العميد صلاح الدين أبوبكر الزيداني
في أحداث الحرب الروسية الأوكرانية لم يعد للسياسة صوت يسمع مع أصوات السلاح والقصف شبه اليومي ومع أن الحرب هي أحد أهم أدوات السياسة لكنها هنا تعالت فوق السياسة بحيث لم تترك لها صوتا البتة فالصراع المسلح القائم بين الطرفين تجاوز امكانات دولة تصارع دولة أخرى بل أصبح صراع يغذيه ويدعمه حلف قوي , المفارقة هنا أن هذا الحلف لم يقبل بالدولة التي يدعمها عضو فيه مع أنه يقدم لها الدعم العسكري والمادي , ربما لأنه يرى بأنها خط التماس المباشر الذي يجب أن يبقى فاصلاً ومؤمناً ضد اجتياح الروس ومن هنا تجاوزت الحرب الدائرة هناك كل التوقعات وطبقت فيها كل أنواع الحروب التقليدية المعروفة “كالحرب الاستباقية , الدفاعية , الهجومية , العصابات , الغابات , الحدود , المدن , الخنادق , الخاطفة , الهجينة , الضربات الجوية وغيرها” مع كل ما تشمله تلك الأنواع من عمليات قصف وتدمير وضرب للبنية التحتية بأسلحة مختلفة منها ما هو جديد ولا يوجد مثيل له.
ومع كم العتاد والمعدات والأسلحة الجديدة المتطورة التي أستخدمت في هذه الحرب وحجم الدعم والمساعدات العسكرية والمادية الغير مسبوقة والتي تدفقت على أوكرانيا, فأن ذلك عملياً لم يقدم شيئاً لأوكرانيا بل زاد من حجم خسائرها وأطال حالة القتال والصراع المسلح بين دولتين جارتين , بل أنه زاد الطين بلة وأصبحت أوكرانيا في وضع المتلقي لضربات وهجمات متتالية مع ما يسببه ذلك من حالة الإنهاك المستمر وتدني المعنويات وإنتظار لبلاء لم ينقطع جلبه لهم الغرب دفاعاً عن مصالحه وأمنه في المقام الأول , ولا تعرف أي سياسة تنتهجها أوكرانيا لقبول هذا الوضع وإستمراره ولماذا مع أن الجنوح للسلم أفضل.
ما ميز العمليات الروسية الأخيرة في أوكرانيا هو مدى الدقة المتناهية في ضربات الصواريخ الفرط صوتية بعيدة المدى والتي طالت منظومة باتريوت السلاح الأحدث في منظومات الدفاع الجوي التي تلقتها أوكرانيا وأيضا تدمير أحد مراكز صنع القرار في القوات المسلحة الأوكرانية وأعتقد جازماً بأن وراء هذه الدقة العالية تقنيات روسية جديدة لعل أهمها إطلاق القمر الصناعي الروسي الجديد Kondor-E المخصص للمراقبة بالرادار في شهر مايو الماضي وفقًا لإعلان رسمي من شركة Roscosmos ، وهو قمر صناعي لأغراض عسكرية طور من قبل قوات الفضاء الروسية.
القمر الصناعي الروسي الجديد Kondor-E ينتمي لمجموعة أقمار Kondor-FKA وهي عبارة عن سلسلة من الأقمار الصناعية المخصصة لمهام التصوير والاستطلاع العسكري تتبع وكالة الفضاء الفيدرالية “FKA”, وطورتها شركةMashinostroyeniya لقوات الدفاع الفضائية الروسية , يطلق على مجموعة الأقمار الصناعية التابعة للجيش الروسي تسمية “Kondor-E” ، في حين أن الأقمار الصناعية المخصصة للأغراض المدنية تسمى Kondor-FKA وتستخدم لأغراض رسم الخرائط وتحديد ظروف الأرصاد الجوية ورصد الموارد الطبيعية والتنقيب عنها.
يعتبر مشروع Kondor-E سليلًا مباشرًا لمحطة الفضاء السوفيتية Almaz ، والتي تم تصميمها لحمل رادار تصوير قوي كأحد أدوات الاستطلاع الأساسية قبل نهاية الاتحاد السوفياتي وفي منتصف التسعينيات قامت الشركة بتقليص مفهوم التصوير بالرادار المداري إلى قمر صناعي خفيف الوزن يطلق عليه اسم كوندور وبعد ما يقرب من عقدين من جهود التوقف والانطلاق ، تم إطلاق أول كوندور ، الذي تم بناؤه لصالح وزارة الدفاع الروسية , من المتوقع أن تكون وزارة الزراعة ووزارة الطوارئ العملاء الرئيسيين لبيانات النسخة المدنية للقمر الصناعي وفقًا للمنشورات الرسمية.
في فبراير 2022 أطلقت وزارة الدفاع الروسية أحد مشتقات Kondor المعروف باسم Neitron بعد تمويله ويعد الجيش الروسي هو المستفيد الرئيسي من البرنامج ، ويتم التحكم في القمر الصناعي وتشغيله من قبل شركة روسكوزموس.
ومع ظروف الحرب الدائرة حالياً يستخدم القمر الصناعي Kondor-E للتعرف على المنشآت العسكرية الأوكرانية في جميع أنحاء أراضي أوكرانيا , وسيقوم مرتين يومياً بمشاهدة جميع أنحاء أوكرانيا ، بالإضافة إلى الدول المجاورة لها , وهو قادر على اكتشاف الأهداف العسكرية وسيكون رادار كوندور قادرًا على تغطية مساحة من سطح الأرض تبلغ 20 × 50 كيلومترًا والكشف عن أجسام يتراوح حجمها بين ثلاثة وسبعة أمتار , وله عن القدرة على تصوير رقعة تصل إلى 100 × 500 كيلومتر , وتؤكد المصادر العسكرية الروسية بأن قدرات رادار كوندور لا تتأثر مهما كانت الأحوال الجوية.
ومن هنا تكتمل الصورة في دقة الضربات الأخيرة للأهداف الأوكرانية لأن كل مواقع القيادة والسيطرة وأيضا تحركات القوات ستكون مراقبة بشكل دقيق وهذا يجعلها في دائرة الخطر بشكل يومي وسيكون مصدر ازعاج كبير لها حيث سيتم رصد طرق الإمدادات ومحاور تحرك القوات وجميع مخابئ الأسلحة غير المكتشفة سابقًا وكذلك القواعد العسكرية المشتبه بها وستكون معرضة للضربات الدقيقة وقد تتعرض لضربات إستباقية لتحييدها , وهكذا لم يعد بإمكان الجيش الأوكراني إخفاء أي شيء عن الروس ، وبالتأكيد سيغير هذا الأمر مسار الحرب في أوكرانيا بشكل جذري.
يقول الخبير سكوت ريتر “مفتش الأسلحة الدولي السابق في العراق” أنه بالمقارنة مع الهجمات الصاروخية الدقيقة على كييف والتي يعتقد أنها جاءت نتيجة لبيانات الأقمار الصناعية الجديدة والأخبار التي وردت من موسكو فقد وقعت في الأسبوع الماضي هجمات صاروخية على بطارية باتريوت ثانية ، بالإضافة إلى انفجار مجهول تحت الأرض تسبب في زلزال بقوة 3 درجات في كييف. كما قصفت منشآت قيل إنها جزء من مخزون ذخيرة قدمها الغرب ضمن المساعدات العسكرية للجيش الأوكراني.
أعتقد بأن القادم سيكون أصعب بالنسبة لمسار العمليات العسكرية للجيش الأوكراني الذي سيكون مكشوفا في تحركاته بوجود قمر صناعي راداري يتتبع آثاره ويكاد يبصر ما يجري على الأرض بشكل دقيق ومع وجود بيانات دقيقة في بنك الأهداف الروسية قد تزداد وتيرة القصف الدقيق بالأسلحة الروسية الفرط صوتية , وستكون أياماً عصيبة على الشعب الأوكراني الذي يتحمل نتائج صراع مسلح كان من الأجدر أن لا يدخل فيه لكنها لعبة السياسة والحرب التي يدفع ثمنها الأبرياء ويقودها الساسة المتعجرفون ولن تقدم لهم شيئاً سوى المزيد من القتل والدمار.