استراتيجية الردع بالانتقام.. تفاصيل صدامات إسرائيل وإيران وآثارها الإقليمية

العقيد الركن م. ظافر مراد

تطور الصراع في منطقة الشرق الأوسط بعد أن مر بفترة مراوحة نسبية، وكانت عملية طوفان الأقصى هي التي أطلقت شرارة هذا التطور الدراماتيكي، والذي أفضى إلى إصابة الجيش الإسرائيلي بهزيمة معنوية أيقظت في داخله الوحشية بأبشع صورها، فاستهدف المدنيين في بيئة حماس الشعبية متجاوزا القانون الدولي الإنساني والأعراف والقواعد المطبقة في الحروب، إلى أن وصل الوضع إلى ما هو عليه، وهنا تجدر الإشارة إلى جملة من الوقائع التي انبثقت عن مجريات الأحداث وتفاصيلها المرعبة، وأولها أن أي عملية عسكرية تهدد وجود الدولة الإسرائيلية أو تمس بأمنها، هي حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية ومع حلفائها الإستراتيجيين، وثانيها أن حقيقة العالم ومؤسساته الدولية هي فعلياً كما نراها الآن في موقفها من الحرب على غزة، وليس كما نقرأ ونسمع عنها في الكتب والمنابر الشرعية الدولية.

إرتفعت حدة وطبيعة المواجهات بين إيران وإسرائيل، وبذلت الولايات المتحدة الأميركية جهوداً حثيثة لإبقاء المواجهة في إطارها المحدود والمتفق عليه ضمنياً، باعتبار أن الحرب الشاملة غير واردة ومرفوضة كلياً من جميع الأطراف، ولكن ما حدث هو أن الجيش الإسرائيلي أراد إعادة الإعتبار لنفسه ورفع معنويات ضباطه وجنوده، مستفيداً من الوجود الأميركي والغربي الكبير في المنطقة، والداعم له في كل المواجهات التي يخوضها وعلى كل الجبهات المحتملة، لذلك قام بتوجيه ضربة إلى قنصلية إيران في دمشق، والتي نتج عنها مقتل ضباط إيرانيين رفيعي المستوى، تعتبرهم إسرائيل مشاركين في التخطيط لهجوم 7 ايلول، فقامت إيران بالرد على الأراضي الإسرائيلي بهجوم كثيف وغير مسبوق بالمسيرات والصواريخ ، وهذا الهجوم وإن لم يتسبب بخسائر فعلية، إلا أنه وجَّه رسالة مفادها، أن عشرات أضعاف هذا النموذج من الهجمات، كان ممكن أن يتم وليس فقط من الأراضي الإيرانية، بل من محيط إسرائيل القريب في لبنان وسوريا، حيث يمكن إغراق الأراضي الإسرائيلية بمئات المقذوفات والصورايخ والطائرات الإنتحارية، ويصبح عندها من المستحيل خلال الوقت القصير والكثافة الهائلة أن ينجح الدفاع الجوي في صد هذه الهجمات، ولو شاركت بعملية الصد الولايات المتحدة وكل حلفائها في المنطقة، وإذا كانت كلفة الدفاع ضد الهجوم الإيراني النموذج والمحدود قد بلغت مليار دولار وفقاً لتصريحات مسؤولين غربيين، فإن هجوم جدي مفاجيء ومتعدد الجبهات وبكثافة عالية، من شأنه أن يكبد إسرائيل وحلفائها عشرات مليارات الدولارات، وسيتسبب بأضرار مادية ومعنوية قد لا يمكن إصلاحها خلال زمن قريب، ولكن هل هذا ما تريده إيران وهل تستطيع تحمل نتائج هكذا هجمات؟ بالتأكيد لا، لأن ذلك سينتج عنه حرباً شاملة تقودها الولايات المتحدة مع حلفائها ضد إيران، في ظروف دعم غربي غير مسبوق لإسرائيل.  

تدرك إيران أن الولايات المتحدة أصبحت تلعب في الوقت الضائع من عهد بايدن الذي بقي منه بضعة شهور، حيث لا يمكن لإدارة بايدن إتخاذ قرارات حاسمة فيها، ولا يمكن تحميل الخزانة الأميركية أعباء حربٍ كبيرة، إضافة إلى أن هذه الإدارة مشغولة بكيفية إدارة ملفات عديدة مثل الحرب الروسية-الأوكرانية والتوتر في بحر الصين الجنوبي، وعلى الرغم من ذلك، فهي لا تريد المخاطرة بحربٍ شاملة، فالحرب الشاملة لا تدخل في إستراتيجيتها في إدارة الصراع ومقاربة أهدافها البعيدة في المنطقة، أما الولايات المتحدة، فهي تريد المحافظة على الحد الأدنى من إنضباط اللاعبين الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط، وقد نجحت بذلك فعلياً، فإيران وإن تجاوزت الخطوط الحمر في استهدافها غير المسبوق للأراضي الإسرائيلية، إلا أنَّها سمحت أن تكون الضربة محدودة ومعروفة من حيث الحجم والمكان والزمان. مقابل ذلك أرادت إسرائيل أن تكون هي من يختتم هذا الفصل من المواجهة ومن يقول الكلمة الأخيرة فيه، فقامت بضرب قاعدة عسكرية قرب أصفهان، مستخدمة صواريخ لم يتم تحديد نوعها ومصدرها، وعلى الرغم من عدم تعليق إسرائيل على الضربة، إلا أنها إختارت منطقة أصفهان لتوجِّه رسالة متعددة المضامين، ولتؤكد قدراتها على أستهداف العمق الإيراني، وعلى ضرب المصانع والقواعد العسكرية هناك، وأيضاً تهديد المنشآت النووية الهامة في تلك المنطقة.

إنتهت هذه الحلقة من الكباش الإسرائيلي-الإيراني بما يرضي جميع الأطراف بمن فيهم الولايات المتحدة، وطبَّقت كل من إسرائيل وإيران استراتيجية “الردع بالإنتقام”، حيث أظهرا أنهما يمتلكان الإمكانات والقدرات على الإنتقام، ولديهما الجرأة والنية لتنفيذ الإنتقام عند الحاجة، وأخيراً عبَّرا عن عدم خشيتهما الدخول في حربٍ شاملة بنتيجة ردود أفعالهم الإنتقامية، وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ إسرائيل لا تستطيع الدخول بحربٍ شاملة دون موافقة وتدَخُّل الولايات المتحدة المباشر، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران، فهي لا تستطيع الدخول في حربٍ شاملة كونها لا تمتلك حليفاً كالولايات المتحدة الأميركية.

في ختام هذه الحلقة من المواجهة والتي هي في الأساس مرتبطة بشكلٍ مباشر بعملية طوفان الأقصى والحرب على غزة، يبدو أن النتائج لم تقدم ولم تؤخر بالنسبة للفلسطينيين بعكس ما كان متوقعاً، وفي العودة إلى نقطة الصفر، يستعد الجيش الإسرائيلي للدخول إلى رفح بالتزامن مع فشل المفاوضات التي تستخدمها إسرائيل لإلهاء البعض ولتضييع الوقت، وفي مقاربة للوضع الحالي وموقف الطرفين، يجب الإقرار بحقيقة  أن إسرائيل كسبت دعم دولي الغربي على مستوى الحكومات، بينما على مستوى الشعوب، نال الشعب الفلسطيني تأييداً وعطفاً منقطعي النظير، بسبب الممارسات الإسرائيلية الهمجية عليه، والتي ترقى إلى جرائم حرب وإبادة جماعية.

يستحق الشعب الفلسطيني وتستحق معاناته أن يتم وضع النقاط على الحروف، وهنا يجب الإقرار بالفشل في إدارة الصراع والمواجهة بين حماس وإسرائيل، ومن المهم أن لا نغرق بالمستوى التكتي ويغيب عنا المستويين الإستراتيجي العسكري والسياسي، وفي مقارنة بين أهداف إسرائيل وأهداف حماس من الحرب، وما تحقق على الأرض، نجد أن هناك فارقاً شاسعاً، دون الحاجة لذكر التفاصيل والخوض في نقاشات عقيمة.

ستكون المرحلة المقبلة في غزة عبارة عن جهود دولية لإدارة عملية إنسانية بهدف إنقاذ شعب غزة من الكارثة التي حلَّت به، فإسرائيل قد قتلت أكثر من 30 الف مدني فلسطيني لغاية الآن معظمهم من الأطفال والنساء، ودمرت البنى التحتية في كامل غزة وأصابت حوالي 90% من منازل غزة بالدمار الكامل أو الجزئي، متسببة بخسائر تقدَّر بحوالي 90 مليار دولار، بهدف أن تجعل غزة منطقة غير صالحة للعيش، وهي قد أعلنت أفكارها في شأن العملية السياسية ورؤيتها في كيفية إنهاء الحرب. أما في شأن العملية السياسية، لا يبدو أن حماس سيكون لها دور في المفاوضات وعملية إنهاء الصراع ولو في الحد الأدنى، وهذا لا يظهر فقط من خلال مواقف أعداء ومعارضي حماس، بل يتأكد أيضاً من سكوت وتجاهل من يُفترض أن يكونوا حلفاء لها.

ستكون الحرب على غزة سابقة وحدثاً تاريخياً ومفصلياَ في مسار الصراع في المنطقة، حيث يجب أن تمثِّل درساً وعبرة لا يمكن من بعدها أن تُقبل أي أعذار في القرارات المصيرية التي يتخذها القادة والمسؤولون، والتي ينتج عنها تغييرات هائلة في مصير الأمم والشعوب، ولا يمكن من بعدها تجاهل الأخطاء في إدارة الصراعات وسوء التقديرات والحسابات الخاطئة.