مسار عبدالمحسن راضي – كاتب وصحافي وباحث عراقي
الشريكان “الإطاري” والأميركي يبدوان حريصين على وضع مسافة إعلامية آمنة بعيدة عن الحِجر الأميركي، شيء من ضرورة ميدان لتقليل ردود الأفعال المزعجة على الساحة العراقية.
تحوَّل فضاء الميديا العراقية، منذ السابع من أغسطس حيثُ بدأ حوار التعاون الأمني الأميركي – العراقي المشترك، وإلى حين كتابة هذه السطور، إلى أحراشٍ أفريقية مليئة بالفيلة. المحلِّلون السياسيون، الذين تتكئ الحكومة على خراطيمِ حضورهم في القنوات الفضائية، كانوا مُصرَّين على تفسيراتٍ فريدة من الفيلة البيضاء.
أول أبيضٍ منها، كان في الـ13 من أغسطس، حيثُ زعم أحدُ المحلِّلين “الخرطوميين” وعلى شاشة إحدى الفضائيات، بأنَّ “الولايات المتحدة تُريد تقليل أعداد الحشد الشعبي”. الحقيقة، أن الولايات المتحدة غير معنية بالأمر! فبحسب صحيفة “المونيتور” الأميركية في الـ10 من أغسطس، فإنَّ البنتاغون لديه قناعة بأنَّ “وجود 238 ألف مقاتل في الحشد الشعبي مسألة مُبالغ فيها”، مُلمِّحة إلى أنَّ هذه الأرقام، جوكر ضغط. علماً أن تعداد الجيش العراقي النظامي هو 341 ألف مقاتل بحسب إحصاءات 2019، استناداً على ما نشرته الـ”سبوتنيك” الروسية (النُسخة العربية) في الخامس من فبراير 2023.
السؤال المهم: لماذا لجأت الأحزاب إلى الصدق الأبيض؟
هناك أسباب عديدة، منها ما كشفهُ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في بيانٍ رسمي، يوم الثامن من أغسطس، بخصوص “داعش”. أوستن بيَّن أن “أعداد التنظيم في العراق انخفضت إلى ألف فقط وكذلك في سوريا”. بينما ما زالت الفضائيات العراقية، مُصرَّة، على أن أعداد التنظيم في البلاد تتراوح بين 5 و7 آلاف شخص! هكذا لم تعُد الميليشيات قادرة على دباغة جِلد القداسة العابرة للحدود، إلَّا عبر الأرقام الفضائية المُتسلَّلة إلى أغلب مؤسسات الدولة العراقية. المفارقة أنَّ باحثاً أميركياً كان قد كشف في وقتٍ سابق أن ما يعرف عراقياً بـ”الفضائيون”، وهم قوّة عاملة غير موجودة حقيقةً في تلك المؤسسات، وتجبي الأحزاب مُخصصاتهم، تتراوح نسبتهم من 15 إلى 25 في المئة.
مكونات “الإطار التنسيقي” أرادت التغطية أيضاً على موافقة الجانب العراقي بإشراك جيش البلاد في التدريبات المشتركة التي تقوم بها قيادة القوات المركزية الأميركية في المنطقة مع الحلفاء. إضافة إلى ذلك، تمويه الفساد الذي تُعاني “مؤسسات الجيش والأمن العراقية منه الأمرَّين”، بحسب المفتش العام في البنتاغون.
الحوار أدَّى بدوره إلى اتفاقاتٍ طريفة وفاضحة لحكومة “الإطار التنسيقي”، بحسب البيانات الرسمية المشتركة للجانبين. كان منها الإعلان عن “تأسيس لجنة عسكرية عليا مشتركة”. أي لا أبرهة أميركي بعد اليوم، لا حجارة من سجيل المقاومة، ولا “درونز” أبابيل!
دانا سترول، رئيسة دائرة سياسات الشرق الأوسط في البنتاغون، كانت لها حصَّة مميَّزة، بتصريح لافت للنظر سبق الحوار الأمني المشترك بين العاصمتين: “أنا أعتقد، أن من العدالة القول، إنَّهُ ولعدة عقود في المستقبل، القوات الأميركية لن تكون حاضرة في العراق بالشكل الحالي؛ الذي توجد عليه اليوم”.
نستطيع تفسير هذا التصريح، بما ذكره رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبدالمهدي، قبل سنين، في مقالٍ له، اختصر شكل العلاقة بين بغداد وواشنطن “العلاقة بين العراق وأميركا تشبهُ العلاقة بين العراق وبريطانيا قبل سنة 1958”. أمّا تحليل ما قالته سترول، ولو بطريقةٍ سطحية، فيكشِفُ لنا اتجاه العراق نحو توحيد نوعية ترسانة الأسلحة لديه، وجعلها أميركية حصراً بدلاً من استيرادها من “مناشئ مختلفة تخلق تعقيدات لا حصر لها”، بحسب تقرير المفتش العام للبنتاغون. بالتالي فإنَّ العقيدة العسكرية العراقية مُرجَّح أن تُصبح أميركية، بالتمام والكمال، خلال السنين القادمة. وبالتالي لن تكون هناك حاجة إلى شعارات “فلتخرج أميركا”.
إذاً ما سبب الدوبلاج العراقي للبيانات الرسمية بأصوات المُحلِّلين “الخرطوميين”؟
الهدف الأساسي هو تقليل سرعة انقلاب العلاقة، بين حكومة “الإطار التنسيقي” وواشنطن، من صفر تعاون، بحسب الإعلام الميليشياوي، إلى “علاقة 360 درجة”. وقد وَرَدَ هذا الوصف في البيانات الرسمية المشتركة. كما أن وضع مسافة إعلامية آمنة، بعيدة عن الحِجر الأميركي، تبدو ضرورة ميدان لتقليل ردود الأفعال المزعجة على الساحة العراقية، من الميليشيات “المُختارة” التي سيُضحَّى بها، إعلاميَّاً على الأرجح كي تُحقِّق نصراً سهلاً لكليهما، أي الشريكين “الإطاري” والأميركي. هذا هو الهدف من وراء ترويج أبواق الإطار للخوف، من قرب انطلاق عمليات عسكرية في سوريا، بالأحرى في المناطق الحدودية مع العراق.
تعامل حكومة “الإطار التنسيقي”، مع قوات مكافحة الإرهاب العراقية سيكون مؤشِّرا جيَّدا، على انطلاق هذا السيناريو. إذ أنَّ الأحزاب المُشكِّلة لهذه الحكومة كانت قد حرصت، منذ 2018، على عدم معالجة نقص عديد هذه القوات، والتي فقدت 4 آلاف مقاتل. أي 14 في المئة من أعدادها.
الأرباح الإقليمية من حوار التعاون الأمني بين بغداد وواشنطن عديدة. منها تهدئة مخاوف “إسرائيل”، وتبريد الجبهة اللبنانية، وتفعيل الدور السوري دون عصا القيادة الإيرانية، والإعلان عن عودة طهران والولايات المتحدة إلى سكة الصفقة النووية. هكذا نستطيع أن نقول ألف مُبارك على تحضير المهد للمولود القادم.. حكومة “إطارية” رشيدة، تُلبّي الحاجات الإقليمية والدولية، وتؤجِّل حاجات البلاد والعباد. فهي أهداف لا تتناسب مع أجندة المقاومة، ونيَّة الفوز بإحدى الحُسنيين.. الانتصار على الشعب أو الشهادة في سبيل الرضا الأميركي.