داليا زيادة – مدير مركز دراسات الديمقراطية الحرة
صدقاً قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، عندما وصف القمة الخليجية الـ41، المنعقدة في السعودية، اليوم، بأنها «قمة تاريخية بامتياز»، ليس فقط لأنها تعلن نهاية أزمة دبلوماسية، هي الأطول تاريخياً بين دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن أيضاً لأنها تأتي في وقت تعيد فيه دول المنطقة ترتيب أولوياتها وتحالفاتها في ضوء فوز جوزيف بايدن بالانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني)، وما يحتمله ذلك من عقد مواءمات لاحتواء موقف الإدارة الأميركية الجديدة بشأن بعض الملفات الرئيسية في المنطقة، منها حقوق الإنسان والتهديد الإيراني، والعلاقات بين روسيا وتركيا، وكذلك علاقات تركيا مع الدول العربية، تحديداً قطر والسعودية والإمارات ومصر.
يتطلع مراقبون، من كل أنحاء العالم وليس المنطقة العربية فقط، إلى القمة الخليجية الـ٤١، وما ستسفر عنه خصوصاً في مسألة إعادة الوفاق بين دول الخليج بعد مقاطعة دبلوماسية وتجارية استمرت قرابة الأربعة أعوام ضد قطر، من قبل جيرانها في الخليج العربي، السعودية والإمارات والبحرين، معهم مصر. ويبدو من التصريحات السابقة للقمة على لسان كبار المسؤولين في السعودية والإمارات ومصر، وأيضاً الكويت التي كانت لها مساع حثيثة طوال السنوات القليلة الماضية في رأب الصدع بين الأشقاء الخليجيين، أن مسألة المصالحة الخليجية باتت أمراً واقعاً، حتى وإن لم تلتزم قطر بالشروط الثلاثة عشرة التي وضعتها دول الرباعي العربي في بداية الأزمة، من بينها قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية على الأراضي القطرية، وإلغاء التعاون العسكري مع تركيا، وهما الشرطان الأهم اللتان لم تلتزم بهما قطر، بل على العكس كان للمقاطعة العربية لقطر خلال السنوات الماضية أثر عكسي في تقوية علاقات قطر العسكرية والدبلوماسية والتجارية مع كل من إيران وتركيا.
لقد كانت تركيا أحد أسباب الأزمة الخليجية منذ البداية، وكانت أيضاً هي أحد أكبر المستفيدين منها، فبالإضافة للوجود العسكري التركي في منطقة الخليج الذي وفرته لها قطر، فقد استفاد نظام أردوغان كثيراً من التمويل القطري لمشروعاته التوسعية في منطقة الشرق الأوسط، منها على سبيل المثال لا الحصر تمويل قطر لأنشطة الجيش التركي وقوات المرتزقة التابعة له في ليبيا، منذ التدخل العسكري التركي في ليبيا، في ديسمبر (كانون الأول) 2019، تحت مظلة تقديم الدعم لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس. هذا بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة التي دفعتها قطر لإنقاذ الاقتصاد التركي من الانهيار بسبب السياسات الفاشلة للحكومة، وكان آخرها في شهر مايو (أيار) الماضي، حين ضخت قطر مبلغ عشرة مليارات دولار في البنك المركزي التركي، ضمن ما أعلن عنه وقتها أنه اتفاق على تبادل العملة مع قطر، بالإضافة إلى الاستثمارات القطرية الضخمة في القطاع العسكري التركي، وأشهرها مصنع الدبابات التركي البالغ قيمته 20 مليار دولار، والذي اشترت قطر نسبة 49.9 % من أسهمه، في خطوة أثارت غضب المعارضة التركية ضد الجيش التركي، في نوفمبر.
ورغم كل ذلك، كانت تركيا هي أول دولة، ربما في العالم كله، تعلن ترحيبها بالمصالحة الخليجية، حيث أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً فور إعلان السعودية فتح الحدود البحرية والبرية مع قطر، رحبت فيه بمبشرات نهاية الأزمة الخليجية، وأكدت فيه على أن تركيا تعتبر نفسها «شريكاً استراتيجياً لدول مجلس التعاون الخليجي، وتولي أهمية كبيرة لأمن واستقرار منطقة الخليج»، وأنها ستدعم كل الجهود في هذا الاتجاه، في موقف يتناقض كثيراً مع مواقف تركيا السابقة خلال السنوات الستة الأخيرة، التي كانت تميل كل الميل نحو كفة قطر وإيران والتنظيمات الإسلامية التابعة لهم، على حساب علاقاتها باللاعبين الأهم في منطقة الخليج، على رأسهم السعودية والإمارات، التي كانت تركيا تناصبهم العداء صراحة، حتى أن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار توعد الإمارات، في حوار أجرته معه قناة «الجزيرة» القطرية، في أغسطس (آب) الماضي، بـ«محاسبة الإمارات في الوقت والمكان المناسبين»، على خلفية وقوف الإمارات في نقاط عدة في المنطقة لصد التدخلات التركية غير المشروعة، وأقربها على سبيل المثال، التدخل العسكري التركي في ليبيا، فضلاً على ما قامت به تركيا من تأجيج سياسي وإعلامي لحادث مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في 2018، في محاولة لتأليب الرأي العام العالمي ضد ولي العهد السعودي الجديد آنذاك، الأمير محمد بن سلمان.
لكن يبدو أن تركيا، مثلها مثل كل دول المنطقة، بدأت هي الأخرى تعيد ترتيب أولوياتها وتنظيم علاقاتها وتحالفاتها، خصوصاً في ظل التهديد الذي تشكله الإدارة الأميركية الجديدة على مصالحها، حيث إن جو بايدن لم يخف عداءه لتركيا ورغبته في الإطاحة بنظام أردوغان وحزبه من الحكم بأي طريقة. وهذا التحول في الموقف التركي قد بدأ في الظهور جلياً في الشهر الأخير من 2020، إذ تخلت تركيا بشكل واضح عن حليفتها إيران، وأرسلت إشارات غير مباشرة إلى الولايات المتحدة وحلفاء تركيا في منظمة الناتو، من أنها مستعدة لمواجهة التهديد الإيراني لمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما لقى هوى لدى السعودية، التي بدأت بالفعل في إعادة إحياء علاقاتها مع تركيا، عقب قمة مجموعة العشرين، التي عقدت نهاية العام المنقضي، بعد معارك دبلوماسية ضارية وصلت إلى حد إعلان السعودية مقاطعة المنتجات التركية في أكتوبر (تشرين الأول)، مما ترتب عليه أضرار اقتصادية فادحة لتركيا، المنهكة اقتصادياً أصلاً.
وكل هذا يعني أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منطقتنا المشتعلة بالصراعات الأبدية، تشهد مرحلة تاريخية في غاية الأهمية، يجري فيها إعادة تشكيل كل شيء، داخل الدول وبين دول المنطقة وبعضها البعض وبين دول المنطقة والعالم، ويبدو أنه سيكون لتركيا دور مهم جداً في إدارة ملفات رئيسية في هذا التشكيل الجديد، بما سيمكنها أيضاً من إحراز مكاسب في أزمات سياسية ودبلوماسية قديمة لديها مثل الصراع على الحدود البحرية في شرق المتوسط، والأزمة الحدودية التاريخية بين تركيا والأكراد في سوريا والعراق.
لكن نجاح تركيا في ذلك مشروط بالتزامها بحسن التفاهم مع دول المنطقة، خصوصاً اللاعبين الرئيسيين السعودية والإمارات ومصر، واحترام سيادة الدول، والتوقف عن التدخل في شؤونها، والتوقف أيضاً عن دعم التنظيمات الإسلامية التي تهدد أمن واستقرار دول المنطقة، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، التي توفر تركيا لعناصرها الملاذ الآمن منذ خروجهم من مصر في 2013.
قم بكتابة اول تعليق