انعكاسات الثورة الصناعية الرابعة على الحروب الحديثة

ا.د. غادة محمد عامر
عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
زميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا

يتزعزع الأمن الدولي على المستوى المؤسسي من خلال الطريقة التي تعمل بها الثورة الصناعية الرابعة على تمكين الفرد من خلال التكنولوجيا، والطريقة التي تطمس الخطوط الفاصلة بين الحرب والسلام، والعسكرية والمدنية، والمحلية والأجنبية، والعامة والخاصة، والمادية والرقمية. في هذا المقال سوف نقدم باختصار انعكاسات الثورة الصناعية الرابعة على حروب المستقبل وعلى الأمن القومي للدول.

أولا، سوف يصبح شن الحروب أسهل، حيث سيزيد الاعتماد على الآلات التي تعمل عن بعد في عملية القتل، فأولئك الذين يستخدمون أنظمة فتاكة سيكونون بعيدا عن ساحة المعركة ومعزولين عن الخطر الجسدي، وهذا سوف يعطي ميزة وسهولة في شن الحروب. ثانيا سوف تكون هناك سرعة في القتل، لأن السرعة التي يمكن أن تتخذ بها الآلات قرارات في المستقبل من المرجح أن تتحدى قدرتنا على التأقلم ورد الفعل السريع، وبالتالي هذا سيتطلب علاقة جديدة بين الإنسان والآلة. وهذا ما أكد عليه اللواء الأمريكي “ويليام هيكس” في مؤتمر مستقبل الجيش في أكتوبر 2016م حيث قال: “إن الصراع في المستقبل القريب سيكون مميتًا وسريعًا للغاية “. ثالثاً، سوف يزيد الخوف وعدم اليقين من المخاطر، لأن الشعور بعدم اليقين من القدرات الاستراتيجية للطرف الآخر كما هو الحال مع القدرات الإستراتيجية الجديدة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والفضاء والبحار العميقة والإنترنت يمكن أن تحفز على المخاطرة والسلوك العدواني. وحتى لو كنت واثقًا من أن لديك زمام المبادرة في مجال تكنولوجي مهم من الناحية الاستراتيجية، لن تكون واثقا من أن الصدارة ستستمر، وهذا سيجعل الحكومات أكثر ميلًا لاستخدامها قبل أن يلحق أحد المنافسين بها. في ظل هذه الظروف، تصبح الحرب عن طريق الخطأ، إما من خلال الثقة المفرطة في قدرتك على الفوز، أو بسبب الإدراك المبالغ فيه للتهديد، أكثر احتمالًا.

رابعا، سوف تتسبب القدرات الجديدة في حدوث تحول في التوازن بين الميزة الهجومية والدفاعية، على سبيل المثال، تتمثل إحدى ركائز الردع النووي في القدرة على “الضربة الثانية”، والتي تضع الفكرة التالية في ذهن الحكومات التي تريد شن هجوم نووي: “حتى لو دمرنا بلد الخصم تمامًا، فإن غواصاتهم ستظل موجودة لتنتقم”. لكن الآن يمكن لأسرابًا من الطائرات بدون طيار قادرة على تعقب الغواصات التي تطلق صواريخ نووية وتحييدها، كما  يمكنها التحليق تحت الرادار في عمق أراضي العدو. وبالتالي تتيح هذه القدرات عدم الخوف من الانتقام من الضربة الثانية. وقد أظهرت الهجمات الإلكترونية على البنوك ومحطات الطاقة والمؤسسات الحكومية أنه لم يعد من الضروري استخدام قاذفات القنابل للوصول إلى البنية التحتية الحيوية لعدو بعيد دون سابق إنذار. وبالتالي قد تبدو فكرة توجيه “الضربة القاضية” ممكنة وبقوة. خامساً، من الصعب السيطرة على سباق التسلح الجديد، لقد كانت إحدى آليات الاستقرار الاستراتيجي هي اتفاقيات الحد من التسلح، والتي عملت على الحد من استخدام الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية. لكن عندما يتعلق الأمر بالتركيبات المتعددة للتكنولوجيا التي نراها كعلامة مميزة للثورة الصناعية الرابعة، فإن إحدى العقبات التي تعترض الاتفاق الدولي ناتجة عن عدم اليقين بشأن كيفية توزيع الفوائد الاستراتيجية. على سبيل المثال، يناقش المجتمع الدولي حاليًا الأخلاقيات والتطبيق العملي لحظر تطوير أنظمة الأسلحة الفتاكة ذاتية التشغيل. وأحد العوامل التي تعيق هذا النقاش هو عدم وجود توافق في الآراء بين الخبراء حول ما إذا كانت هذه الأنظمة ستعطي ميزة للمدافع أو المهاجم.

سادسا، سيكون هناك لاعبين كثيرين سواء من الدول أو من الفاعلين من غير الدول، نظرًا لأن التكنولوجيا المتطورة أصبحت أرخص. وهذا عكس ما حدث عند تطوير القنابل النووية، فعلى الرغم من أن إمكانات القنبلة الانشطارية كانت مفهومة من منظور الفيزياء النظرية، إلا إن وضعها موضع التنفيذ شمل آلاف العلماء ومليارات الدولارات، وهي موارد لا يمكن إلا لعدد قليل من الدول حشدها. وحتى بعد مرور أكثر من 70 عامًا، لا يزال نادي الدول الحائزة للأسلحة النووية صغيرًا بشكل حصري. في المقابل، هناك أكثر من 70 دولة تقوم بتشغيل أقمار صناعية تدور حول الأرض اليوم، بل ويتم إطلاق الأقمار الصناعية النانوية من قبل الجامعات والشركات. كما إنه الآن يمكن بشكل عملي القيام بهندسة وراثية في الطابق السفلي من أي منزل. وهذا كله يخلق المزيد من المنافسين للدول، ويجعل من الصعب خلق اتفاقيات لمنع وقوعها في الأيدي الخطأ. سابعا، سوف تخلق التكنولوجيا منطقة رمادية، حيث إن التكنولوجيا القابلة للتسليح ستُمكِّن الجهات الفاعلة غير الحكومية من إحداث فوضى على نطاق واسع. كما أنها ستهدد الاستقرار من خلال تقديم المزيد من الخيارات للدول في شكل حرب “مختلطة” واستخدام الوكلاء لخلق حالة رمادية بين الحرب والسلام. ثامناً، فقدان السيطرة القانونية، حيث كانت في الماضي المؤسسات التي تحكم القيود القانونية والأخلاقية على إدارة الحرب أو السيطرة عليها مجموعة صغيرة معظمها دول أو أشخاص يتصرفون تحت رعاية الدولة. لكن الان هذه السيطرة آخذة في الانحسار لأن جيوش معظم الدول لم تعد في طليعة خلق التكنولوجيا المتقدمة، فمعظم المواهب التي تقود البحث والتطوير في التقنيات التحويلية المزدوجة الاستخدام اليوم يتم توظيفها في القطاع الخاص. على سبيل المثال يتجلى تناقص سيطرة الدولة على المواهب من خلال تجنيد “أوبر” لفريق من الباحثين في مجال الروبوتات من جامعة “كارنيجي ميلون” في عام 2015م ، مما أدى إلى القضاء على الجهود البحثية التي كانوا يعملون عليها لصالح وزارة الدفاع الأمريكية.

تاسعا، سوف تتوسع مجالات الصراع المحتمل، مثل الفضاء الخارجي والمحيطات العميقة والقطب الشمالي – التي يُنظر إليها جميعًا على أنها بوابات للمزايا الاقتصادية والاستراتيجية – عبر التقنيات والمواد الجديدة التي يمكنها التغلب على الظروف غير المواتية. على سبيل المثال، إن الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة للوصول إلى الفضاء واستغلاله، ، يسمح للمتحاربين بالمساس بفاعلية التدابير الدفاعية التي تعتمد على الأقمار الصناعية للاتصالات والملاحة والقيادة وتكنولوجيا التحكم. عاشرا، استخدام البشر كفئران تجارب دون علمهم، وقد أوضح المنظر السياسي “كارل شميت”، إن الصراع السياسي هو “عالم الاستثناء” بكل أنواع الطرق التي تجعل من المستحيل أخلاقياً أكثر احتمالاً. وقد طور البروفيسور “أولي ويفر” ومدرسة كوبنهاغن للعلاقات الدولية مفهوم جديد لوصف كيفية قيام الفاعل الأمني ​​باستدعاء مبدأ الضرورة كطريقة للالتفاف حول القيود القانونية أو الأخلاقية. وهذا ما اتضح الآن من الروايات التي كشفت عنها دراسات الحرب الباردة، من أن الجنود استخدموا كفئران تجارب للبحث في تأثيرات الأسلحة الجديدة، وربما تكون التجارب العسكرية جارية اليوم في مجالات مثل تعزيز وزيادة القدرات البشرية.


الأستاذ الدكتور غادة عامر هي عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وزميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا،   سفير تقني لوكالة الفضاء المصرية 2022 – 2024، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للعلوم والتكنولوجيا ونائب رئيس المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا. شغلت عددًا من المناصب الاخرى، مثل وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث بجامعة بنها مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في اكاديمية البحث العلمي – مصر، ومدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في جامعة بنها ، والرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمختبر الابتكار ASTF ، والرئيس السابق لقسم الهندسة الكهربائية بجامعة بنها والمدير التنفيذي للأوقاف العالمية. كما اختيرت لتكون ضمن أحد أعضاء لجنة تحكيم جوائز” رولكس” للابتكار بسويسرا.
تم الاعتراف بجهودها دوليًا اختيرت من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات التعليم الهندسي IFEES ومجلس عمداء الهندسة العالمي GEDC في الولايات المتحدة الأمريكية، كأحد أفضل القصص الملهمة للمرأة في مجال الهندسة والتكنولوجيا في أفريقيا.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*