
يكاد العالم بأجمعه يدور بأحداثه حول محور واحد وأساسي، وهو “المصالح الأميركية”، فكل حدث عالمي أو حتى إقليمي يؤثر أو يتأثر بطريقة ما باعتبارات “المصالح الأميركية”، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فالولايات المتحدة من خلال ضخامة انتشارها العسكري حول العالم (أكثر من 750 قاعدة عسكرية خارج البلاد)، تعتبر نفسها معنية إلى حدٍ كبير بكل ما يجري على المسرح الدولي، وهي تتعامل مع الجميع بوصفهم منافسين حقيقيين أو محتملين يؤثرون بطريقة ما على مصالحها الخاصة، والتي لا تعلو عليها أية مصلحة أخرى.

تتم المنافسة على مسرح العلاقات الدولية بين مجموعة كبيرة من اللاعبين، وأولهم في الترتيب الدول والحكومات، ثم اللوبيات السياسية والاقتصادية، والشركات العملاقة عابرة للحدود، والمنظمات غير الحكومية، والمجموعات العسكرية غير الحكومية، وأخيراً الهيئات الدينية المؤثرة في جزء كبير من البشر، وقد أضفت المكون الأخير لأنه عامل هام وخطير ومؤثر جداً في العلاقات الدولية، وقد تم إقصاؤه عن قصد أو غير قصد من بين ما يسمى “عناصر القوة الوطنية” حيث أن الدين يعتبر عامل قوة، جاذب وعابر للحدود، وقد ظهرت قوته في مسرح الشرق الأوسط بشكلٍ واضح، وكان من أبرز فاعليه “إيران” التي استطاعت من خلاله إنشاء قوات عسكرية حليفة وغير حكومية، مكنتها من تثبيت قبضتها على محاور ونقاط إستراتيجية هامة جداً، وأبرزها مضيقي باب المندب وهرمز، وفي هذا الإطار، وبسبب التطور الدراماتيكي في طبيعة الصراع وتحوله في منطقة الشرق الأوسط، يجب أخذ هذا العامل بعين الاعتبار والتعامل معه بجدية بسبب خطورته، وبحذر بسبب كونه سيف ذو حدين، وباحترام بسبب خصوصيته الأيديولوجية التي بنيت عليها قيم وحضارات يجب تقديرها. وبالتالي فإن العامل الديني أو الأيديولوجي يجب أن يدخل في صلب عناصر القوة الوطنية لأي دولة، ويجب أخذه بعين الاعتبار في الوضعيات الجيوبوليتيكية في أي منطقة في العالم.

تواجه الولايات المتحدة الأميركية معضلة استخدام القوة العسكرية في سياستها الخارجية، وأصبحت الإدارات المتعاقبة تدرك إن استخدام القوة الصلبة لم يعد مضموناً بما يكفي كما كان قبل عقود، بل إن ذلك قد يُعطي مفعولاً معاكساً يزيد من عنف وصلابة الخصوم، لا سيما إذا كانوا ذوي خلفيات دينية، حيث أن اعتبارات النصر والهزيمة لديهم مختلفة تماماً عن الاعتبارات التقليدية، وحيث لا حدود لمستويات التضحية والعنف والإبداع في أساليب المواجهة. وقد زاد من تراجع تأثير القوة العسكرية التحول الكبير في طبيعة الصراعات ودخول المواجهات مراحل أجيال الحروب الحديثة، حيث وصلنا إلى الحروب الهجينة التي تستخدم فيها كافة القدرات وتستهدف كافة المحاور والمجالات. وفي هذا الواقع، أدرك صنَّاع القرار في الولايات المتحدة أنه من الضروري مراجعة الحسابات جيداً، والعمل على دوزنة وتنسيق عناصر القوة الأميركية، بشقيها الصلب والناعم، أي ما يطلق عليه “القوة الذكية”.

على الرغم من التأقلم الدولي مع التغييرات الطارئة على السياسات الخارجية للولايات المتحدة عند قدوم كل إدارة جديدة، كان لافتاً إسلوب ترامب في عهده الجديد في التعامل مع خصومه وحلفائه، فهو يريد إقصاء عامل القوة العسكرية في إسلوبه الجديد، معتمداً على “وسائل إرغام” مختلفة تماماً عن القوة العسكرية، وهذا لا يعني اعتماده على القوة الناعمة، بل على عناصر أخرى من القوة الأميركية الصلبة، ولكن ليس القوة العسكرية، أي استخدام مصطلح “القدرة على الإرغام” أو كما يصفه البعض بالعمل في المنطقة الرمادية حيث لا حرب ولا سلم، بل ممارسة مجموعة من الضغوطات المتناسقة والمتفاعلة، وتمتلك الولايات المتحدة وفرةً من متطلبات “القدرة على الإرغام” مثل العقوبات الاقتصادية، الإجراءات السياسية العقابية، التضييق على التجارة، حظر التعامل، دعم المعارضة، ويضاف إلى تلك العناصر عمليات سرية استخباراتية وسيبرانية، وكل ذلك بهدف فرض الإرادة على الخصوم وإرغامهم على اعتماد سياسات محددة، كالتفاوض والقبول بشروط السلام المفروضة، أو تعديل الاتفاقيات الدولية الأمنية أو التجارية، أو تغيير السياسات الداخلية والخارجية للدولة المستهدفة تجاه قضايا معينة.

جاءت إدارة ترامب الجديدة ومعها تغيَّرت السياسة الخارجية الأميركية تجاه القضايا الهامة، وبعضها سار بالاتجاه المعاكس تماماً كما يحدث حالياً تجاه الصراع الروسي-الاوكراني، وفي هذا الإطار، تغيَّرت تأثيرات جماعات الضغط في أميركا، وانقلبت الادوار، فبعد أن كانت شركات السلاح الاميركية تؤثر بشكلٍ أساسي في موقف الولايات المتحدة من هذا الصراع، وتدفع بسياساتها الخارجية بإتجاه التصعيد، تراجع تأثيرها في هذه المسألة لتحل محلها وتأخذ دورها شركات الصناعة والتجارة والعقارات والبنى التحتية، لتدفع بالسياسة الخارجية بإتجاهات مختلفة تماماً، لذلك بتنا نسمع عن وقف الحروب وفرض السلام وإعادة الإعمار وتفعيل الإستثمار وبناء الشراكات الإقتصادية وتعزيز التبادل التجاري وإقامة المشاريع العملاقة، والجدير ذكره هنا، أن العوامل الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة، وسلسلة الأحداث الماضية وفوزهم في مجلسي الشيوخ والنواب، ترجِّح بقاء الجمهوريين في سدة الحكم في العهد القادم، ما يعطي ترامب إمتداداً زمنياً ومساحة أكبر لتحقيق أهدافه.
لم تلغ سياسة ترامب الخارجية المعتمدة على مبدأ الإرغام من دور القوة العسكرية، ولكن هذا النوع الجديد من السياسة يتم ممارسته قبل إعتماد أي حل عسكري، ويعود السبب في ذلك كون “القدرة على الإرغام” تأتي في إطار شبيه بالتفاوض وممارسة الضغوط الإقتصادية والسياسية، ولكن بشكلٍ أكثر وضوحاً، وبوتيرة أكثر صرامة وأشد حدة، وبالتالي فهي لا تتسبب بخسارات مادية ولا تفرض تقديم تضحيات ولا دماراً ولا مخاطرة بحياة الجنود الاميركيين، بل جل ما يمكن حدوثه بعض الأزمات الديبلوماسية العابرة وممارسة المعاملة بالمثل، والتي عادة تكون بلا جدوى أو ضئيلة التأثير، بحيث تأتي النتائج النهائية في معظم الأحيان لصالح الولايات المتحدة الاميركية. وكلنا يذكر كيف فرض ترامب على الصينيين خلال الحرب التجارية في عهده السابق ان يتم تعديل الميزان التجاري بين البلدين، ورضخت الصين في النهاية لشروطه، وهذا ما سيحدث مع الاوروبيين ومع كندا والمكسيك وبناما وغيرها من الدول المستهدفة في سياسة الإرغام.
تتعامل إدارة ترامب مع القضايا والأحداث بمبدأ “لكل حادث حديث” ويبدو أن العدة العسكرية جاهزة للتعامل مع أحداث منطقة الشرق الأوسط، حيث تم التصريح مراراً وتكراراً على لسان المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين، أن هناك تغييراً جذرياً سيحدث في منطقة الشرق الاوسط، وأن هناك إعادة تشكيل للأوضاع السياسية والأمنية والإقتصادية، والملاحظ في هذه المنطقة أنه يتم تفكيك العقد وفصل المسارات مرحلةً بمرحلة، فبعد توقيع إتفاقات الهدنة في غزة ولبنان، وبعد التحول الدراماتيكي في الوضع السوري الداخلي، تبقى هناك معضلتان قبل الوصول للهدف النهائي “إيران”، حيث أن إدارة ترامب ستعتمد إستراتيجية “الإقتراب غير المباشر” التي تحدث عنها الإستراتيجي البريطاني “ليدل هارت”، وذلك عبر إستهداف وإضعاف ما يحيط بالهدف الرئيسي من مراكز قوة، ثم مهاجمة الهدف من حيث لا يتوقع، والمعضلة الأولى تكمن بالنفوذ الإيراني في العراق حيث يوجود قوى مسلحة غير حكومية موالية لها، ويتم العمل حالياً على ممارسة “القدرة على الإرغام” والضغط على الحكومة العراقية من خلال عدة مواقف ابرزها وقف إستثناء إستيراد النفط والغاز الإيراني من العراق، ما يدفع إلى إستبداله بالغاز الخليجي، أما المعضلة الثانية فتكمن بوجود الحوثيين في اليمن وسيطرتهم على مدخل البحر الأحمر وبالتحديد على مضيق باب المندب، وجاء الرد على ممارساتهم من قبل إدارة ترامب بتصنيف جماعة الحوثي، المعروفة بـ”أنصار الله”، منظمة إرهابية أجنبية، وذلك وفقًا للأمر التنفيذي 14175 الصادر عن الرئيس ترامب شخصياً، وربما سيتبع ذلك لاحقاً ضربات مكثفة تستهدف مراكز الثقل الحوثي على أراضي اليمن. أما الهدف النهائي “إيران”، فهناك خياران لا ثالث لهما، إما الرضوخ لشروط الإدارة الأميركية بما يتناسب مع رؤية ترامب لمستقبل المنطقة، أي إيران خالية من السلاح النووي ودولة غير قادرة على تشكيل أي خطر على جيرانها وابرزهم إسرائيل، أو المواجهة العسكرية الشاملة مترافقة مع مجموعة من الأحداث الخارجية والداخلية والتي ستربك القيادة الإيرانية، وبخلاف ما يعتقد البعض، فإن فرص الحل الديبلوماسي والتوصل لإتفاق مع إيران كبيرة وواعدة.

تقوم إدارة ترامب بإعادة ترتيب لأولويات السياسة الخارجية الأميركية، وذلك عبر تغييرات جذرية بدأنا نسمع بها ونلمس تأثيراتها، فترامب يقفل أبواب ليفتح أبواب أخرى يعتبرها أكثر أهمية من وجهة نظره، أو يرى نفسه لاعباً قوياً من خلالها ويستطيع ممارسة إبداعاته وتنفيذ أفكارة المثيرة للجدل. لا مشكلة عند ترامب في التواصل مع ألد أعدائه، وهو لديه الجرأة ليطرح افكاراً جديدة قد تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، ولكن من وراء هذه الافكار تكمن أهداف مخفية يريد تحقيقها، وبشكلٍ عام يركز ترامب في خصوماته الإقتصادية على الصين، والتي يعتبرها التهديد الإقتصادي الأول في وجه الهيمنة الأميركية على الإقتصاد العالمي، أما في خصوماته الأمنية والعسكرية، فهو يعتبر إيران والمنظمات العسكرية غير الحكومية المولية لها، الخطر الأساسي على أمن ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم. وفي اقل من ثلاثة شهور من عهد ترامب، نشاهد تغيُّرات هائلة في السياسات الخارجية للدول، لا سيما الدول الكبرى المعنية بالأحداث الهامة، ويبقى أخيراً إنتظار النتائج النهائية لسياسة ترامب الخارجية وقراراته المثيرة للجدل، وهذا يتطلب بعض الوقت، فالفارق بين القرارات الشجاعة والقرارات المتهورة، ليس كما يعتقد البعض بقياس نسبة المخاطرة التي تم القبول بها، بل في النتائج النهائية لهذه القرارات، فربما لاحقا سيصفق لها من كان أكثر رفضاً وإنتقاداً لسياسة ترامب، وربما العكس.