أ.د. غادة عامر
عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
محاضر أكاديمية ناصر العسكرية للدراسات العليا
رغم أن الكثير منا لم يسمع عن تكنولوجيا الطائرات المسيرة سواء المستخدمة في السلم أو الحرب إلا من وقت قصير، إلا أنها كانت جزءًا من الحرب منذ القرن التاسع عشر، عندما استخدم النمساويون بالونات الهواء الساخن بدون طيار – وإن لم تكن خاضعة للتحكم اللاسلكي – لقصف البندقية. وبدأ فعليا تطوير آلات الطيران بدون طيار (مثل تقريبًا التي ظهرت الان)، في القطاع العسكري بمجرد أن أظهر “الأخوان رايت” رحلة تعمل بالطاقة، فتم ظهور أول طائرات للتحكم عن بعد، وبعدها تم استخدام الطائرات المسيرة في مجموعة متنوعة من القدرات العسكرية في الجهود المبكرة للاستطلاع في السماء، على سبيل المثال، خلال الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898م كان الجيش الأمريكي قادرًا على نشر الطائرات الورقية المزودة بكاميرات لالتقاط بعض صور المراقبة الجوية الأولى لتحصينات العدو. ورغم أن فكرة الطائرات المسيرة أظهرت وعودًا مؤكدة للتطبيقات القتالية، إلا أن القوات العسكرية لم تبدأ باستخدامها بشكل أساسي حتى الحرب العالمية الأولى، وبعد تجربة أجريت (تعاون بحثي بين البحرية الأمريكية وبعض المبتكرين) لتعزيز رؤية “تسلا” الأولية لمحاولة دمج الأنظمة التي يتم التحكم فيها بالراديو في أنواع مختلفة من الطائرات المسيرة والتي يمكن استخدامها كقاذفة بدون طيار، ظهرت الطائرة “هيويت – سبيري” الأوتوماتيكية عام 1917م. وخلال الحرب العالمية الثانية ظهرت “الطوربيدات الجوية”، وصاروخ V-1 في ألمانيا، والذي أطلق عليه القنبلة الطائرة Buzz، والذي تم تصميمه -وهي من بنات أفكار مهندس الصواريخ الألماني “فيرنر فون براون” المسؤول الأول عن انشاء مشروع الفضاء الأمريكي- كأول صاروخ من نوع كروز في زمن الحرب، لضرب أهداف حضرية وتكبيد العدو خسائر بشرية هائلة، والذي كان مسؤول عن مقتل 10000 مدني وإصابة حوالي 28000 آخرين!
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الجيش الأمريكي في تغيير مواقع الطائرات المسيرة في مهام الاستطلاع. وأول طائرة مسيرة خضعت لعملية التحويل كانت “Ryan Firebee I”، والتي أظهرت في عام 1951م القدرة على البقاء عالياً لمدة ساعتين بينما وصلت إلى ارتفاع 60000 قدم (18288 متر). خلال الحرب الباردة، حول الجيش الأمريكي تركيزه لبناء طائرات مسيرة لتجسس أكثر دقة. وقد طارت الطائرات الصغيرة المسيرة والمزودة بكاميرات الأفلام التي يتم التحكم بها عن طريق الإذاعة، فوق الصين وفيتنام الشمالية لجمع معلومات استخبارية وصور دون المخاطرة بحياة الطيارين. وكان من عيوب الطائرة المسيرة في تلك الفترة أنها كانت مكلفة، ويجب أن يكون التحكم بها ضمن نطاق إشاراتها الإذاعية التماثلية. ومع زيادة الابتكار في هذا المجال أصبح يستطيع من يتحكمون في الطائرات المسيرة بالتحكم فيها من مسافة آلاف الأميال، عبر شبكات الأقمار الصناعية الممتدة في جميع أنحاء العالم، وأصبحت قادرة على السفر لمسافة 400 ميل بحري (643.74 كم) ويمكن أن تظل في السماء لمدة 14 ساعة متواصلة، كما أنها تسمح للجنرالات والقادة العسكريين والسياسيين بمشاهدة الحرب التي يشنونها على الجانب الآخر من العالم، ويعيشونها على شاشات التلفزيون من أي مكان في العالم. فتحولت الطائرات المسيرة من طائرات للتجسس لأسلحة اغتيال!
في عام 2000م أخذت الولايات المتحدة القفزة النهائية للأمام عندما أصبحت القوات الجوية ووكالة الاستخبارات المركزية أول من نجح في استخدام الطائرات بدون طيار بالصواريخ، وذلك كجزء من محاولة لـوكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA” لقتل أسامة بن لادن. وفي 7 أكتوبر 2001م أطلقت طائرة بدون طيار من طراز “بريداتور” أول غارة قتالية شنتها طائرة موجهة عن بعد في قندهار بأفغانستان في محاولة لتحييد زعيم طالبان المشتبه به الملا محمد عمر. وبالرغم من أن المهمة فشلت في تحقيق الهدف المقصود، لكن الحدث كان بمثابة فجر عهد جديد من الطائرات المسيرة العسكرية. وبعدها تم استخدامها في سبع دول على الأقل، طوال الحرب المستمرة منذ 15 عام على ما يسمى الإرهاب من قبل الولايات المتحدة. لقد قاموا بتجميع المعلومات للمخابرات الأمريكية بشكل دقيق في ميدان المعركة، والعثور على الإرهابيين والمتمردين (من وجهة نظر أمريكية) وقتلهم. أين أن الطائرات المسيرة الان تستخدم -بعد تسليحها- لتمكين مشغليها من ملاحقة الناس وقتلهم دون الاضطرار إلى مقابلتهم وجهاً لوجه، مثل الطائرة المسيرة من طراز “إم كيو- 9 ريبر” والتي تعرف باسم “الحاصدة”، التي استخدمتها واشنطن لقتل الإيراني قاسم سُليماني -قائد مجموعة “فيلق القدس”، كان سليماني العقل المدبر لأنشطة إيران في الشرق الأوسط، ووزير خارجيتها الفعلي، فيما يتعلق بشؤون الحرب والسلام- إن هذا الطراز من الطائرات يتسم بقدراته المتطورة، إذ يُمكنه التحليق لـ 1150 ميلًا (1850.7456 كم) وعلى ارتفاعات تصل إلى 50 ألف قدم. ويتمتع بقدرة فريدة في شن ضربات ضد أهداف حسّاسة بدقة فائقة وفي وقت قياسي ويحمل على متنه أنظمة استشعار عن بُعد واسعة النطاق، ومجموعة متكاملة للاتصالات متعددة الأوضاع، وأسلحة دقيقة، كما يضم أدوات بحث ورصد تعمل بأشعة الليزر لتحديد مواقع الأهداف بدقة متناهية. ويمكن استخدامه في مهام الاستخبارات والمراقبة والمساعدة في مهام البحث والاستطلاع والإنقاذ القتالي ومُساعدة القوات في “تنفيذ عمليات الحرب اللامتماثلة”.
وللأسف منذ أن دخلت الطائرات القتالية غير المأهولة بشكل رسمي الجيش الأمريكي، قامت بالآلاف من المهام الناجحة، لكن مع عواقب وخيمه في بعض الأحيان، فقد كشفت إحصائيات 2016م الصادرة عن الرئيس أوباما أن 473 غارة قد تسببت في حدوث ما بين 2372 و2581 قتيلاً منذ عام 2009م، ووفقًا لتقرير صدر عام 2014م في الجارديان، فإن عدد القتلى المدنيين الناتج عن الغارات بطائرات أمريكية مسيرة وصل إلى حوالي 6000 شخص!!!
ولقد أدى التقدم الذي حققته الطائرات بدون طيار في الصراع الروسي الأوكراني إلى تسريع الاتجاه التكنولوجي الذي طال انتظاره -والذي يمكن أن يجلب قريبًا أول روبوتات قتالية مستقلة بالكامل في العالم إلى ساحة المعركة – لافتتاح عصر جديد من الحرب كلما طالت مدة الحرب ، زاد احتمال استخدام الطائرات بدون طيار لتحديد الأهداف واختيارها ومهاجمتها دون مساعدة من البشر ، وفقًا للمحللين العسكريين والمقاتلين وباحثي الذكاء الاصطناعي. من شأن ذلك أن يمثل ثورة في التكنولوجيا العسكرية عميقة مثل إدخال المدفع الرشاش.