المسيرات والروبوتات ستغيِّر الإستراتيجيات العسكرية للجيوش الحديثة

العقيد الركن م. ظافر مراد

اعتبر “إيلون ماسك” عملاق التكنولوجيا، أن الاستعانة بمقاتلات تقليدية حتى وإن كانت متطورة “لا يقدم عليها سوى الحمقى”، فيما تتطور تكنولوجيا الطائرات المسيرة التي يمكن أن تشكل أسراباً بالآلاف تطير بشكل منسق وفعال. يعتبر “إيلون ماسك” رائد الإبتكار التكنولوجي لا سيما في مجال الفضاء، أنَّ المستقبل في التفوق العسكري يرتبط بمدى الإبتكار والتطوير في الأنظمة القتالية غير المأهولة، والتي سيتحكم بها الذكاء الإصطناعي من خلال تكنولوجيا متفوقة وخارقة. وهو في تعليقه هذا يطرح إشكالية هامة، ويلقي الضوء على معضلة تواجهها الجيوش الكبرى في شأن الإستمرار بعمليات التطوير التقليدية من ناحية التسليح والتدريب وأساليب القتال، حيث يجب إتخاذ قرار جريء والتحول بأقرب فرصة نحو اعتماد وسائل القتال الحديثة والمبتكرة مثل المسيرات والروبوتات العسكرية، وإجراء تغيير جذري وسريع في الهيكليات التنظيمية ومنظومات القيادة والسيطرة، إضافةً إلى نقلة نوعية في برامج التدريب في الكليات والمعاهد العسكرية.

ستلعب المسيرات أدواراً هامة وكثيرة في المعارك الحديثة، وستفرض تغييراً كبيراً في الإستراتيجيات العسكرية للجيوش، وذلك بسبب تأثيرها الكبير والطارىء في ساحة المعركة، وبسبب القدرات النوعية غير المسبوقة لهذه المسيرات، والتي يمكن أن تقدمها عندما يتم استعمالها بتنسيق وتناغم مع المكونات الأخرى من الأسلحة التقليدية، وهي أيضاً ستشارك كمكوِّن أساسي في المناورات التي تجريها الجيوش في المعارك، وعلى كافة المستويات التكتية والعملياتية والإستراتيجية، وسيكون لكل مستوى مسيَّراته الخاصة، مع إسلوب التدخل والإشتباك المناسب في الهجوم أو في الدفاع، وحتى في العمليات الخاصة والنوعية التي تجري خلف خطوط العدو، حيث ستشارك في مناورات التقدم والتراجع والتطويق والإقتحام، ولن يتأخر الوقت لنشاهد أسراباً كثيفة منها تحلق فوق الوحدات المهاجمة في مهمة “دعم جوي قريب-Close Air Support”، إضافة إلى مهام التسلل والإستطلاع والإغارة بالنيران، وتنفيذ ضربات إستباقية لأي حشود معادية تستعد للهجوم.  

سيشهد المستقبل القريب، إعادة تنظيم للهيكلية العسكرية في الوحدات المقاتلة في الجيوش، حيث سيضاف مكوِّن جديد على الأسلحة المعتمدة، وسيكون هناك “سلاح المسيرات”، والذي على الأرجح سيعتبر سلاح دعم على مستوى القوات البرية، وعلى الأرجح سيتم تجهيزها به من مستوى كتيبة قتال وما فوق. أما على مستوى القوات البحرية، فسيتم تجهيز معظم القطع الكبيرة بهذا النوع من القدرات الجديدة، والتي ستزيد من مدى التأثير والإشتباك في البحار وعلى السواحل، وسيتراجع دور وفعالية حاملات الطائرات الباهظة الثمن بشكلٍ كبير. أما على مستوى القوات الجوية، فستحل المسيرات الكبيرة مكان الطائرات الحربية المأهولة، لا سيما القاذفات والمقاتلات، وستشهد تلك الطائرات غير المأهولة، ثورة في التكنولوجيا الحديثة والذكاء الإصطناعي، ولن يكون هناك حاجة لطيارين أكفاء، بل لتقنيين ماهرين وخبراء في تشغيل هذه المسيرات.

 كل هذا يُفسِّر عمليات الإستثمار والتطوير الكبيرين في جميع أنحاء العالم في هذا النوع من الأنظمة القتالية، حيث أن الجهد لا ينصب فقط على تطوير القدرات، بل أيضاً على التناسب والتناغم والتكامل في عمل المسيرات مع الأسلحة الأخرى وعلى كافة المستويات. فروسيا مثلاً، بنتيجة مسارات حربها مع أوكرانيا، قررت زيادة إنتاجها من هذه المسيرات ليصل إلى 32 الف مسيرة سنوياً بحلول العام 2030، وهذا يعكس الوعي الروسي لأهمية هذا السلاح في المستقبل، وفي تركيا، تعمل العديد من شركات الأسلحة على التحول نحو صناعة المسيرات والروبوتات العسكرية، والسعودية تعمل على تطوير صناعة المسيرات وتوطين هذا القطاع، ليصبح عندها إكتفاء ذاتي وقدرة على التصدير للخارج، ومقابل الإدراك العميق لأهمية هذا السلاح، فإن ذلك يفرض تحديات كبيرة على مستوى إعادة النظر بالإستراتيجيات العسكرية والعقيدة القتالية وعمليات التسلح، أضف إلى ذلك تعديل أساليب وبرامج التدريب، بحيث تكون يكون موازية ومناسبة للتطور الحاصل سواء في إستخدام المسيرات، أو في مواجهة خطرها الكبير، ولا نبالغ في القول أن هذا التغيير الكبير على المستوى العسكري، سينقل تأثيراته للمستوى السياسي عبر وزارة الدفاع، ليفرض مزيداً من الإنفاق العسكري في مجال التسليح والتدريب وحيازة التكنولوجيا العسكرية المتطورة، وأيضاً في مجال إعادة دراسة الإستراتيجيات الدفاعية للدولة، والتي ربما ستفرض بعض التغيير في السياسة الخارجية، بما يتناسب مع المخاطر القادمة من خارج الحدود، لا سيما في زمن الحرب، أو في مرحلة ما قبل الحرب.   

لقد كانت معارك ناغورني كاراباخ الأخيرة، وإنتصار القوات الأذرية على القوات الأرمينية، خير دليل على مدى فعالية الطائرات المسيرة التركية في هذه الحرب، ومؤشِّراً واضحاً على تأثيرات هذا السلاح في قلب موازين القوى، حيث ظهرت الصعوبات والتحديات عند الجيش الأرميني في مواجهتها، والذي كان متأخراً جداً في إيجاد حلول لمواجهة هذا السلاح وتخفيض فعاليته، ويشهد العالم حالياً من خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، تطويراً سريعاً واستعمالاً كثيفاً للمسيرات، وثورة في تكتيكات القتال الحديث.   

لقد سمح التقدم التكنولوجي للطائرات بدون طيار بأن تصبح أصغر حجمًا وأكثر مرونة وقدرة، وهذا يمكِّنها من البقاء في بيئة القتال لفترة طويلة، مع عدم قدرة وسائط الدفاع الجوي بمختلف مستوياتها وأنواعها أن تكشفها وتصيبها أو تنال منها. لذلك يتم حالياً العمل على إيجاد حلول فاعلة لأنظمة دفاع جوي ضد المسيرات، خاصة تلك الصغيرة منها، ويتم رصد ميزانيات ضخمة في هذا المجال، وتقوم بذلك العديد من الشركات المعروفة عالمياً، وبعضها يعمل بالتعاون مع برامج حكومية تابعة لوزارات الدفاع في تلك البلدان.

أثبت التاريخ أن التقدم التكنولوجي في الحروب يفوق في كثير من الأحيان الأطر الأُخلاقية والتنظيمية. فبعد كل مرحلة من التطور في الأسلحة، يتم بعد استخدامها بشكلٍ مفرط، وضع ضوابط أخلاقية وإنسانية للتخفيف من تأثيراتها القاتلة، وهذا ما حدث عند إستخدام الالغام والاسلحة الكيميائية والنووية والذخائر العنقودية، وربما يدفع التطور السريع والهائل في تكنولوجيا المسيرات، واستخدامها لاحقاً في عمليات التدمير والإغتيال والتدخل غير الشرعي، إلى طرح ضوابط معينة للتخفيف من استباحتها لأراضي ومنشآت ومواطني الخصوم، خاصة في مسألة الإعتماد على الذكاء الإصطناعي في تحديد الأهداف وقصفها، حيث يتم حذف “المعيار الأخلاقي والإنساني” في تقدير الحالة قبل عملية الإستهداف.

يتم حالياً الإستثمار بكثافة في تكنولوجيا الطائرات المسيرة، وهذا يأتي في إطار تطوير الوسائل العسكرية، لا سيما في مجال الأنظمة غير المأهولة، وإذا كان الإستثمار في مجال المسيرات سبق الأنظمة الأخرى، إلا أنه يُتوقع أن يزداد الإستثمار في الزوارق المسيرة والروبوتات العسكرية، حيث ستكون الروبوتات الأرضية والزوارق غير المأهولة، هي الحدود التالية للإبتكار العسكري، وستكون بالإضافة إلى المسيرات، العامل الأساسي في تغيير الفكر العسكري وتكتيكات القتال، وفقاً لمتطلبات مسارح العمليات وبيئة المواجهات المستقبلية. وسيزداد الإعتماد على الأنظمة العسكرية غير المأهولة بشكلٍ تدريجي، بما يقلل عديد الجيوش ويخفف الكلفة في الإستثمار في “الجندي المقاتل” مقابل الإستثمار في التكنولوجيا العسكرية والأنظمة الروبوتية والذكاء الإصطناعي، وستصبح الروبوتات متعددة المهام والوظائف، وقادرة على تنفيذ مهام خطرة ودقيقة، وفي هذا الإطار، يجب على الجيوش الحديثة أن تضع إستراتيجيات عسكرية مبتكرة ومتطورة تتناسب مع تحديات المستقبل، حيث سيكون الإبتكار والتفوق التكنولوجي هو العامل الحاسم في نتائج المواجهات، وهذا سيغير من اسلوب وطبيعة التخطيط للحرب، وفي معادلات القوة وحسابات العديد والعتاد في ميزان القوى. وما هو مطلوب حالياً، قفزة نحو الأمام، والبدء بوضع خطة تحديث للجيوش من خلال هيكلية تنظيمية جديدة، وتطوير أنظمة القتال واستبدال القديم والتقليدي منها بوسائل حديثة ونوعية تتوافق مع طبيعة وأساليب المواجهات، إضافة إلى تطوير معاهد التدريب والبرامج العسكرية المعتمدة فيها. 

نقطة أخرى وأخيرة يجب مناقشتها، وهي أن الضرورات المالية لاستخدام المسيرات ملحة في زمننا الحالي. فهي توفر بدائل أرخص بكثير من الأنظمة العسكرية التقليدية، مما يخلق استراتيجيات “فرض الكلفة” التي يمكن أن تُثقل كاهل الخصوم مالياً، وفي صراع طويل وكبير، تكون كلفة الدفاع ضد المسيرات عند العدو، هي مفتاح النصر، فقد يكون هزيمة طائرة بدون طيار بقيمة 500 دولار بصواريخ بقيمة 3 ملايين دولار فعالاً، لكنه غير مستدام. وبما أن الكمية مهمة، فكلما زاد عدد الطائرات بدون طيار التي يمكن للدولة إنتاجها، زادت استدامة عملياتها وزادت فعالية تهديدها للخصوم وإلحاق خسائر مادية بهم، وهذا ما تعاني منه إسرائيل حالياً، فلإسقاط أحد الصواريخ الباليستية القادم من اليمن، والذي تبلغ قيمته في أحسن الأحوال مليون دولار، تم إستخدام منظومة ثاد الأميركية التي أطلقت صاروخاً بقيمة 27 مليون دولار. كذلك الأمر، فإن أوكرانيا تتكلف مبالغ ضخمة لتأمين الدفاع من الهجمات الروسية بالمسيرات الرخيصة الثمن، لذلك فهي بدأت بعمليات تصنيع ذاتي للمسيرات ولبعض أنظمة الدفاع الجوي، كخيار بديل للإستيراد من الخارج.

ستكون عملية التغيير في السياسات الدفاعية للدول وفي الإستراتيجيات العسكرية للجيوش محطة هامة تشوبها الكثير من التحديات، ولكن هذا ما يتطلبه التكيّف مع التطور التكنولوجي العسكري ومع هيمنة الذكاء الإصطناعي، فالإستعداد لحروب المستقبل يتطلب قرارات جريئة ومكلفة، ولكنها أكثر ضمانة للدفاع عن المصالح وللبقاء في عالم متقلب سريع التحوُّل.