العميد م. ناجي ملاعب
يشكل الذكاء الاصطناعي تحولات كبرى في مسيرة الإنسانية ويعزز تطبيق تكنولوجيا متطورة تتفهم حاجات البشر، ويفوق تأثيره ما أحدثه اكتشاف واستخدام الطاقة الكهربائية، موضوع أثاره بيتر ديمانديز مؤسس ورئيس مجلس الإدارة التنفيذي لمؤسسة “إكس برايز” خلال جلسة حوارية صباحية ضمن القمة العالمية للحكومات، التي عقدت فعالياتها في دبي عام 2019.
ومن حيث أن التعليم في الماضي كان المجال الوحيد الذي يمكّن الإنسان من تحديد توجهاته، يبدو أن المستقبل يحمل تحدياً أكبر، بسبب دخول التكنولوجيا في جميع مناحي الحياة. وما ينتظر مجالات الرعاية الصحية والعمل والتعليم من تتقدم هائل باستخدام التكنولوجيا، بحيث سيستخدم الأشخاص جهازاً ذكياً واحداً يساعده على إتمام كل هذه المهام، من دون أن يتحرك من مكانه.
وأشار ديمانديز إلى أن العدد الكبير من الأقمار الاصطناعية، والطائرات من دون طيّار، والأجهزة التي يستخدمها الأشخاص تجعل من حياتنا مراقبة بشكل متكامل وتولد بيانات ضخمة عن حياتنا وعن سلوكياتنا، في إجابة عن معنى الإنسانية بعد تدخل الذكاء الاصطناعي في كل المجالات. فالحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي قادوا إلى تقنيات وخدمات مستحدثة ومبتكرة مثل تقنية التعرف على الوجه، ومساعد “غوغل”، وغيرها حيث أصبحوا يتفهمون حاجاتنا وأفكارنا وسلوكياتنا.
الحرب التكنولوجية ومستقبل الزعامة الجيوسياسية
من الناحية الجيوسياسية، يعيش العالم اليوم “حربًا باردة تكنولوجية” بين الدول الكبرى، ومجالها السيطرة على العالم “رقميًّا”، حيث تحاول القوى الدولية استخدام قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي من أجل الحصول على مكاسب على حساب باقي الدول بشكل رئيسي في الأبعاد الثلاثة للقوة: الاقتصادية، والعسكرية، والمعلوماتية. وقد أصبحت القدرة على اختراع واستخدام تكنولوجيا الجيل الخامس هي مصدر القوة للوحدات الدولية، ومحور المنافسة القادمة بين القوى الدولية. لذا بدأت القوى الكبرى سباقًا من أجل الحصول على زعامة جيواستراتيجية وجيوسياسية وجيواقتصادية بهدف تحقيق الريادة والإمساك بزمام قدرات الذكاء الاصطناعي، التي تُعد مؤشرًا لحاضر ومستقبل الزعامة الدولية. ومن ثم سوف ينعكس هذا السباق على طبيعة النظام العالمي.
وتورد د. سماء سليمان الخبيرة في العلاقات الدولية بعض الأرقام العالمية في هذا التنافس، فتقول: “لا يقتصر الاهتمام العالمي بالذكاء الاصطناعي على الولايات المتحدة فقط، لكنه يشمل عددًا كبيرًا من الفاعلين الدوليين. على سبيل المثال، خصصت روسيا ميزانية قدرها 12.5 مليار يورو لأبحاث الذكاء الاصطناعي، في حين اختارت الصين الحفاظ على استثمار عام قوي، يقدر بحوالي 7 مليارات دولار سنويًّا، في إطار خطة عمل وطنية طموحة لخلق صناعة يبلغ حجمها 150 مليار دولار بحلول عام 2030. وقد أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” عن استثمار مليار و500 مليون يورو في مجال الذكاء الاصطناعي حتى عام 2020، مع تعميق العلاقة بين الذكاء الاصطناعي ونمو الاقتصاد الفرنسي. وفي أبريل/نيسان 2018، أكدت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” اتجاه ألمانيا إلى دخول المنافسة العالمية في الذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء إطار لصناديق الاستثمار الأجنبية بقيادة أمازون Amazon، وهو رابع أكبر مركز أبحاث ذي صلة بالذكاء الاصطناعي في العالم، ومقره برلين. وأخيرًا وليس آخرًا، تعمل إسبانيا منذ عام 2017 على صياغة كتاب أبيض حول مجال الذكاء الاصطناعي”.
ملامح الحرب الباردة في مجال الذكاء الاصطناعي
تُعتبر الولايات المتحدة والصين حاليًّا هما القوتين الرئيسيتين في مجال البحث والتطوير فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، على الرغم من أن سلطات الثانية (الصين) أكثر وعيًا من الأولى (الولايات المتحدة) وفقًا لوسائل إعلام مثل صحيفة “نيويورك تايمز”. وقد ركزت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة على وجود وإنشاء واحدة من أكبر القوى الأكاديمية في الذكاء الاصطناعي، وهو تطور يسيطر على معظمه القطاع الخاص، تتبعه استثمارات عسكرية أو أجهزة استخباراتية، مثل وكالة “نشاط مشروعات الأبحاث المتقدمة للمخابرات” The Intelligence Advanced Research Projects Activity (IARPA)، و”وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة” The Defense Advanced Research Projects Agency (DARPA).
في تحقيق مشترك للباحثين محمود جوادي وميشال أوندركوت في مجالات حوكمة الذكاء الاصطناعي بجامعة إيراسموس روتردام قد نستخلص مسار الحوكمة في المجالات العسكرية، يقول الباحثان: “نواجه حاليًا غياب أطر الحوكمة المعترف بها عالميًا للإشراف على دورة الحياة الشاملة للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك تطويره ونشره واستخدامه. ومن المثير للاهتمام أنه في عام 2023، ظهرت مبادرتان إلى الوجود في وقت واحد. انعقدت القمة الأولى حول الذكاء الاصطناعي المسؤول في المجال العسكري (REAIM) في شباط/ فبراير 2023، واستضافتها هولندا، واجتذبت 2000 مشارك. وفي نهايته، أيدت 57 دولة إعلانه النهائي، “الدعوة إلى العمل”. في اليوم الأخير من القمة، كشفت الولايات المتحدة، ربما فاجأت منظمي القمة، عن “الإعلان السياسي بشأن الاستخدام العسكري المسؤول للذكاء الاصطناعي والحكم الذاتي”؛ وهو مبادرتها الرائدة من أجل ” بناء إجماع دولي حول السلوك المسؤول وتوجيه الدول في تطوير ونشر واستخدام الذكاء الاصطناعي العسكري. ووجه هذا الإعلان دعوة للدول على مستوى العالم للمشاركة. اعتبارًا من كانون الثاني/ يناير 2024، انضمت 51 دولة إلى هذه المبادرة، بما في ذلك جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي”.
يعجز كل من REAIM والإعلان السياسي عن طموحهما وقدرتهما على وضع قواعد عالمية للذكاء الاصطناعي العسكري. إنهم يهدفون في المقام الأول إلى تعزيز بناء التحالفات بناءً على رؤية مشتركة للذكاء الاصطناعي العسكري. ويكمن تميزها في تحديد تركيبة الائتلاف والرؤية المحددة التي تقوم عليها.
ويخلص الباحثان الى انه: “يبدو أن الولايات المتحدة تعمل على صياغة الإعلان السياسي بشكل استراتيجي كوسيلة لمعالجة المخاوف والتهديدات (المتصورة) من الصين، منافسها القريب. ويتلخص الهدف المعلن للإعلان السياسي في “التعريف بمزيد من التفصيل كيف يبدو سلوك الدولة غير المسؤول في تطوير واستخدام هذه التكنولوجيا”. وفي هذا السياق، نؤكد أن REAIM ولجنتها العالمية المقبلة المعنية بالذكاء الاصطناعي – حيث يعمل مركز لاهاي للدراسات الاستراتيجية (HCSS) كأمانة عامة – مهيأتان بشكل أفضل لرسم مسار حوكمة الذكاء الاصطناعي العسكري العالمي.
حوكمة الذكاء الاصطناعي العسكري العالمي
على النقيض مما سبق، يمثل REAIM مجموعة مختلفة من القيم. والفرق الأكثر أهمية هو شموليتها وإشراك أصحاب المصلحة المتعددين. استقطبت القمة الأولى مشاركين من مائة دولة، بما في ذلك ثمانين ممثلاً حكومياً، إلى جانب مندوبين من مؤسسات المعرفة ومراكز الفكر والصناعة ومنظمات المجتمع المدني. تضمنت القمة أربع جلسات رفيعة المستوى، وما يقرب من خمسة وثلاثين جلسة فرعية، وعشرين عرضًا توضيحيًا للذكاء الاصطناعي، ومنتدى أكاديمي، ومراكز ابتكار، ومركزًا للطلاب.
ومن المقرر عقد القمة الثانية لـ REAIM في كوريا الجنوبية في سبتمبر 2024، مع توقعات بأن يتم إنشاء اللجنة العالمية للذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف قبل انعقاد القمة. وتهدف اللجنة إلى “رفع الوعي الشامل، وتوضيح تعريف الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، وتحديد كيفية تطوير هذه التكنولوجيا وتصنيعها ونشرها بشكل مسؤول”.
وفي اليوم الأخير من القمة، تلقت دعوة العمل التي أطلقتها REAIM تأييدًا من 57 دولة مشاركة، بما في ذلك الصين وجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باستثناء النمسا وأيرلندا. على عكس الإعلان السياسي، فإن التأييد لـ REAIM ليس مستمرًا. ومع ذلك، فإن النسخة الثانية من القمة، إلى جانب اللجنة المقبلة، قد تفتح الباب أمام المزيد من الدعم والتأييد من أصحاب المصلحة من الدول وغير الدول.
يدعو الإعلان النهائي لـ REAIM إلى تسعة إجراءات محددة. ويدور الأساس لهذه الإجراءات حول الحوار غير المسيس بين أصحاب المصلحة المتعددين من أجل بناء المعرفة وتبادل أفضل الممارسات لتطوير ونشر واستخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري. تعطي هذه الإجراءات أدوارًا بارزة للأوساط الأكاديمية ومعاهد المعرفة ومراكز الفكر والمجتمعات المدنية والقطاعات الخاصة والصناعات للمساهمة في إنشاء “إطار معياري للذكاء الاصطناعي العسكري” يتماشى مع الإعلان السياسي؛ ومع ذلك، فإن اعتمادها الوحيد على الدول والتركيز الشامل على المنافسات الصينية الأمريكية هو ما يميزها.
يتجنب REAIM النهج من أعلى إلى أسفل. وتطمح إلى أن تكون منتدى ديمقراطيًا لجمع الأفكار وتسهيل الحوار بين مختلف أصحاب المصلحة الحكوميين وغير الحكوميين. يشير هذا النهج، إلى جانب مجموعة واسعة من المشاركين، إلى أن REAIM يعتزم التركيز على الحوار الفني بدلاً من التورط في خطابات مسيسة حول الذكاء الاصطناعي العسكري في سياق المنافسات الجيوسياسية. لا يخلو الأمر من عيوبه. وأعربت بعض الدول، مثل إيران، عن استيائها من استبعادها من القمة الأولى. إن اللجنة المقبلة والقمة التي ستعقد في كوريا الجنوبية تشكلان الفرصة لمعالجة مثل هذه الانتقادات.
وبما أن مسار تطوير الذكاء الاصطناعي يتطلب وجود دول إلى جانب رواد الأعمال من القطاع الخاص، والتقنيين، والمفكرين، والشركات، فإن الحاجة إلى منتدى شامل متعدد أصحاب المصلحة وديمقراطي وغير مسيّس ولامركزي تصبح حتمية لأي اتفاقية محتملة ملزمة قانونًا في المستقبل. تتطلب حوكمة الذكاء الاصطناعي العسكري العالمي تحالفًا واسع النطاق قائمًا على رؤية توافقية. لقد اتخذت REAIM الخطوة الحاسمة الأولى نحو تحقيق هذا الهدف.
رسم مسار لحوكمة الذكاء الاصطناعي العسكري العالمي
ومن أجل الحفاظ على الزخم الحالي الذي يحفزه REAIM، فمن الضروري أن يشارك الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بنشاط وتخصيص الموارد لضمان نجاحه. وقد لا يوصف بأنه مفرط في الطموح لأنه يركز على تطوير المعرفة وفهم الذكاء الاصطناعي العسكري، وفقًا لبيان الاتحاد الأوروبي في مؤتمر نزع السلاح لعام 2023. ومع ذلك، فهو بمثابة شرط مسبق حاسم لأية جهود، بما في ذلك الإعلان السياسي.
إن المشهد المتطور لحوكمة الذكاء الاصطناعي العسكري العالمي موسع ومعقد، خاصة عند النظر إليه في سياق المنافسات الاستراتيجية. إن إنشاء إطار قوي لحوكمة الذكاء الاصطناعي العسكري هو مسؤولية يجب أن تقع ضمن اختصاص الأمم المتحدة، المشهورة بشرعيتها كمنتدى عالمي حقيقي يعتمد على القانون الدولي. وإلى أن تتولى الأمم المتحدة دورًا مركزيًا في هذا الصدد، يصبح التصدي للتحديات المرتبطة بتنظيم الذكاء الاصطناعي العسكري أكثر قابلية للتحقيق من خلال التوافق مع المبادئ الديمقراطية وغير المسيسة واللامركزية التي أوضحتها REAIM.
في الخلاصة، واستنادًا إلى المؤشرات والتحولات السابقة المهمة، لا سيما بعد التحوّل الكبير باتجاه الاعتماد على قدرات الذكاء الاصطناعي في الحروب المستقبلية، يمكن القول إن الحرب الباردة القادمة، لن تكون بين دولتين فقط كما كان الحال سابقًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لكنها ستتسم بدرجة أكبر من التعقيد، من خلال وجود أكثر من مستوى لهذه الحرب؛ حيث ستكون هناك حرب باردة تكنولوجيًّا بين الصين والولايات المتحدة، وأخرى بين روسيا والولايات المتحدة، وبين الصين وروسيا في وقت لاحق، وبين روسيا والاتحاد الأوروبي، وبين الصين والاتحاد الأوروبي، وذلك حسب تطور العلاقات بين هذه القوى.
ومن ثم، نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تراهن فقط على الذكاء الاصطناعي لمساعدتها في جمع المعلومات، والإلمام بكل المستجدات الدولية المتسارعة؛ لكنها ترى في هذه الآلية الجديدة والمبتكرة في الاستخدامات العسكرية والأمنية للذكاء الاصطناعي، درعًا منيعًا يحافظ على موقعها الريادي العالمي من خلال الاستعانة بها في شؤونها السياسية والعسكرية وحروبها الافتراضية، أمام اتجاه منافسيها من القوى الكبرى إلى اتخاذ نفس الخطوات، وهو ما سيزيد من وتيرة المنافسة الدولية، وسيشعل وتيرة الصراع بسبب البحث عن تفوق واضح في هذا المجال، فهل تنجح الجهود الأممية في وضع معايير قوننة هذا التقدم الهائل لتدارك أخطاره في الاستخدامات العسكرية .