العميد صلاح الدين أبوبكر الزيداني الأنصاري
أوكـــا OCA نمط قديم متجدد لأسلوب قتالي يعرف بإسم الهجوم الجوي المضاد Offensive Counter Air وهو كمصطلح عسكري يستخدم لوصف عمليات الإغارة على القواعد الجوية لضرب القوة الجوية في مواقعها وتنفيذ عمليات عسكرية دقيقة.
في ارض العدو من خلال هجمات البرية أو الجوية يتوفر فيها مبدأي السرعة والمباغتة وتستهدف بشكل خاص القواعد الجوية المعادية، لتدمير الطائرات وتعطيل مدارج الطيران وكذلك تعطيل وتخريب الطائرات المتوقفة ومرافق الوقود والحظائر ومرافق مراقبة الحركة الجوية وغيرها من البنية التحتية الحيوية لمنشآت القواعد الجوية.
يطلق هذا المصطلح العملياتي أيضاً على العمليات الجوية التي تقوم بها الطائرات المقاتلة بهدف تطهير المجال الجوي لمقاتلي العدو بشكل اساسي لضمان تقدمهم نحو الأهداف البرية المخطط لها بأمان ، وتسمى كذلك بدوريات الطيران القتالية، ولكن ينظر إليها على أنها طريقة بطيئة نسبياً ومكلفة لتحقيق الهدف النهائي بالنسبة للنتائج التي تحققها عمليات أوكا المفاجئة ونظراً لأن الذخائر الأرضية مثل “القذائف والقنابل وما في حكمها” أقل كلفة من الذخائر الجوية الأكثر تطوراً فإن إستخدام الهجمات الأرضية ضد القواعد الجوية يعتبر أكثر فعالية وأقل من حيث الكلفة المادية حيث يمكن لذخائر تطلق من أسلحة برية أن تدمر أو تعطل طائرات متعددة في وقت قصير جداً، في حين أن الطائرات التي تنفذ الغارات وتحلق بالفعل تسقط على الأغلب قنبلة أو صاروخ واحد أو أكثر كل مرة إلى جانب أن طائرات العدو التي ستحلق بالفعل تمثل أيضا تهديداً وشيكاً للمقاتلات المنفذة للعملية حيث يمكن أن تعاود هجومها وتشتبك مرة أخرى مع طائرات صديقة، إنطلقت للتصدي لها وبالتالي فإن تدميرها وهي على الأرض يقلل عادة الخطر القائم على الطائرات المغيرة ويسهم في نجاح العملية.
يعتبر الهجوم الجوي المضاد من أهم التدريبات الجوية القتالية التي يتلقاها الطيارين المقاتلين لتنفيذ عملياتهم بدقة وفعالية ضد القوات المعادية أسوة بتدريبات الدفاع الجوي المضاد والتحريم الجوي وغيرها من التدريبات القتالية ولكن هذا المصطلح OKA يشير أيضاً للعمليات القتالية التي تنفذها قوات برية لتحييد بعضاً من القوة الجوية عن العمل وتخريب القواعد الجوية ومنعها من المشاركة في العمليات القتالية.
تعتمد عمليات أوكا في تنفيذها على مبدأ المفاجأة والذي يحتل مكاناً مهماً في مبادى الحرب والتعبئة ويعتبر عملياً مفتاح النجاح للعمليات العسكرية على مر التاريخ وقد أظهرت الدروس التاريخية المستفادة أن الجانب الذي يطبق هذا المبدأ في القتال يتحصل على عوامل التفوق والنجاح، ويعتبر أيضاً من وسائل سد النقص الذي قد يكون حاصلاً في العدد والعتاد للطرف المهاجم.
خلفية تاريخية :
أُستخدم أسلوب الهجمات الجوية المضادة خلال الحرب العالمية الأولى حيث قام الطياران “تيشين شودان” و”جيريتسو كوتيتاي” بغارتين “أوكا” في مسرح المحيط الهادئ ضد قواعد طائرات B29s , وكانت غارة أوكا الوحيدة الأكثر نجاحا حتى الآن هي “عملية فوكوس”، الهجوم الإسرائيلي الذي أفتتح حرب الأيام الستة عام 1967، عندما دمر جزءا كبيرا من القوة الجوية لمصر وسوريا والأردن، ومعظمها لا يزال على الأرض، حيث بلغ مجموعها ما يقرب من 400 طائرة مقاتلة دمرت من قبل قوة من 196 طائرة وتم تحييدها عن النزال كقوة قتالية رئيسية مما جعل تقدم القوات البرية أسرع وأكثر فعالية.
و كذلك عملية بارباروسا التي شهدت عدد هائل من الطائرات المدمرة، خلال أسبوعين وصل إلى ما يقرب من 4000 طائرة روسية .
وتشمل الهجمات الناجحة الأخرى لعمليات أوكا الغارات الجوية الأمريكية في كوريا في عامي 1950 و 1953، والهجمات الفرنسية والبريطانية خلال أزمة السويس , وفي فيتنام خلال الحرب التي دارت هناك دمر الفايتكونغ بنجاح عددا من الطائرات الأمريكية بواسطة قذائف الهاون التي أمطروا بها القوات الأمريكة وغيرها الكثير
ومع ذلك، كانت هناك أيضا إخفاقات ملحوظة مثل عملية جنكيز خان التي بدأتها باكستان خلال الحرب الهندية الباكستانية عام 1971 والهجمات العراقية على إيران.
وعلى الرغم من أن هجمات أوكا غالبا ما تتم عن طريق الضربات الجوية، فإنها لا تقتصر على العمل الجوي بل أنها نفذت أيضاً بواسطة وحدات القوات الخاصة “الكوماندوز” ويذكر التاريخ الغارات التي شنتها مجموعة الصحراء البريطانية الطويلة المدى على مطار إيطالي ببلدة مرزق في عمق الصحراء الليبية إنطلاقاً من قواعدها في القاهرة وفي حرب فيتنام دمر الفيتناميين أيضاً بنجاح عدداً من الطائرات الأمريكية بقذائف الهاون وفي حرب تشاد أستخدمت تلك العمليات بنجاح في الهجوم على قاعدة وادي الدوم وأيضاً في الهجوم على قاعدة السارة في العام 1987م وأوقعت خسائر كبيرة في صفوف القوات الليبية آنذاك وفي أفغانستان دمرت غارة أوكا من حركة طالبان في أفغانستان ثمانية طائرات من طراز أف 8B هاريرز للقوات المتحالفة.
الأسلحة المستخدمة في عمليات أوكا :
خلال الخمسينيات دعت استراتيجية الحرب الباردة لكل من حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو إلى تنفيذ عمليات أوكا بأسلحة نووية تكتيكية، ولكن بحلول منتصف الستينيات، أدت سياسات “الاستجابة النسبية” الجديدة إلى العودة إلى الأساليب التقليدية .
وبعد حرب أكتوبر 73م ، تم تطوير أسلحة مخصصة لتعطيل المدارج، مثل القنابل المضادة للطائرات من طراز بلو107 وقنابل هب JP233 التي أستخدمتها طائرات التورنادو التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني خلال حرب الخليج عام 1991م والكثير من القنابل الموجهة.
وتعتبر الرشاشات الثقيلة من مختلف الأعيرة والراجمات الصاروخية والقواذف الكتفية والهاونات وغيرها من الأسلحة البرية من أنجح الوسائط في عمليات الهجوم الجوي المضاد فهي تتمتع بقدرة كافية على إحداث أكبر الخسائر والأضرار خلال عمليات الإغارة ومهاجمة القواعد الجوية خاصة إذا كان عنصر المباغتة والمفاجأة حاضراً أثناء التخطيط لها ومتوفراً خلال تنفيذها حيث أنه مفتاح النجاح لعمليات الإغارة بشكل عام وأعمال أوكا بشكل خاص.
تنظيم الدولة “داعش” وعمليات أوكا :
إستخدم تنظيم الدولة وحلفاؤه أسلوب الهجوم الجوي المضاد “أوكا” مؤخراً بشكل مكثف على مطارات وقواعد خصومهم في سوريا والعراق وأيضاً بشكل محدود في ليبيا وكان الإستخدام المتكرر لهذا النوع من التكتيكات يتم ضد المطارات والقواعد العسكرية لضربها وتحييدها عن المشاركة في الأعمال القتالية وكذلك لمحاولة السيطرة عليها وعلى ما تحويه من أسلحة وذخائر وايضاً للإبعاد القوة الجوية عن المشاركة في مسرح العمليات لفاعليتها العالية في سرعة الإستجابة والرد بضرب وتعقب المجموعات المهاجمة سواءا كانت من اتنظيم الدولة أو ما في حكمها من جماعات ارهابية وفي متابعة لعمليات التنظيم نجد أن داعش إستهدفت مطار الطبقة في محافظة الرقة السورية في العام 2014م لغرض السيطرة عليه وحرمانه من المشاركة في العمليات القتالية بإعتباره أحد أهم أذرع النظام السوري القوية في دك معاقل التنظيمات المناوئة له ونجح التنظيم في السيطرة عليه بعد حصاره وأقتحامه في عملية أوكا ناجحة من الطراز الحديث.
وفي فبراير 2017م قام تنظيم داعش وحلفاؤه بالقتال على أربــ4 ـــعة جبهات عسكرية واسعة في سوريا، مستهدفًا 4 مطارات عسكرية لقوات النظام السوري دفعة واحدة ومنها مطار السين العسكري و مطار التي فور (T4) العسكري ومطار دير الزور العسكري ومطار كويرس وقد حقق تقدمًا في هجومه على أحد المطارات، بينما أوقف في مطارين وأستمر قصف التنظيم للمطار الرابع في ريف محافظة حلب الشرقي من مواقع تمركزه على بعد 5 كيلومترات ولمعرفة التنظيم ومخططيه بأهمية أعمالهم يحاول التنظيم بإستمرار مهاجمة مطار التي فور بريف حمص الشرقي، كونه نقطة ارتكاز يستند إليها النظام في البادية وريف حمص الشمالي الشرقي، فضلاً عن أنه قاعدة عسكرية تحوي كثيرًا من الأسلحة.
ويسعى تنظيم داعش عبر إستخدامه لهذا الأسلوب في القتال إلى كسب مساحات شاسعة تتضمن تحصينات يحصل عليها ويقيمها جراء سيطرته على تلك المطارات العسكرية، فضلاً عن التزود بالأسلحة والذخائر التي يحتاج إليها لاستمراره في القتال إلى جانب كسب معنويات كبيرة في أوساط مؤيديه بالنظر إلى أنه قادر، رغم كل المعارك التي يخوضها، على تحقيق انتصارات عسكرية على خصمه وإن كانت باهتة.
وبالنظر لتلك الأساليب التي يستخدمها التنظيم والعمليات التعبوية التي يخوضها وعملية إختياره لأهدافه بدقة عالية والتركيز على إستخدام تكتيكات أوكا في هجماته على المطارات والقواعد العسكرية يتضح بان التنظيم امتلك تجربة كبيرة في عمليات أوكا التي قام ويقوم بها واكتسب بالتالي خبرة في هذه النوعية من التكتيكات التعبوية التي تجعله قادرا على انزال ضربات قوية ومؤثرة في خصمه.
ويشير خبراء سوريين في تحقيقاتهم أن التنظيم يعمد إلى مهاجمة تلك المناطق بعد تخطيط مسبق، ليتمكن من تحقيق تقدم على حساب القوات المعادية له.
تبنى التنظيم لإستراتيجية الهجوم الجوي المضاد يظل غريباً وفعالاً في ذات الوقت ويدل على أن المخططين له لديه لديهم دراية كافية بأساليب القتال وتكتيكاته وما إستخدامهم لهذا النوع من الهجمات إلا لمعرفتهم لعظم أثرها المعنوي قبل المادي في نفوس خصومهم فهو إلى جانب خوفه من الغارات المكثفة للطائرات الحربية على مناطق الاشتباك وعلى مقاتليه خاصة يفتقد وسائط مناسبة للرد المباشر ولذلك نراه يلجأ في كل مناطق تواجده إلى إستخدام هذا الأسلوب القتالي القديم والجديد ويستفيد منه كثيراً في عملياته العسكرية .
مؤخراً أستخدم التنظيم في هجومه الطائرات المسيرة بدون طيار وكانت الضربة موجهة لقاعدة حميميم السورية التي تتمركز بها القوات الروسية في سوريا وكانت العملية ناجحة وإن تستر الإعلام الروسي عليها وتعد هذه النوغية من العمليات نطويراً لعمليات أوكا بروح قتالية جديدة وبتقنيات حديثة ومجال أوسع مع استخدام تفس أسلوب المباغتة والمفاجأة في التنفيذ وهنا ينبغي التنبه لتلك الضربات التي من الممكن أن تطال أي مكان فالتنظيم لديه من الأمكانات التقنية الكثير ولا يتواني عن تنفيذ عملياته في عمق أراضي الخصم مهما كانت درجة المخاطرة.
آخر إستخدام مشابه لهذا الأسلوب القتالي كان الهجوم على قاعدة براك الجوية في جنوب ليبيا صيف العام 2017م حيث أوقع الهجوم الكثير من الخسائر في الأرواح والمعدات والطائرات وكانت عملية إغارة ناجحة بمقاييس العمل العسكري في حين كانت نتائجها كارثية على المستوى الإنساني من قتل وعمليات تصفية للأسرى العسكريين والمدنيين على حد سواء في جريمة حرب تاريخية يندى لها جبين البشرية جمعاء.
ربما يزداد هذا الأسلوب القتالي تطوراً خلال الأعوام المقبلة بحيث يشمل الهجوم على مواقع أخرى غير القواعد الجوية كمعسكرات القيادة مثلاً أو منشآت الطاقة وغيرها من الأهداف الحيوية وهذا الأمر يستدعي اتخاذ التدابير الوقائية لمنع حدوث مثل هذه الهجمات أو محاولة التقليل من مخاطرها خاصة وأن هذا التنظيم يسعى عبر شبكاته الواسعة إلى تطوير نفسه وأساليبه القتالية بشكل يضمن معه إنزال اكبر الضربات بخصومه والتأثير فيه في سبيل تنفيذ مآربه ومخططاته.
قم بكتابة اول تعليق