقيدة العسكرية الغربية والتي تعتمد على استخدام المناورة والتحركات السريعة لإختراق نقاط العدو أو الالتفات حوله، وفصل قواته لتحقيق الأهداف
رغم أن العقيدة العسكرية الروسية، تؤكد نظرياً على حرب الأسلحة المشتركة لكنها واقعياً لم تنفذ ذلك بنفس كفاءة الجيوش الغربية وذلك للإختلاف الحاصل في نظريات التعبية وأسس العمليات والآداء الميداني على إعتبار أن الجيش الروسي يعطي أولوية لإستخدام للدبابات والمدفعية وتثبيت قواته على الأرض بينما يعطي الجيش الأوكراني أولوية للضربات الصاروخية والجوية والمسيرات وتنفيذ هجمات سريعة وكمائن للإقلال من الفرق الشاسع الحاصل بين الفريقين في العدة والعتاد.
يمكننا وصف العقيدة الروسية العسكرية بالزحف والاكتساح والقتال على نطاق واسع بهدف التدمير مقابل عقيدة الاختراق والالتفاف بهدف الخنق لدى الجيش الأوكراني ومثل هذه العمليات في الحروب لن تكون حاسمة ومن المرجح أن تستمر لفترات طويلة وأن النصر فيها لن يكون متاحاً في القريب المنظور بشكل كامل ما لم تكن هناك ضربات باللاح النووي أو الوصول إلى تسوية سياسية شاملة بوساطات دولية.
عادة ما تحاول الجيوش القتال وفقاً لعقائدها، والي تعتبرها المبادئ الأساسية التي تدربت عليها وتهدف من خلالها إلى توجيه العمليات العسكرية لكن ما حدث فعليا في ميادين القتال جعل كلاً من الطرفين يراجع عقيدته القتالية ويتبنى عقيدة جديدة أو معدلة تتماشى مع أهدافه وغاياتاته , خاصة وان الجيش الاوكراني قد تبنى العقيدة القتالية الامريكية منذ عام 2014م والتي تقوم على مبدأ “الحرب الخاطفة” وضمن هذا السياق نورد ما تحدث به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في العام 2022م عن إمكانية تعديل العقيدة العسكرية لبلاده التي كانت تعتمد “المعركة العميقة” والتي تقوم على التوغل بعمق وسرعة في أرض العدو لإكتساب الأرض والإحتفاظ بها وخلخلة نظامه الدفاعي لصالح عقيدة جديدة من أجل إتاحة “تنفيذ ضربة استباقيّة” لنزع سلاح العدو، وقال بوتين إن موسكو تدرس تبني ما سماه مفهوم واشنطن للضربة الاستباقية ، مضيفًا (أولاً طورت الولايات المتحدة مفهوم الضربة الوقائية، وثانيًا هي تعمل على تطوير نظام ضربات يهدف إلى نزع سلاح (العدو) ، وهذا ما جعل أمد الحرب وصراع الإرادات يطول في الصراع الروسي الأوكراني الذي تحول إلى ميدان حرب أوروبية دفعت فيها أوروبا بكل أسلحتها لمواجهة الروس الذين ساندهم حلفاؤهم في ذلك الصراع الذي لن يكون سوى حلقة متجددة في حلقات الصراع العالمي.
لكن المفاجأة الأكبر كانت ما ذكره نائب وزير الخارجية الروسية، سيرغي ريابكوف مؤخراً ، حين صرح بأن روسيا ستغير عقيدتها النووية، بناءً على تحليل الصراعات الأخيرة والإجراءات الغربية فيما يتعلق بالعملية العسكرية الخاصة , وهنا يتغير الحال والوضع لتبني عقيدة جديدة ستكون رادعة وحاسمة هذه المرة.
هناك علاقة وثيقة بين العقيدة القتالية والعلم العسكري فالعقيدة تبنى على أساس منجزات العلوم العسكرية والعلوم العسكرية تعمل على تحقيق متطلبات العقيدة القتالية ومن المؤسف أن جيوشنا العربية لا تلق بالاً لهذه التطورات الحاصلة في الفكر العسكري لإعتماد عقائد جديدة ومحدثة لجيوشها خاصة بها تتزود بالسلاح وتعدل نظم تعليمها وتدريبها العسكري وفقاً لها ومن المهم أن يتنبه القادة السياسيين والعسكريين لذلك لبناء جيوش وطنية قوية وفاعلة وتطوير عقائدها بما يلائم غاياتها وواجباتها في الأمن والدفاع.