الذخائر المتسكعة… التحدي الجديد

العميد صلاح الدين أبوبكر الزيداني

الذخائر المتسكعة نمط جديد من نظم الأسلحة الناشئة اكتسبت شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة بسبب قدراتها التقنية والقتالية العالية ، عرفت مؤخراً باسم طائرات كاميكازي أو الطائرات الانتحارية بدون طيار ، إسمها مشتق من عملها فهي أجسام طائرة تخرج فرادى او في اسراب تتسكع في السماء لفترة طويلة من الزمن مسلحة بأنواع مختلفة من الرؤوس الحربية ، تراقب أهداف مختارة بعناية لتقتنصها ثم تنقض عليها لتنفذ عمليات دقيقة في نقاط المواجهة وخلف خطوط العدو، لتترك وراءها الاثر البالغ في تدمير عدة وعتاد ومعنويات العدو بما يغير الموقف القتالي والسياسي في الحروب.

تشترك الذخائر المتسكعة في خصائصها وتصنيفها مع الصواريخ الجوالة ومركبات القتال الجوية دون طيار  (UCAVs) وتختلف عن الطائرات بدون طيار، كونها مخصصة لتنفيذ هجوم لمرة واحدة ، وكذلك لوجود رأس حربي مدمج معها وعلى هذا النحو يمكن إعتبارها سلاح مستحدث أثبت نجاحه وفعاليته. 

استثمرت العديد من الدول قدراتها وخبراتها الفنية بشكل كبير ومتزايد في تطوير هذه الأنظمة وتتمثل إحدى المزايا الرئيسية للذخائر المتسكعة في القدرة على تحسين القدرات الهجومية الدقيقة ، مما يسمح بالاشتباك مع الأهداف المعادية وتدميرها بدقة ضمن نطاقات بعيدة , وهذا يجعلها خيارًا مفضلاً للدول التي تواجه حروبًا غير متكافئة وأيضاً لغايات تعزيز القدرات العسكرية وتحقيق التفوق الميداني في ميادين القتال.

مزايا استخدام الذخائر المتسكعة

إستخدام أنظمة الذخائر المتسكعة له مزايا عديدة فهي الى جانب كونها توفر وعيًا معززًا بالوضع الميداني في الزمن الحقيقي فإنها توفر أيضاً رؤية شاملة لساحة المعركة ما يسمح للقادة باتخاذ قرارات صحيحة وحاسمة وتحديد وتتبع التهديدات المحتملة بشكل أفضل وهذا مهم بشكل خاص في الحروب غير المتكافئة ، حيث يعمل المتمردين والإرهابيين في كثير من الأحيان في المناطق الحضرية ويختلطون مع السكان المحليين ، ما يسمح للقادة بفهم طبيعة الموقف والتهديدات المحتملة بشكل أفضل والتعامل معها بمهنية عالية.

توفر الذخائر المتسكعة قدرة هجومية موجهة ودقيقة للغاية ويعتبر ذلك مهم بشكل خاص في الحالات التي يجب فيها تقليل الأضرار الجانبية ، كما هو الحال في المناطق الحضرية أو عند إشراك أهداف عالية القيمة حيث يمكن التوجيه نحو الاهداف التي يتعذر على الوسائط القتالية التعامل معها مباشرة لتدميرها بدقة مما يقلل من مخاطر الأضرار الجانبية ويضمن تدمير الهدف المبرمج فقط.

من حيث التكلفة يشجع رخص ثمنها وتكاليف تشغيلها وصيانتها إستحواذ الكثير من الجيوش عليها وذلك مقارنة بالطائرات التقليدية المأهولة أو الأنظمة الأرضية القتالية التي تتطلب ميزانيات ضخمة للحصول عليها وتشغيلها  وبالتالي فهي دائماً ضمن أفضل الخيارات المتاحة لتعزيز القدرات العسكرية الجوية وخاصة لتلك الدول التي لديها موارد محدودة.

وهناك ميزة مهمة لطائرات الذخائر المتسكعة فأغلبها صامتة وهادئة وصغيرة الحجم ولا يصدر عنها أي هدير فلا يكاد المستهدف يسمعها ولا يمكن رؤيتها في الجو لصغر حجمها وبالتالي لا يمكن التكهن بتحديد موعد قدومها و واتجاهها وهذا ما يجعلها في الواقع سلاحًا فعالاً للغاية.

تختلف أنظمة عمل الذخائر المتسكعة عن بعضها فعناك أنظمة تعمل بتقنيات الطيران المستقل وأخرى بتقنية الطيران المحدد بإحداثيات مبرمجة مسبقاً من المشغلين ، أو التحكم فيها خلال الوقت الفعلي مع  دمج البرامج الحاسوبية المتاحة الخاصة بالتعرف على الصور وخاصية الطيار الآلي.

وتستخدم الذخائر المتسكعة مستشعرات تمكنها من البقاء في الجو لفترات طويلة وبعضها حيث يمكنها العمل في “أسراب” كبيرة لمهاجمة هدفها أو التهرب أو اختراق دفاعاتها وتفجير الرؤوس الحربية المختلفة الأوزان.

تستطيع البحث عن الأهداف وتدميرها باستخدام خوارزميات الكمبيوتر بدلًا من الاعتماد بالكامل على توجيه مشغليها وتتعرف على أهدافها بتقنية التعرف على الوجه، ما يعني أنها تستطيع البحث عن الأهداف البشرية الفردية وتحديدها بدقة عالة وهذه مخصصة لعمليات الإغتيال وبعضها يتم توجيهها كهروبصرياً مستخدمة كاميرات لمسح التضاريس وحواسيب مدمجة على متنها لتقرر بنفسها ما يبدو أهدافاً.

تساهم الذخائر المتسكعة أيضاً في عمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع حيث يمكنها استقبال واستلام المعلومات أثناء الطيران والكشف عن تجمعات العدو وقواعده ومحطات الرادار الأرضية.

عسكرياً تنقسم الذخائر الحوامة المتسكعة إلى فئتين بحسب الإستخدام “تعبوية” و”استراتيجية” وتتميز التعبوية منها بصغر حجمها وخفة وزنها بما يكفي لنقلها في حقيبة الظهر أو مشياً على الأقدام ويمكن استخدامها ضد المشاة، والعربات ذات التدريع الخفيف، وعربات الخدمة والنقل، والتحصينات والخنادق.

أما الذخائر ذات التصنيف الاستراتيجي فهي أكبر حجماً وتتطلب وسائط نقل كبيرة لنقلها وإطلاقها. وغالباً ما تستخدم ضد أهداف مهمة كبيرة محصنة ، أو لمسافات أبعد مما يمكن للذخائر التعبوية أن تصل إليه.

نماذج من ذخائر “كاميكازي” المتسكعة.

نعود للوراء قليلاً في لمحة تاريخية لنتتبع أصل التسمية فكلمة “كاميكازي” تعني في اللغة اليابانية “الرياح المقدسة” وتاريخياً تستخدم الكلمة للإشارة إلى إعصار يقال أنه أنقذ اليابان من غزو اسطول مغولي بقيادة قبلاي خان في 1281م، وعسكريا تستخدم للتعبير عن “الهجمات الانتحارية” وهي تكتيك عسكري لعمليات جوية لجأت إليها اليابان ضمن قوى المحور، في حملة المحيط الهادي إبان الحرب العالمية الثانية عام 1944م , ونفذها الطيارون اليابانيون الانتحاريون (الكاميكازي) ببطولة وإحترافية عالية حيث كانوا يصطدمون بسفن الحلفاء عمداً بطائراتهم المحملة بالمتفجرات والطوربيدات وخزانات الوقود المملوءة بهدف تفجيرها وأشهر تلك العمليات عملية الهجوم على بيرل هاربر.

ومن هنا ظهرت التسمية مجدداً لتواكب الغاية من إستخدام الذخائر المتسكعة وأنظمة الطائرات بدون طيار الإنتحارية التي أصبحت جزءا مهماً من حروب اليوم وتتطور سريعاً لتلائم حروب المستقبل.

ظهور الذخائر المتسكعة ليس جديداً ويعتبر بعض الخبراء أن الفكرة تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى إذ شكل الطوربيدان الأميركيان الطائران “كيرتس سبيري” و”ليبرتي إيغل” البداية الحقيقية لتطبيق فكرة الذخائر الجوالة وبعدها ظهر برنامج أطلق عليه اسم “أفروديت”، بهدف تحويل القاذفات الثقيلة المتقادمة في ترسانته من نوع “بي-17 فورتريس” إلى ذخائر جوالة تحمل داخل بدنها نحو 10 أطنان من المتفجرات وكان ذلك خلال أحداث الحرب العالمية الثانية وخلال تلك الحقبة كان لألمانيا  النازية تجربة مهمة في هذا الصدد، عبر برنامج “ميستيل”، حين قامت بتعديل مجموعة من مقاتلات “ميسرشميت بي أف-109” لتنفيذ مهام مشابهة.

وتوالت التجارب والأفكار لتظهر بعدها طائرة هاربي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مع أنظمة مشابهة في ذات الفكرة والغاية ثم طورت لتواكب الحاجة الفعلية لهذا النوع من الأنظمة القتالية التي ظهرت مجدداً بقوة في ميادين الحرب بدءاً من عمليات الأتراك ضد مقاتلي كردستان مروراً بعمليات القتال في سوريا والأراضي المحتلة وصولاً  للحرب الروسية الأوكرانية حيث أصبحت تستخدم على نطاق واسع خاصة بعد أن لجأت روسيا لإستخدامها في سلسلة هجمات لضرب البنية التحتية المدنية والعسكرية لتزرع الرعب على جبهات القتال وفي المدن الأوكرانية البعيدة عن الخطوط الأمامية للحرب وبحسب بيانات أوكرانية رسمية فقد عانت مدن كييف و فينيتسيا و أوديسا و زاباروجيا ومدنا أخرى من وابل من هجمات الذخائر المتسكعة ، وناشدت لذلك الدول الغربية الداعمة لها بتكثيف مساعدتها في مواجهة التحدي الجديد والتصدي له.

أوجعت ضربات طائرات شاهد الإيرانية الصنع بمختلف أنواعها وطائرات لانسيت و KYB-BLA الروسية القوات الأوكرانية وأوقعت فيها خسائر كبيرة في العتاد والمقاتلين وشاهد العالم ذلك من خلال مقاطع الفيديو التي نشرتها وزارة الدفاع الروسية أو تلك التي أنتشرت في مواقع التواصل الإجتماعي وظهرت فيها تلك الذخائر وهي تبيد اهدافها بلا هوادة.

وفرت ذخائر شاهد 136 المتسكعة وطائرات مهاجر 6 بدون طيار بديلاً أقل تكلفة بكثير من الضربات الروسية التي استخدمت فيها الصواريخ الباليستية أو الصواريخ المجنحة الروسية فكانت طائرات شاهد 136 التي يقال أن روسيا أعادت تسميتها وإستخدمها تحت اسم “جيران” كحمولات متنقلة وذخائر متسكعة ترقب أهدافها وتنقض عليها بأداء مميز أبهر الجميع.

وبالمثل استخدم الأوكرانيون طائرات كاميكازي من طراز RAM-II محلية الصنع وأخرى من طراز «Switchblade سويتشبليد» التي قدمتها الولايات المتحدة ضمن المساعدات العسكرية لضرب أهداف روسية وطلبوا من حلفائهم تزويدهم بالمزيد من هذه الأسلحة الفتاكة التي تتميز بصغر حجمها حيث يمكن حملها في حقيبة الظهر ويستخدمها الجنود على مستوى الفصيل في الميدان بشكل مباشر وسريع ولنجاحها يتوفر نوعان من طائرات «سويتشبليد» نوع 300 مخصص للاستخدام ضد الأفراد، والنوع 600 مخصص للاستخدام ضد الدبابات والعربات المدرعة.

كما أنتج المجمع الصناعي العسكري الإيراني عدة أنواع منها المسيرة آرش 2 الانتحارية التي تتميز بمداها العملياتي الكبير إذ يبلغ مداها 2000 كيلومتر إلى جانب الوزن الملفت للنظر للرأس الحربي، وهي سلاح فعال ضد الأهداف في عمق أرض العدو , و المسيرة الانتحارية المصغرة معراج 521 والتي  تشبه إلى حد بعيد المسيرة الأمريكية سويتش بليد الانتحارية من حيث المظهر والأداء.

وأستثمرت عدة دول أفريقية في برامج الذخائر المتسكعة كوسيلة لتعزيز قدراتها العسكرية ومنها نيجيريا التي تقوم بتطوير ذخيرة إيشوكو المتسكعة التي يتم استخدامها في العمليات ضد جماعة بوكو حرام الإرهابية بمدى يصل إلى 15 كم لضرب مجموعة كبيرة من الأهداف

وأطلقت مؤسسة الصناعة العسكرية السودانية (MIC) ذخيرة تسكع محلية من طراز كامن Kamin-25 مصممة ليتم إطلاقها من مركبة جوية بدون طيار (UAV) تم الكشف عنها خلال معرض آيدكس 2023 الذي أقيم مؤخرًا في أبو ظبي.

وأعلنت شركة Paramount Aerospace Systems) PAS) وهي شركة تابعة لشركة Paramount -شركة الطيران والتكنولوجيا العالمية التي تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقراً لها ، أن ذخيرة التسكع الرائدة N-Raven ستبدأ الإنتاج في أبريل من هذا العام مع التسليم الأول في أكتوبر ، لتلبية المتطلبات الملحة للقوات المسلحة حول العالم.

هناك ايضاً النسخ الأمريكية الأحدث من الذخائر المتسكعة مثل طائرة “كويوتي” التي طورتها البحرية الأمريكية والتي تستخدم مستشعرات تمكنها من البقاء في الجو لفترات طويلة بحثاً عن أهدافها كالذئب الذي ينتظر الفريسة.

وظهرت نسخ تركية من ذات الفئة تحت اسم Kargu تعتبر من النماذج الجديدة التي ينتظر أن يكون لها نصيب كبير من النجاح كسابقتها بيرقدار التي أنتشرت بقوة ونماذج جديدة تم تطويرها محليًا في الهند بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا وكذلك أرمينيا حيث لعبت كل من الذخيرة والطائرات بدون طيار دورًا رئيسيًا في نتيجة الحرب , وهناك أيضا نماذج متنوعة بخصائص تقنية عالية تنتجها أذربيجان وروسيا البيضاء والصين ودولة الكيان الصهيوني وتايوان وكوريا الجنوبية.

دول عديدة اتجهت لإنتاج الذخائر المتسكعة بشكل كبير خاصة بعد النجاح الذي اظهرته هذه الفئة من الأسلحة في الحرب الروسية الأوكرانية , إنها سلاح جديد وتحد جديد للأسلحة المستقلة القاتلة سيغير كل قواعد الحرب وسيكون له أثراً مهما في استحداث تكتيكات جديدة لاستخدامه والتصدي له على حد سواء.