داليا زيادة
بين الولايات المتحدة وتركيا تاريخ طويل من التعاون العسكري الفعال الذي يمتد إلى سبعين عامًا على الأقل، بدأ في عام ١٩٥٢ عندما تم قبول تركيا كحليف في الناتو، وتوطد على مدى عقدين من الحرب الأهلية بين الولايات المتحدة وروسيا في السبعينيات والثمانينيات. ومع ذلك، فإن هذا التعاون الاستراتيجي الطويل لم ينجح في إحباط، أو على الأقل تخفيف، التوترات المتكررة بين الشريكين الأقوياء حول السياسات الدفاعية المتناقضة التي يتبناها كل منهما، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط المعقدة جغرافياً وسياسياً. إن الجدل الحالي حول رفض الإدارة الأمريكية بيع مقاتلات F-16 لتركيا هو أحدث عقدة في علاقة شد الحبل هذه بين واشنطن وأنقرة.
تطمح تركيا بشدة إلى ترقية سلاح الطيران العسكري لديها لمواكبة سباق التسلح المتجدد في محيطها الجغرافي. حتى هذه اللحظة، تمتلك تركيا أقوى وأكبر قوة جوية في منطقتي الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. وفقًا لمؤشر جلوبال فايرباور للقوة العسكرية لعام ٢٠٢١، تحتل تركيا المرتبة التاسعة من حيث القوة الجوية على مستوى العالم. هذا موقف متقدم إذا ما قورن بمعظم دول الشرق الأوسط أو أوروبا. لكنه يضع تركيا على مسافة بعيدة من القوى العظمى الثلاث – الولايات المتحدة وروسيا والصين – التي عادةً ما تتحداها تركيا عسكرياً في مناطق نفوذها في أوراسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. إلى جانب ذلك، فإن باكستان، أفضل صديق لتركيا، وفرنسا، أسوأ منافس لتركيا، يحتلان مركزين أفضل منها على نفس المؤشر، في الترتيب السابع والثامن على التوالي.
إلا أن القوات الجوية التركية باتت مهددة بفقدان المكانة المميزة التي تحظى بها، منذ عقود، بين الدول الأخرى الموجودة في محيطها. يتكون الأسطول الجوي التركي الضخم من ١٠٥٦ طائرة، غالبيتها (أكثر من ٤٠٪) عبارة عن مروحيات نقل وطائرات هليكوبتر هجومية محلية الصنع، مثل مروحيات T-129 ATAK الشهيرة، والتي صدرتها تركيا إلى العديد من البلدان في أوروبا وأفريقيا. أما عدد الطائرات الحربية المتقدمة فلا يتجاوز ٢٠٦ مقاتلة، معظمها مقاتلات F-16 من طراز بلوك ٣٠ وبلوك ٥٠ القديمة نسبياً، بالإضافة إلى عدد محدود من مقاتلات F-20 المستعملة.
يضع هذا تركيا في وضع أقل تميزاً مقارنة بجيرانها من حيث قدرات قواتها الجوية. لننظر، على سبيل المثال، إلى الأسطول الجوي المصري المكون من ١٠٥٣ طائرة، من بينها مقاتلات F-16 طراز بلوك ٧٠، تصطف جنبًا إلى جنب مع مقاتلات Su-35 روسية الصنع، وطائرات رافال وميراج الفرنسية الصنع. من المفارقة هنا، أن تركيا كانت هي من يقوم بتصنيع مقاتلات F-16 التي وردتها الولايات المتحدة إلى مصر في التسعينيات. وفقًا للمعلومات الرسمية الصادرة عن شركة الصناعات الجوية التركية TUSAS، قامت تركيا أيضًا في الماضي بتصنيع وتجديد مقاتلات F-16 إلى كل من الأردن وباكستان، بينما الآن لم يعد بمقدورها حتى شراءها من أمريكا.
حتى اليونان، العدو التاريخي لتركيا في شرق البحر المتوسط، تعمل بلا هوادة على تعظيم قدراتها العسكرية، خاصة في مجال الجو، بعد الاحتكاكات الأخيرة بينها وبين تركيا في صيف ٢٠٢٠. في الأشهر القليلة الماضية، نجحت اليونان في شراء مقاتلات F-16 من أمريكا بالإضافة إلى مقاتلات رافال وميراج من فرنسا. بل أكثر من ذلك، في منتصف أكتوبر، جددت الولايات المتحدة اتفاقية التعاون الدفاعي المتبادل مع اليونان. من المتوقع أن تساهم هذه الخطوة في تعزيز القدرات العسكرية لليونان في المستقبل القريب، حيث ذكر بيان وزارة الخارجية الأمريكية حول هذه الموضوع بشكل واضح: “أعربت الحكومتان عن رغبتهما المشتركة في مساعدة بعضهما البعض في الحفاظ على جيوشهما قوية وقادرة وزيادة تحديثها وقابليتها للعمل المشترك”.
وفوق كل ذلك، أصبحت إسرائيل بالفعل أول دولة في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط تمتلك مقاتلات F-35 الأكثر تقدمًا. كما توشك دولة الإمارات على الحصول على مقاتلات F-35 في المستقبل القريب، بعد أن نجحت في التغلب على تردد إدارة بايدن تجاه الإمارات في بداية توليه. في معلومة هامشية، تركيا لديها نزاعات دبلوماسية حادة مع كل من إسرائيل والإمارات، تحديداً بسبب مواقف تركيا تجاه القضية الفلسطينية وتدخلها في الحرب الأهلية في ليبيا. ربما ما يجعل الأمر أكثر إيلامًا بالنسبة لتركيا، هو حقيقة أنه كان من المفترض أن تكون تركيا واحدة من أولى الدول في العالم التي تحصل على طائرات F-35، فقط لو أن العلاقات سارت بشكل جيد مع الولايات المتحدة.
كانت تركيا شريكًا في برنامج F-35، منذ إطلاقه في عام ١٩٩٩، وفي عام ٢٠٠٢، تم اختيار تركيا للمشاركة في عملية تصنيع وإنتاج مقاتلات F-35، نظرًا لخبرتها السابقة في تصنيع مقاتلات F-16. بالإضافة إلى ذلك، دفعت تركيا بالفعل ما مجموعه واحد مليار وأربعمائة مليون دولار كدفعة أولى لشراء مقاتلات F-35 عند إطلاقها. لكن، في عام ٢٠١٩، قررت الولايات المتحدة طرد تركيا من البرنامج، كرد فعل على شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسي الصنع (S-400). بعد ذلك، في ديسمبر ٢٠٢٠، ضاعفت إدارة ترامب الضغط على تركيا من خلال تطبيق قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (المعروف باسم عقوبات CAATSA).
في الواقع، ليست الولايات المتحدة هي الحليف الوحيد في الناتو الذي شعر بالاستياء تجاه إصرار تركيا على شراء منظومة S-400 الروسية. بعد اجتماع وزراء دفاع الناتو، في أكتوبر، كرر الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، التأكيد على قلق حلفاء الناتو بشأن إصرار تركيا على الاحتفاظ بنظام S-400 واستخدامه، حيث قال “إن عمليات التسليح هي قرارات وطنية، ما يهم الناتو هو أن تكون القدرات الجديدة التي يتم اقتناءها متوافقة مع القوات الأخرى في الناتو. كما ذكرت من قبل، فإن نظام S-400 هو نظام روسي، وهو ليس شيئًا يمكننا دمجه في أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي المتكاملة لحلف الناتو، كما أنه غير متوافق مع أنظمة الدفاع التابعة لحلف الناتو”.
على مدى العامين الماضيين، لم تدخر تركيا فرصة لإقناع الولايات المتحدة بتغيير موقفها فيما يتعلق بمقاتلات F-35 بشكل خاص، وقضية العقوبات المفروضة على صناعتها العسكرية بشكل عام. إلا أن كل أي من جهود تركيا لم تأتي بثمارها، لا مع إدارة ترامب السابقة ولا إدارة بايدن الجديدة. لذلك، في الاجتماع بين الرئيسين الأمريكي والتركي في قمة مجموعة العشرين، في نهاية أكتوبر، اقترح الرئيس التركي أردوغان استخدام مبلغ المليار وأربعمائة مليون دولار الذي سبق ودفعته تركيا في صفقة الـ F-35 في شراء مقاتلات F-16 طراز بلوك ٧٠ جديدة وتجديد المقاتلات القديمة الموجودة لديها. وقد تقدمت تركيا بالفعل بخطاب رسمي إلى إدارة بايدن يحمل هذا الطلب، ولكن حتى هذه اللحظة لم يرد بايدن بالقبول أو الرفض، على الرغم من تأكيد أردوغان أن الصفقة تمت بالفعل.
كما صرح وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، للصحفيين الذين اجتمعوا معه عقب لقائه وزير الدفاع الأمريكي في بروكسل أثناء اجتماع وزراء دفاع الناتو، الشهر الماضي، أنه “تم البدء ببعض الأعمال الفنية لاستقبال مقاتلات F-16 طراز بلوك ٧٠، بالإضافة إلى تحديث بعض المقاتلات الموجودة لدينا، من قبل حليفتنا الاستراتيجية وصديقتنا، الولايات المتحدة”.
في أثناء ذلك، أصدر حوالي احدى عشر نائباً أمريكياً خطاباً يحذرون فيه إدارة بايدن من بيع مقاتلات F-16 إلى تركيا؛ بحجة أن نفس الأسباب التي تمنع الولايات المتحدة من بيع مقاتلات F-35 لتركيا هي نفسها الأسباب التي يجب أن تمنع الولايات المتحدة من بيع مقاتلات F-16 إلى تركيا.
إن النزاعات المتنامية بشأن التسليح بين واشنطن وأنقرة لا تضر بتركيا وحدها، ولكنها أيضاً تضر بالمصالح المباشرة للولايات المتحدة وكذلك تضعف من القوة العسكرية الشاملة لحلف الناتو. إن تركيا هي ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو بعد الولايات المتحدة. لطالما كانت تركيا الحليف الأكثر فاعلية بين كل حلفاء الناتو في أكثر مناطق الصراع تعقيدًا. إن الدور المهم الذي لعبته تركيا في الأسبوعين الفوضويين للغاية اللذين أعقبا انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، في أغسطس، هو أقرب مثال يذكرنا بالدور المحوري والمهم لتركيا داخل حلف الناتو. من هذا المنطلق، فإن تطوير القوة العسكرية لتركيا أمر ضروري لتعزيز القوة العسكرية الشاملة لحلف الناتو.
علاوة على ذلك، فإن محاولة الولايات المتحدة السيطرة على القوة العسكرية المتنامية لتركيا، من خلال رفض مقترحات الشراكة الاستراتيجية في مجال التسليح، لن يخدم المصالح الأمريكية على المدى الطويل. في سيناريو مأساوي، قد يرتد الموقف الأمريكي المتعنت تجاه تركيا بنتائج عكسية، إذ سوف يدفع للتعاون العسكري مع ألد خصوم الولايات المتحدة؛ روسيا والصين. هذا ليس مفيدًا للولايات المتحدة في وقت يفقد فيه العالم توازنه حول محور قوة واحد، لصالح روسيا والصين، اللتين تتعاظمان بسرعة كبيرة كمنافسين عسكريين واقتصاديين للولايات المتحدة. في حملة إعلامية حديثة، وعدت الصين أنه بحلول عام ٢٠٣٥، ستتجاوز التكنولوجيا العسكرية الصينية التكنولوجيا الأمريكية. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، بدأ العديد من البلدان من منطقة الشرق الأوسط، حيث تجري غالبية صفقات الأسلحة في العالم، في النظر إلى روسيا والصين كمصادر بديلة للتسليح، عوضاً عن الولايات المتحدة. من المؤكد أن الولايات المتحدة لا تريد أن ترى تركيا، أقوى حليف استراتيجي لها في الشرق الأوسط، تتبع نفس المسار.
في حين أن الولايات المتحدة بحاجة إلى النظر بشكل أكثر رفقاً في مقترحات التسوية التي تعرضها تركيا، فقد حان الوقت أن تبحث تركيا عن حلول مبتكرة تنهي بها أزمة S-400 للأبد. إن تصريحات الرئيس أردوغان النارية حول شراء المزيد من أنظمة S-400 من روسيا خاطئة تمامًا، في مثل هذا السياق والتوقيت. لقد ذكر وزير الدفاع خلوصي أكار، مؤخرًا، أن تركيا لديها قدرات صناعة دفاعية متقدمة مكنت تركيا من تلبية احتياجاتها من التسليح محليًا بنسبة ٨٠ بالمائة. ومن ثم، ماذا لو فكرت تركيا في تفكيك نظام S-400 واستخدام أجزائه في بناء نظام دفاع محلي خاص بها. ستكون هذه عملية مكلفة ومرهقة بالتأكيد، لكنها تستحق العرق والأموال التي ستصرف فيها، لأنها لو تحققت سوف تحل كل مشاكل تركيا مع أمريكا وغيرها من حلفاء الناتو، كما سترفع سمعة تركيا في قطاع الصناعات الدفاعية، فضلاً طبعاً على تعزيز قدرات الردع العسكرية لديها، مقارنةً بكل الدول المحورية في محيطها الإقليمي.
قم بكتابة اول تعليق