العقيد الركن م. ظافر مراد
بعد مضي شهر على حرب غزة، لا يزال الموقف العسكري ضبابياً وغامضاً على الرغم من تقدم القوات الإسرائيلية في بعض مناطق القطاع، بينما يظهر الموقف الإنساني بأسوأ حالاته ملقياً التهم على كل صناع القرار الدوليين والمؤسسات والمنظمات العالمية التي تعني بضبط الصراعات وملاحقة مجرمي الحرب، إنَّها نهاية العقد الدولي وبداية جديدة لمرحلة لم تتَّضح معالمها بعد، وإن كانت مساراتها قد حُدِّدت على ما يبدو بطرق ووسائل عنفية لم يسبق لها مثيل.
يبدو جلياً أن “الستاتيكو” الذي كان قائماً في منطقة الشرق الأوسط، على المستويين السياسي والعسكري، قد انهار بسبب سوء الحسابات والتقدير الخاطىء للاعبين الكبار المتحكمين بكافة تفاصيله، معتقدين أنَّهم ممسكين بخيوط اللعبة على الرغم من العديد من المؤشرات الخطرة التي تجلَّت في بعض الحوادث المتفرقة، والتي كان يتم تجاهلها أو تأجيل ردة الفعل عليها أو التغاضي عن إيجاد حلول جذرية لمسبباتها.
تتحمَّل الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية الكبرى في انفجار الوضع على هذا الشكل، كونها اللاعب الأكثر تأثيراً في المنطقة وفي العالم، وفي الوقت الذي كانت تدير فيه نشاطاتٍ ديبلوماسية بغية بلورة وضع سياسي-اقتصادي في المنطقة يخدم مصالحها ومصالح حلفائها، كانت تُخطيء في حساباتها وتقديراتها في مسائل أخرى قد تكون أكثر أهمية، وهي القضايا الأمنية والإنسانية وإحقاق العدالة. وبغض النظر عن مسؤوليات اللاعبين الآخرين عن ما يجري حالياً، أصبح الجميع متأكدين بأن ما بعد 7 تشرين الأول 2023، لن يكون كما قبله، بل سيكون مختلفاً تماماً.
تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة وفي الخارج، إلى إحداث تغيير جذري في الوضع القائم، وهذا التغيير سيكون مؤلماً ومكلفاً جداً للجميع، وعلى وجه الخصوص، بالنسبة لدول وأطراف المنطقة المشاركة في الصراع بطريقة أو بأخرى. وسيتم التركيز على خلق “وضع مناسب” يتمثَّل وفق تصريحات نتانياهو، بعدم وجود حركة حماس وإلغاء دورها من المعادلة وبشكلٍ نهائي، ليتم من بعد ذلك التفاوض وإيجاد حلول جذرية للقضية الأساسية، وهي القضية الفلسطينية. وعلى الأرجح سيتم التفاوض حول حل الدولتين، مع وضع شروط جديدة وقاسية على الدولة الفلسطينية الموعودة.
تستند السياسة الخارجية الأميركية على استعمال القوة الذكية، أي الدمج بين القوة الصلبة “العسكرية والاقتصادية” والقوة الناعمة (المتمثلة بتقديم نماذج جذابة في السلوك وفي الحياة السياسية والاجتماعية والإنسانية) ويبدو حالياً أن الأدوات والوسائل المستعملة سابقاً قد استُبدلت بوسائل أخرى، كما يبدو واضحاً أنَّ استقدام حاملات الطائرات والغواصات وتعزيز القيادة الأميركية الوسطى، قد يكون على الأرجح تحضيراً لعمل عسكري كبير، يبدو أن تجنبه أصبح متعسراً إلى حدٍ بعيد، أو في الحد الأدنى، التهديد بهذه القوات لفرض الإرادة الأميركية في المنطقة، والتي من الطبيعي أن تكون متوافقة مع إرادة إسرائيل.
تأسَّست “القيادة الوسطي الأميركية-US Central Command” في العام 1983، وُيغطي نطاق القيادة الوسطى العمليات العسكرية، إقليم يشمل 21 دولة، تمتد من مصر غرباً حتى كازاخستان شرقاً، وتضم كل الدول العربية الواقعة في القارة الآسيوية، ويوجد للولايات المتحدة حوالي 50 ألف عسكري في دول المنطقة، إضافة إلى ما يقارب 5 آلاف عسكري آخرين في المقر الرئيسي للقيادة في قاعدة ماكديل الجوية بولاية فلوريدا. أبرز المهام التي نفذتها هذه القيادة، عملية “عاصفة الصحراء” 1991 وعملية “حرية العراق” 2003.
وتنص مهمَّتها حرفياً: تقوم القيادة المركزية الأمريكية بتوجيه وتمكين العمليات والأنشطة العسكرية مع الحلفاء والشركاء لزيادة الأمن والإستقرار الإقليميين لدعم المصالح الأمريكية الدائمة. أولويات القيادة: ردع إيران، مكافحة المنظمات المتطرفة العنيفة، التنافس الإستراتيجي.
في الأول من أيلول 2021، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية دخول إسرائيل رسمياً ضمن نطاق مسؤوليات منطقة القيادة الوسطى العسكرية (CENTCOM)، بعد أن كانت تابعة للقيادة الأوروبية (EUROCOM)، ولذلك دلالاتٌ هامة ومؤشر على تغيير جذري في إستراتيجية الولايات المتحدة العسكرية في المنطقة. في نيسان من العام 2022، تولَّي الجنرال “إريك كوريلا” مهام رئاسة القيادة الوسطى للجيش الأميركي وقام بعدة زيارات ونشاطات استطلاعية.
بعد عملية طوفان الأقصى، تم تعزيز القيادة الوسطى الأميركية بشكلٍ سريع، وهذه التعزيزات هي وعلى التوالي: حاملة الطائرات “يو أس أس جيرالد آر فورد” مع مجموعة القطع البحرية التابعة لها، وضمنها 4 مدمرات، حاملة طائرات ثانية هي “يو أس أس دوايت دي آيزنهاور” والقطع البحرية التابعة لها، الغواصة “يو أس أس فلوريدا” التي تحمل 154 صاروخاً موجَّهاً من نوع توماهوك، إضافة إلى إرسال عدة اسراب من الطائرات المقاتلة والقاذفة إلى القواعد الجوية الأميركية في المنطقة. لم يقتصر الحشد العسكري في المنطقة على القوات الأميركية، بل أن القوات البريطانية أعلنت عن إرسال سفينتين حربيتين وطائرات إلى المنطقة، وأرسلت ألمانيا حوالي 1000 عنصر من القوات الخاصة والتي ضمت أيضاً وحدة خاصة بحرية ووحدة خاصة تابعة للشرطة الفدرالية متخصصة في تحرير الرهائن، وتمركزت في قبرص والأردن. يوجد في المنطقة أيضاً الأسطول الأميركي السادس وضمن نطاق عمله البحر الأبيض المتوسط، والأسطول الأميركي الخامس الذي يعمل في البحر الأحمر ومنطقة الخليج.
السؤال المطروح حالياً، لماذا هذا الحشد الكبير واستحضار هذه القدرات العسكرية النوعية والمتخصصة،على الرغم من الوجود السابق لقوات أميركية كبيرة في المنطقة؟ وهل هذا مجرد عرض للقوى ضمن إستراتيجية الردع والتهديد التي تعتمدها الولايات المتحدة وحلفاؤها، أم أنه مؤشراً على نية واشنطن في تنفيذ عملية عسكرية كبيرة في المنطقة؟
كل الأمور مطروحة على الطاولة، ولكن ومن خلال القراءات المتأنية والدقيقة للحراك الديبلوماسي ولتصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين، يبدو أن القرار قد اتُّخذ وهناك إرادة أميركية وغربية في تغيير الواقع في منطقة الشرق الأوسط، والواضح أن القوى الغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، تسير خلفها في قراراتها وإرادتها حتى النهائية. سيستغرق التغيير وقتاً طويلاً، وسيكون قاسياً ومدمراً، وسيأتي على مراحل، قد تستغرق سنوات. وستواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها معضلات وتحديات هائلة وجدية، وتبرز في النقاط التالية:
- تراجع الثقة بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة من قبل أصدقائها، لا سيما الدول الخليجية، والتي على الأرجح لن تتورط في أي حرب تخوضها أميركا.
- وجود لاعبين غير دوليين على الساحة، يتمتَّعون بقدرات عسكرية منتشرة في عدة بلدان، لديهم ما يكفي من السلاح النوعي والكمي، والذي يشكّل تهديداً جدياً لإسرائيل وللقواعد الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
- الوقت القليل المتبقي من إدارة بايدن، والذي على الأرجح لن يكفي لتنفيذ ما هو مطلوب، في حدثٍ مثل هذا النوع، مع الإشارة هنا إلى تراجع شعبيته، وإمكانية تغيير كافة الخطط والقرارات عند قدوم إدارة جديدة.
ينتظر الجميع ما سيحدث في الأسابيع القادمة، عواصف كبيرة قادمة تلوح غيومها في الأفق، فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بعملية “طوفان الأقصى” والقضاء على حماس، إنَّها مرحلة صعبة لا أحد يعرف كيف ستنتهي، ولكن على الأرجح، ستحدد مصير المنطقة ولوقتٍ طويل، فهل تنجح الديبلوماسية وتنقذ المنطقة، أم أنها دخلت في طور التأجيل لما بعد العاصفة؟