داليا زيادة
يصادف هذا العام الذكرى السنوية العاشرة لثورات الربيع العربي. لقد مر عقد كامل من الزمن على الثورات التي أعادت كتابة واقع الشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في عام 2011. إلا أنه لم يكن عقدًا سعيدًا بالنسبة لمعظم البلدان التي مرت بتجربة الربيع العربي وما أعقبها من فوضى قاسية، إذ تحولت الآمال والأحلام الكبيرة للثوريين الشباب، بشأن بناء دول ديمقراطية، إلى حلقات مرعبة لا حصر لها من الحروب الأهلية والصراع مع الإرهاب الديني.
في اليمن وسوريا، تحولت الاحتجاجات السلمية إلى حرب أهلية في طرفة عين، مما خلق بيئة مثالية لازدهار الجماعات الإرهابية، مثل الحوثيين في اليمن وداعش في سوريا. وفي الوقت نفسه، هيمنت الحروب بالوكالة، التي يرعاها لاعبون إقليميون ودوليون، على المسرح السياسي.
وفي ليبيا، الميليشيات المحلية والمرتزقة الأجانب هم، حالياً، المتحكمين في مجريات العمل السياسي، فبعد سنوات طويلة من التمرد والحرب الأهلية، أصبحت ليبيا منقسمة بالفعل بين نظامين، لكل منهما ميليشيات تدعمه وقوى أجنبية ترعاه. حكومة الوفاق الوطني، التي تقع في غرب ليبيا، مدعومة من تركيا وقطر، والجيش الوطني الليبي، الذي يسيطر على الأراضي الشرقية لليبيا، مدعوم من مصر والإمارات وفرنسا. أما الشعب الليبي الذي كان يحلم بالعيش الرغد في ظل دولة ديمقراطية يعاني في ظل ظروف معيشية لا تطاق.
ولم ينجو من مآسي الربيع العربي والفترات الانتقالية التي أعقبت سقوط الأنظمة الحاكمة، إلا دولتين هما تونس ومصر. فرغم الصراعات الأولية على السلطة، التي خاضتها كل من مصر وتونس، مع الفصائل الإسلامية السياسية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، على اختلاف مسمياتها، نجحت كل من الدولتين في نهاية الأمر في استعادة النظام العام، والحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الوطنية، وإنشاء نظام حكم فعال يضمن إبقاء حالة من الأمن والاستقرار للمواطنين.
وقد وجد معظم الأكاديميين الذين درسوا الربيع العربي صعوبة كبيرة في تحديد العوامل الفعلية التي دفعت بنتيجة كل ثورة في كل دولة من دول الربيع العربي إلى اتجاه معين. ولجأ كثير منهم إلى المقارنات الجيوسياسية والديموغرافية والثقافية بين دول الربيع العربي بحثاً عن إجابة مقنعة. على سبيل المثال، افترض بعض الباحثين أن تونس ومصر نجيتا من تداعيات الربيع العربي لأنهما أكثر حضارة ثقافيًا وأقل تنوعًا ديموغرافيًا من ليبيا أو اليمن أو سوريا. والحقيقة، فإنني كمواطنة مصرية وواحدة ممن شاركوا في ثورات الربيع العربي، أجد مثل هذه الفرضيات باطلة في أغلبها، وتعتمد على نظريات سياسية تتناقض كثيراً مع الواقع، لأن بالنظر في خصائص مصر الجيوسياسية والديمغرافية سنجد أنها أقرب لسيناريو سوريا أكثر من قربها لسيناريو تونس.
إذن، ما هو بالضبط العامل الحاسم الذي أحدث الفرق بين الدول الناجية والدول الفاشلة في تجربة الربيع العربي؟ العامل الأساسي المحدد هو الاستراتيجية التي اختارت المؤسسة العسكرية في كل دولة استخدامها رداً على الاحتجاجات الشعبية. بمعنى أخر، فإن موقف الجيش المتعاون والمنحاز للحراك الشعبي في كل من مصر وتونس، في مقابل الرد العسكري القمعي ضد الاحتجاجات السلمية في اليمن وسوريا وليبيا وقبل ذلك في إيران، هو ما أحدث الفارق بين فشل الدولة أو بقاءها فيما بعد إسقاط النظام السلطوي.
لم تبدأ حقبة الربيع العربي في عام 2011، بل كانت بدايتها الحقيقية في يونيو 2009، عندما قام النشطاء الشباب المؤيدون للديمقراطية في إيران بعمل احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء البلاد، هزت عرش آية الله نفسه، لكنها سرعان ما تم السيطرة عليها بعد التدخل الوحشي لقوات الجيش، وخاصة الميليشيا الإسلامية التي ترعاها الدولة والمعروفة باسم قوات الباسيج.
كان النشطاء السياسيون في مصر يتابعون التطورات في إيران، قائلين إنه “إذا نجحت الثورة في إيران، فإن الثورة التالية حتماً ستكون في مصر”، حيث كانت هناك الكثير من أوجه الشبه بين الحركات المناضلة من أجل الديمقراطية والحركات الشبابية في كلا البلدين. وبعد ستة عشر شهرًا، بدأ التونسيون ثورة سلمية أنهت حكم بن علي في أقل من شهر، أعقبتها ثورة مصرية أسقطت نظام مبارك بعد ثلاثين عامًا في السلطة، في غضون ثمانية عشر يومًا فقط، بفضل تعاون القوات المسلحة وانحيازها لصف الشعب.
وبعد نجاح الثورة في مصر، اندلعت انتفاضات سلمية واسعة النطاق في كل من اليمن وليبيا وسوريا، واستخدم الجيش في كل من هذه البلاد القوة القمعية المبالغ فيها لحماية النظام واحتواء المتمردين، وكانت النتيجة أن فشل الثوار في الحفاظ على انضباطهم السلمي، بسبب اختراقهم من بعض تنظيمات الإسلام السياسي، مما حول المشهد من تظاهرات سلمية إلى حرب أهلية.
لعب تعاون الجيش مع الحركات السياسية السلمية في كل من تونس ومصر، أثناء ثورات 2011، وما تلاها، دورًا أساسيًا في ضمان نجاحها في إزالة الأنظمة الديكتاتورية. ولا يعني التعاون العسكري بالضرورة أن الجيش يؤمن بأهداف الثورة وشرعيتها. لكن، حتى التعاون “السلبي” للجيش باختياره عدم قتل المتظاهرين أو قمعهم باستخدام العنف، سمح للحركات المعارضة السلمية بمواصلة حشد المؤيدين وتقويض شرعية النظام الاستبدادي.
ويقترح سيناريو الثورة المصرية، على وجه الخصوص، فرضية أن الجيش، باعتباره أحد الركائز الأساسية لدعم النظام الحاكم، يمكن أن يكون عامل حسم ليس فقط في نجاح أو فشل الحراك الشعبي ضد نظام ديكتاتوري، ولكن أيضًا في تحديد المجريات السياسية التي تعقب نجاح الحراك الشعبي في إسقاط النظام. فقد نجح الجيش المصري في احتواء النشطاء الشباب المؤيدين للديمقراطية والليبرالية في ثورة يناير 2011، وبعد ذلك نجح عبر الوسائل السياسية والسلمية في إضعاف وتفكيك جماعات الإسلام السياسي التي حاولت استغلال الخواء السياسي وسذاجة الثوار الشباب في الاستحواذ على السلطة، بعد سقوط نظام مبارك.
كانت العلاقة التي نشأت بين الجيش المصري والثوريين الشباب من مؤيدي الديمقراطية، طوال ثمانية عشر يومًا من الاحتجاجات في ميدان التحرير، في عام 2011، هي أهم عامل ساعد على تسريع وتيسير عملية إزالة نظام مبارك، وإدارة المرحلة الانتقالية التي تلت ذلك. وكان سيناريو الربيع العربي المصري فريدًا من حيث أنه لم يكن صراعاً تقليدياً بين حراك شعبي سلمي ضد قوة مسلحة تابعة للدولة، بل كانت الثورة المصرية، في الجزء الأكبر منها، عبارة عن صراع سلمي منسق بين المتظاهرين السلميين والجيش المتعاطف تماماً معهم ضد الإسلاميين وغيرهم ممن حاولوا سرقة الثورة، وهذا هو سر نجاح الثورة في مصر وعبور مصر من المرحلة الانتقالية التي تلتها دون أي تهديد لتماسك الدولة الوطنية.
قم بكتابة اول تعليق