عندما تُصبح الهزيمة فرصة تاريخية

العقيد الركن ظافر مراد

يُكتب التاريخ بمعظمه وللأسف من خلال الحروب والصراعات الدموية الحاسمة، والتي ينتج عنها تغيير جذري وفرض واقع جديد يغير من موازين القوى على المستويات الإقليمية والعالمية، ولطالما كانت  الحروب الكبرى عبر التاريخ، إيذاناً بنهاية إمبراطوريات وحضارات وبداية لعصر جديد لإمبراطوريات وقوى سياسية أخرى. وعلى الرغم من التزوير الكبير وقلب الحقائق في الكثير من الروايات على مر التاريخ، إلا أن هناك حقيقة واحدة ثابتة لا يمكن تغييرها، وهي أن دلائل ومعايير النصر والهزيمة لا تكمن في الحقيقة في النتائج المباشرة والآنية بعد إنتهاء الحرب، بل تظهر نتائجها الحقيقية على المدى الطويل، ويعود السبب في ذلك إلى مدى الحكمة والقوة الفكرية في التعامل مع أي واقع جديد، سواء كان هزيمة أو إنتصار، وأي خطأ في التعامل مع هذا الواقع، قد يتسبب للمنتصر بهزيمة ساحقة، وللمهزوم بمزيد من الخسائر لا يمكن من بعدها المحافظة على الكيان والبقاء، وهذا كان شأن الإمبراطوريات والقوى التي اندثرت عبر التاريخ وإلى الأبد.

تَفكَّك الإتحاد السوفياتي بعد عدة عقود من إنتصاره العظيم في الحرب العالمية الثانية، مقابل ذلك استطاعت ألمانيا واليابان أن تكونا قوة إقتصادية جبارة ومنافسة بعد هزيمتهما في هذه الحرب، وكان وضعهما افضل بكثير من وضع الإتحاد السوفياتي قبل تفككه، ويعود السبب في ذلك إلى السلوك السياسي والإقتصادي المتَّبع من قبل قياداتهما، وتخليهما عن الكثير من الطموحات والأفكار المدمرة وغير المنطقية في ظروف دولية غير مؤاتية، فركزا على بناء الدولة والمجتمع، وعلى تطوير الإقتصاد الوطني، فتفوقا إقليمياً وعالمياً.

في معظم الأحيان، وعندما يبدأ المشهد النهائي لنتائج أي صراع بالتشكُّل والتبلور بشكلٍ واضح، يكون الإقرار بالهزيمة فضيلة وإنكارها خطيئة كبرى، ويُصبح المضي في الحرب بلا جدوى، فقط عبارة عن تقديم المزيد من الخسائر ومزيد من الإنهيارات والتراجع في الموقف السياسي والعسكري. وفي مثال على ذلك، نرى أنَّ هذا ما يحدث حالياً في أوكرانيا، فلا يبدو أن روسيا ستتراجع، وهي مستعدة لاستعمال السلاح النووي في هذه الحرب، بينما يبدو الغرب غير مستعد لتقديم المزيد من المساعدات والأموال، ولا يريد التورط بمواجهة مباشرة قد تكون نووية مع روسيا، حيث ستجلب الدمار للجميع. وفي هذا الواقع، يُلمِّح الرئيس الأوكراني حالياً على قبوله بحل سلمي لا يُطالب فيه بالأراضي التي ضمتها روسيا، شرط أن تُصبح الأراضي الأوكرانية التي بقيت تحت سيطرة كييف خاضعة لحماية الناتو. وهو حقيقةً يُعلن الهزيمة بشكلٍ منمق، ولكن في وقت متأخر، وبعد تقديم الكثير من الخسائر الهائلة دون جدوى.

إن الإعتراف بالهزيمة مُبكراً، يقدم فرصة قد تكون تاريخية ولا تعوَّض لتغيير موقف أو نهج واستبداله بآخر، حيث يُشكل هذا الموقف عبئاً كبيراً والتزاماً لا جدوى منه، وهذا الإعتراف يُعطي فرصة أيضاً لإجراء مراجعة لكيفية إدارة المواجهة، وإعادة تقييم لأدوات الصراع وعناصر القوة المستخدمة فيه، وقراءة الظروف الدولية والوطنية الماثلة، أي تحليل وتقييم البيئتين الإستراتيجيتين الداخلية والخارجية ومدى ملاءمتهما لإستمرار المواجهة والحرب، وكل كذب وتضليل وإخفاء للحقائق في التحليل والتقييم، يكون جريمة ترتكب بحق الشعب والوطن، فلا يجوز حينها بث الأوهام والخطابات الحماسية المضللة، ولا تقديم تحليلات غير علمية وغير منطقية، فمن واجب القادة والمحللين السياسيين والعسكريين، تقديم الحقائق  وليس التمنيات، وشرحها بشكل واضح وعلمي شفاف ومتجرد دون تحوير، وهذه ليست فقط مسؤولية علمية وأكاديمية، بل أيضاً مسؤولية وطنية وإنسانية. وكل ما هو مطلوب بعد ذلك، التخلي عن الأوهام وتركيز الجهد على لملمة ما تبقى، وإعادة بناء الأوطان، وتحصين المجتمعات وتعزيز الإقتصاد وتقديم رؤية شاملة وصحيحة للمستقبل، والتوقف عن التسويق السياسي وخداع الجماهير، فالحرب لا تقوم وتستمر من أجل القتال والموت والدمار، بل لتحقيق أمن ورفاهية الشعوب.