التكنولوجيا الإسرائيلية الحديثة وتأثيرها في الحرب

العميد م. ناجي ملاعب

اليوم، وبعد اعلان وقف إطلاق نار على جانبي الحدود وموافقة لبنان وإسرائيل على نفاذ الآلية الجديدة لمنطوق القرار 1701 التي اقترحها الوسيط الأميركي ووافق عليها طرفا الصراع، وهو ما كانا ينشدانه من دون الإعلان الصريح، ينبغي اليوم البدء بمناقشة مجريات العملية القتالية التي دخل بها طرف لبناني من دون العودة الى الدولة، ما يمهّد لفهم ما قد يحمله المستقبل وما يجب التحضير له على كافة الصعد، مقابل عدو ما زال يحتل ارضا لبنانية ويعلن على الملأ انه سوف يغير خريطة المنطقة، ويعد مستوطنيه بأن ما وافق عليه هو وقف للنار وليست نهاية الحرب.

أهدف من خلال الطلب بمراجعة ما حدث، والمجال هنا محصور في مقالة وليس بحثا يقدم الى لجنة مختصة (إذا ما انشئت) الى اطلاع القراء من امنيين ومدنيين على كيفية التحضير الإسرائيلي في عالم الاستخبار والمعلومات واستعمال المجال السيبراني والتقدم التكنولوجي في العمليات الأمنية والعسكرية، وما استعمل منها في حرها على لبنان.

تقدم التطبيقات العسكريّة الاسرائيليّة للتكنولوجيا العالية – مجزرة البيجر نموذجا

الاختراق الأمني الغامض الذي ساعد إسرائيل على إنجاز عملياتها، والذي يكثر الحديث عنه قد يكون بدأ هناك في الجمهورية الإسلامية في طهران، خصوصاً أن إسرائيل تقوم بعمليات أمنية متواصلة في إيران ودون انقطاع، حتى من بدايات الثورة الخمينيّة. ثمة عمق استخباراتي لها في العهد البهلوي الذي توأم ما بين الموساد الإسرائيلي والسافاك الإيراني.

لقد حدثت مجزرة البيجر وأنجزت، مع عمليات الاغتيال الأخرى، في غزّة ولبنان – دون الحديث عن الاختراقات الأمنيّة – لسببين متكافلين: تقدم التطبيقات العسكريّة الاسرائيليّة للتكنولوجيا العالية، وعدم وعي هذا التقدم والعمل على تفادي مفاعيله من قبل قوى المقاومة الإسلاميّة.

وحول التقدم التكنولوجي الإسرائيلي والوصول الى صناعة وتنفيذ مجزرة البيجر يكتب الباحث السوري نزار سلوم: “يعود قرار إنجاز مجزرة البيجر -pager، في مرجعيته إلى مصدرين: أولهما ديني يتمثّل بتعاليم وتوصيات ومبادئ معروفة واضحة وصريحة مشروحة في التوراة، وثانيهما تكنولوجي يتمثل فيما توصلت إليه الصناعة التكنولوجيّة العالية الاسرائيليّة “هايتك” وما وضعته في خدمة الاستراتيجيّة العسكريّة وعقيدتها.

هل دخلت إسرائيل على حصون حزب الله المغلقة وذات السمعة الأسطورية من (الشريحة التشاركيّة) مع إيران؟ فمجزرة البيجر، هي رسالة واضحة عن طبيعة حروب المستقبل. السيولة المعرفيّة التي غمرتنا، وصلتنا في “صندوق صغير – جهاز”، مفتاح تحويله إلى باب جهنم بيد “آلهة التكنولوجيا” الذين تسمح عقيدتهم بالضغط عليه عندما يشاؤون. غزوة – ذات – البيجر، أو البيجر – المقدّس، هي عبارات مفتاحيّة صدرت عن جهات طائفيّة وسياسيّة مؤازرة لأنبياء الكتاب وتأويلات الفقهاء، ومتشفيّة ومحتفية بالخسائر التي حلت بحزب الله وبيئته.

المسار الاستدلالي على العقل القيادي الصهيوني؟

أحالت إسرائيل، ابتداءً من 8 تشرين أول 2023، غزّة إلى مكان غير صالح للحياة، ومارست المنهجيّة نفسها في جنوب لبنان وبعض مناطقه الأخرى. تطلب من السكان المغادرة، تلاحقهم إلى أماكن تجمّعهم لتقتل ما يمكنها منهم، وتهجّر من يبقى قسراً. تدمّر البنيّة التحتيّة تدميراً كاملاً، تقصف المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة والمراكز الثقافيّة. تدمّر الأماكن التاريخيّة التي تشكّل “شخصيّة المدن” وملامحها المميزة، وتقصف الآثار التي تعود إلى مئات وآلاف السنين، في غزّة والنبطيّة وصور وبعلبّك.

الأخطر في منهجيتها الراهنة: تجريف المكان المُدَمّر، أي إزالة المعالم التي يمكن أن تدل عليه كما كان. بالمعنى الحرفي، تحيله إلى رماد، تعيده إلى العدم.

ما تطبقه الدولة العرقية – والتي تنادي علنا بانها دولة اليهود – يستند الى “منهج الحلفاء” في بحثهم عن كيفية معاملة المانيا في اليوم التالي لانتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فمع بداية المؤشّرات الدّالة على اتجاه ألمانيا نحو الهزيمة العسكريّة، بدأت المداولات في الإدارات السياسيّة لدول الحلفاء تدور حول مستقبل ألمانيا ما بعد الحرب، أي: اليوم التالي. كان واضحاً عند الإنكليز والأميركيين، أنّهم يبحثون عما هو أبعد من الهزيمة وأقسى وأشدّ ألماً وأثراً على ألمانيا ومستقبلها. الهزيمة العسكريّة، وإن كانت ساحقة، إلّا أنَّ رصيدها يظل في الحقل الجيوسياسي مع الحقل المعنوي المرتبط بالكبرياء والكرامة القوميّة والشرف العام. يمكن تحديد منهج قادة الحلفاء في هذا المجال كما يلي: لا بدَّ من الانتقال من هزيمة ألمانيا عسكريّاً إلى هزيمة ألمانيا في وجودها ومعناه، في هويتها، وشخصيتها، ومرجعيّاتها، وتاريخها.

ومنذ بداية عملياتها الاجرامية، كانت إسرائيل غاضبة من الانتقادات الأجنبية لتصرفاتها في غزة – وعادت إلى الحرب العالمية الثانية لتبريرها. كان رد فعل نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، متشككاً عندما سُئل في وقت مبكر من الصراع عن الخسائر في صفوف المدنيين. وكان جوابه: “هل تسألني بجدية عن المدنيين الفلسطينيين؟ ما مشكلتك؟ . . . نحن نقاتل النازيين!

وقد ذكّر بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، الجماهير الغربية بالوفيات الجماعية للمدنيين الناجمة عن قصف الحلفاء لمدينة دريسدن في عام 1945. حتى أن أحد الوزراء الإسرائيليين تكهن بإسقاط سلاح نووي على غزة – على الرغم من توبيخه بسرعة.

لذلك، نرى ان إسرائيل تجاوزت في حربها الآنية، ما يمكن أن تسببه الإبادة الجماعيّة، وما هدد به قادتها مراراً بأنهم “سيعيدون غزّة ولبنان إلى العصر الحجري”، وتأخذ بمنهجيّة (الحل النهائي) وتستبدل عنوان كتاب كوفمان من “ألمانيا يجب أن تهلك” إلى “فلسطين يجب أن تهلك” و”لبنان يجب أن يهلك”…. وغبّ الطلب. وتعمل على إنتاج أعلى درجات الألم وأشدّه، بتجريفها لأرض المدن والقرى المدمّرة، أعلى درجات الألم التي تصهر الروح وتكوي الذاكرة. هي محاولة لتدمير الذاكرة على التوازي مع تدمير المكان، تحاول إسرائيل هزيمتنا في معنى وجودنا، في شخصيتنا وهويتنا. تحاول تشريد شعبنا وتشريد ذاكرتنا ووعينا بأنفسنا ومن نكون وما هو تاريخنا.

منطقة وادي سيليكون الإسرائيلي © ويكيبيديا

ثمن كبير لعدم الاكتراث للهايتك العسكري الإسرائيلي –

وادي السيليكون الأميركي الشهير في كاليفورنيا، ليس وحيداً، توأمه وادي السيليكون الإسرائيلي الذي يمتد من حيفا إلى تل أبيب وصولاً للقدس. وصل مردود “هذا الوادي” من تصدير التكنولوجيا العالية في السنوات الماضية إلى 74 مليار دولار، أي يشغل خمس الاقتصاد الإسرائيلي. أعظم الشركات الأميركيّة مثل: IBM,AMAZON,MICROSOFT,INTEL,GOOGLE,FACEBOOK موجودة فيه، إضافة للشركات الاسرائيليّة وتلك المتعددة الجنسيات (المعولمة) التي يفوق تعدادها 300 شركة.

الجمعيات والمنظمات اليهوديّة العاملة في إطار المشروع الصهيوني، أورثت إسرائيل – الدولة الوعي بأهميّة ومصيريّة وخاصيّة “العلوم المركزيّة”. ولذلك وبسرعة قياسيّة وبعيد الإعلان عن قيامها، بدأ دافيد بن غوريون في تأسيس البرنامج النووي لتتمكن إسرائيل بسنوات قليلة من امتلاك القنبلة النوويّة والتوسّع في علوم الفيزياء النوويّة، وبطبيعة الحال بمساعدة علماء يهود منهم صنّاع القنبلة النوويّة الأميركيّة وأخصّهم: اوبنهايمر. ولا يغفل عن بالنا الاهتمام الغربي بتفوق هذا الكيان الغاصب على جيرانه، لا بل الارتقاء به الى مستوى الدول المتقدمة فأنجزت له فرنسا عام 1956 المفاعل النووي في منطقة ديمونا.

وبالمقابل، تضع اسرائيل على مدار الساعة تحت منظارها الفاحص كل الدول المحيطة بها، حيث تراقب اقترابها من هذه العلوم وتعمل على نحو حاسم على إبقائها بعيدة عنها. الأمثلة كثيرة على قيام إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة بعمليات تخدم هذا الهدف، ليس أولها ضرب المفاعل النووي العراقي – مفاعل تموز – (تم تدميره في 7 حزيران 1981)، وليس آخرها الاستيلاء على الأرشيف النووي الإيراني (2018)، واغتيال لوائح طويلة تضم أسماء علماء من العراق والشام وإيران. “الجمهورية العربية السوريّة كمثال، خسرت نخبتها العلميّة اغتيالاً في مناسبتين: أحداث 1980، وأحداث 2011”.

وادي السيليكون الإسرائيلي هو جزء رئيس من عالم “التكنولوجيا العالية”، فيما المجتمعات والدول المحيطة بإسرائيل تحاول الاستفادة من “سيولة المعلومات” المتاحة التي بكل حالاتها لن تمكنها من الانتقال من خانة الاستهلاك إلى خانة الإنتاج والابتكار والتصنيع والدخول إلى ما وراء أسوار “العلوم المركزية”.

العصر الرقمي وبلاد العجائب

في مقالة علمية في “نيويورك تايمز في 23 – 3 -2023 بعنوان “أن يُتحكم فيك عن بعد” نقرأ: قِيل لنا إن «العصر الرقمي» سريع، وأن من يتخلفون عنه، سيضيعون. لقد احتفلنا في “بلاد العجائب” بالخدمات الرقمية الجديدة على أنها مجانية، لكننا الآن نرى أن رأسماليي المراقبة الذين يقفون وراء تلك الخدمات يعتبروننا، نحنُ، سلعة مجانية. ظنّنا بدايةً أننا نبحث في غوغل، ولكن الآن فهمنا أن غوغل هو يبحث فينا. افترضنا أننا نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل، لكننا تعلمنا أن مواقع التواصل الاجتماعي تستخدمنا عبر فقط إذا اتصلنا. تساءلنا بالكاد عن سبب وجود سياسة خصوصية في التلفزيون أو المرتبة الجديدة عند شرائها، لكننا أخذنا نفهم أن سياسات «الخصوصية» هي في الواقع سياسات مراقبة.

يسود مجتمعاتنا، اليوم، اعتقادٌ بأن الثورة الرقمية التي وصلت إلى آخر كوخ في العالم، وبكونها أنتجت خاصيّة “السيولة” التي منها سيولة المعلومات، من شأنها أن تفكّ الحصار عن “العلوم المركزيّة” وتوفر فرصاً متكافئة لمختلف دول العالم ومجتمعاتها. ولكن، لقد مر صعود رأسمالية المراقبة على مدى العقدين الماضيين من دون مساءلة إلى حدٍ كبير. ولكن، ومثل أسلافنا، الذين أطلقوا على السيارة اسم «عربة بدون أحصنة» لأنهم لم يستطيعوا استيعاب حقيقتها، فقد اعتبرنا منصات الإنترنت بمثابة «لوحات إعلانات» حيث يمكن لأي شخص وضع إعلانه فيها، وقد عزز الكونغرس الأميركي هذا الوهم في القانون، وفي القسم 230 من قانون آداب الاتصالات لعام 1996، وفق نيويورك تايمز، حيث أعفى تلك الشركات من الالتزامات التي تلزم «الناشرين» أو حتى «المتحدثين».

ترتكز كل هذه الأوهام على أكثر الهلوسات غدرًا: الإيمان بأن الخصوصية خاصّة. لقد تخيلنا أنه يمكننا اختيار درجة خصوصيتنا من خلال حساب فردي يتم فيه تداول القليل من المعلومات الشخصية مقابل خدمات قيّمة أو مقابل الحصول على مقابل معقول. ويكشف التطور السريع لأنظمة التعرف على الوجه، مثلاً، عن العواقب العامة لهذا الاختيار الخاص المزعوم. وطالب رأسماليو المراقبة بالحق في أخذ وجوهنا أينما ظهرت، في شوارع المدينة، أو على صفحة فيسبوك، وذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن قاعدة بيانات مايكروسوفت للتدريب على التعرف على الوجه التي تضم 10 ملايين صورة مأخوذة من الإنترنت من دون علم أصحابها، ومن المفترض أنها مقصورة على البحث الأكاديمي، ولكنها وُظِّفت من شركات مثل آي بي إم ووكالات الدول التي تضمنت الولايات المتحدة والجيش الصيني. ومن بين هؤلاء، كان اثنان من الموردين الصينيين للمعدات المسؤولين في شينجيانغ، حيث يعيش أفراد من مجتمع الإيغور في سجون مفتوحة تحت المراقبة المستمرة لأنظمة التعرف على الوجه.

الخصوصية ليست خاصة، لأن فعالية هذه الأنظمة وغيرها من أنظمة المراقبة والتحكم الخاصة أو العامة تعتمد على الأجزاء التي نتخلى عنها من أنفسنا، أو التي سُرقت منا سرًا.

وعي ناقص بالتفوق التكنولوجي الإسرائيلي

كان من المفترض أن يكون قرننا الرقمي هو العصر الذهبي للديمقراطية، ولكننا ندخل الآن في عقده الثالث الذي يتميز بشكل صارخ جديد من عدم المساواة الاجتماعية، أو «عدم مساواة معرفية»، ويشير المصطلح إلى حقبة ما قبل غوتنبرغ من عدم التناسق الشديد في المعرفة والقوة التي تتراكم على إثر هذه المعرفة، حيث يسيطر عمالقة التكنولوجيا على المعلومات والتعلم نفسه. صُنِعَ وهم «الخصوصية الخاصة» لتربية وتغذية هذا الانقسام الاجتماعي غير المتوقع، ويستغل رأسماليو المراقبة عدم المساواة الآخذ في الاتساع في المعرفة من أجل الربح، حيث يتلاعبون بالاقتصاد وبمجتمعنا وحتى بحياتنا دون عقاب، مما يعرض للخطر ليس فقط الخصوصية الفردية، ولكن الديمقراطية نفسها. انشغلنا بأوهامنا وأخفقنا في ملاحظة هذا الانقلاب غير الدموي القادمِ من الأعلى.

ويتساءل الباحث السوري نزار سلومفي قراءة طبيعة الصراع مع إسرائيل: هل غمرتنا “سيولة المعلومات” وأوهمتنا بأننا تقدمنا أشواطاً إلى الأمام، فيما لم ننتبه ولم نتمكن من تقدير ما يجري وراء “أسوار الحماية” من عمليات متسارعة واستثنائيّة جعلت إسرائيل في موقع معرفي غير منظور بعد من منصتنا وواقعنا؟ هل أوهمتنا “سيولة المعلومات” أننا بصدد الوصول إلى مرتبة متكافئة بأدوات الصراع مع إسرائيل “الصواريخ، المسيرات…”؟ دون أدنى شكّ، ثمّة وعي ناقص بالتفوق التكنولوجي الإسرائيلي وما يعنيه.

بطبيعة الحال، ليس الأمر على هذا النحو، حيث تشكّل “التكنولوجيا العالية” المجال الحاسم في استراتيجيات السيطرة والتفوق، ليس فقط بطبيعتها، بل، وبالتسارع المذهل الذي تتجاوز فيه نفسها. يعبّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن هذا الأمر قائلاً: من يمتلك الذكاء الاصطناعي سيسيطر على العالم.