العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري
نظراً لإتساع مسرح العمليات خلال أحداث الحرب العالمية الثانية دارت رحى جزء كبير من العمليات العسكرية على جزء من التراب الليبي ومع إنحسار العمليات العسكرية الدائرة بين قوات المحور والحلفاء في الشمال بعمق لا يتجاوز مائة كيلو متر في الصحراء برزت حاجة القوات البريطانية لتكوين وحدات خفيفة سريعة الحركة قادرة على التنقل بحرية عبر عمق الصحراء لنقل عملياتها العسكرية وتنفيذ عمليات الإغارة خلف دفاعات القوات الإيطالية والقيام أيضاً بدوريات استطلاعية وجمع معلومات إستخباراتية سرية وراء خطوط القوات الإيطالية إلى جانب المشاركة في العمليات القتالية وبذلك تكونت الوحدة LRDG وهي إختصار لإسم مجموعة الصحراء بعيدة المدى LONG RANGE DESERT GROUP وتتيع قيادتها القوات البريطانية المتمركزة آنذاك بمصر .
تشكلت القوة سنة 1940م وكانت قوة ناجحة وفاعلة وكان مفتاح النجاح لعمليات الوحدة سرعة الحركة والقوة والمرونة , كان غالبية منتسبي القوة في بداية تأسيسها من نيوزيلندا، وسرعان ما أنضم إليهم جنود متطوعون من روديسيا وبريطانيا وبلغ عدد أفراد الوحدة أكثر من 350 رجل جميعهم من المتطوعين وتلقى أفراد الوحدة تدريباً متقدماً في حرب الصحراء وحرب العصابات ليتميزوا بعد ذلك بخبرتهم في حرب الصحراء والملاحة الصحراوية كما تلقوا تدريباً متخصصاً في مجال استخدام المركبات وصيانتها وذلك لإصلاح أية أعطال ميكانيكية قد تطرأ على مركباتهم أثناء تأديتهم للعمليات المكلفين بها .
تشكيل وحدات الدورية التابعة لمجموعة LRDG.
يتألف تشكيل وحدات الدورية التابعة للمجموعة من ضابطين وثلاثون رجلاً من مختلف الرتب العسكرية مزودين بعدد من العربات المجهزة من نوع فورد وشيفروليه وكان يصاحب كل دورية من الدوريات ممرض وملاح ، ومشغل جهاز إتصال لاسلكي وميكانيكي سيارات بحيث تكون القوة مستقلة ولها المرونة الكاملة في القرار وليست في حاجة لتوفر الدعم اللوجستي بإستمرار , واختيرت عربات تستخدم الدفع الثنائي من نوع شيفروليه لأنها كانت أخف وزنا وتستخدم وقودا أقل من عربات الدفع الرباعي ومع ذلك زودت بخزانات وقود وتجهيزات إضافية ملائمة لرحلات الصحراء ، أما عن تسليحها فقد كانت عربات الدورية مسلحة برشاشات نوع لويس وقواذف مضادة للدبابات ومدافع رشاشة ثقيلة مركبة على الجزء الخلفي من المركبة وكل مركبة مزودة بدعائم للبنادق ، تكون عادة أثنين أو ثلاثة منهم قيد الاستخدام ، وكان معظم مشغلي أجهزة اللاسلكي من النيوزيلنديين التابعين للفيلق الملكي للإشارة (المخابرة) .
تم تجهيز وتزويد جميع العربات ببوصلات شمسية ومغناطيسية وأجهزة ملاحة فلكية وأجهزة قياس الزوايا وخرائط ، يذكر أنه من بين المشاكل الرئيسية التي واجهتها الوحدة عدم وجود خرائط دقيقة عن ليبيا وكانت عمليات الوحدة الأكثر حيوية هي رصد حركة المرور على الطريق الرئيسي الواصل بين طرابلس و بنغازي وإحالة هذه المعلومات لمقر قيادة الجيش البريطاني بين ديسمبر 1940م وأبريل 1943 م ، ثم بدأت دوريات LRDG بالعمل بصورة مستمرة خلف خطوط قوات المحور .
غارة على مرزق
من أبرز العمليات التي نفذتها مجموعة LRDG عملية الإغارة على مدينة مرزق الليبية (جنوب غرب) مرزق تلك الواحة الآمنة الواقعة وسط الصحراء الليبية والمحاطة بالكثبان الرملية التي شكلت دفاعات وتحصينات آمنة لها بحسب طبيعة الأرض ، تبعد في موقعها عن جبهة القتال ومسرح العمليات مئات الأميال وهذا يجعلها بعيدة عن الغارات الجوية البريطانية ونتيجة لذلك اعتبرت مرزق ملاذاً آمناً ومحمية طبيعياً وبعيدة عن ليتم اتخاذها قاعدة لوجستية خلفية للقوات الايطالية إذ كان يوجد بها مطار عسكري إلى جانب معسكر للحامية الإيطالية (القلعة) والتي لاتزال شاهداً حياً على الكثير من الأحداث التاريخية في ذاكرة المدينة حتى يومنا هذا.
كانت القوات الإيطالية المتمركزة في مطار مرزق تقدم الدعم والمساندة للقوات المقاتلة في الشمال على خط المواجهة مع البريطانيين وحلفائهم ، ولم يدر في خلد أحد من القادة الإيطاليون بأن هذه القاعدة البعيدة القابعة خلف الصحراء ستكون هدفاً لقوات الحلفاء وستتعرض لضربة مفاجئة وغارة غير متوقعة ومع أن هذه الغارة سبقتها غارة مماثلة لها على منطقة الكفرة التي كانت هي الأخرى توجد بها قاعدة خلفية للإيطاليين تنبه البريطانيون لها وقرروا تدميرها وتحييدها عن مساندة القوات الإيطالية في الشمال بمعاونة قوات فرنسا الحرة القادمة من تشاد ، إلا أن القادة الإيطاليون لم ينتبهوا لذلك ولم يتخذوا إجراءات لتعزيز الحماية لقواتهم مع أنهم لديهم طائرتان تقوم بعمليات الإستطلاع الجوي ولكن يبدو أنها كانت عمليات غير مستمرة وغير منظمة.
جاء الهجوم ليؤكد على الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الكفرة بإعتبارها من الأبواب الخلفية غير المحمية جيداً بالنسبة لليبيا آنذاك ومن يريد أن يضرب القوات الإيطالية في خاصرتها عليه أن يباغتها من الخلف ، كما أنها وجهت الأنظار إلى قاعدة مرزق لتكون هدفاً تالياً لمجموعة الصحراء بعيدة المدى.
في وقت محدد من بداية العام 1941م غادرت قاعدة العباسية بالقاهرة مجموعة من وحدة الصحراء بعيدة المدى مكونة من حوالي 24 سيارة وعدد 70 رجل بعد أن أستكملت مستلزماتها وتجهيزاتها في مهمة محاطة بالسرية التامة عبر بحر الرمال الليبية تحت قيادة الرائد بات كلايتون وهو مخطط مشهور وقارىء الخرائط مايكل ستيوارت من الحرس الأسكتلندي وقد عبرت الوحدة مسافة قدرت بنحو 4500 ميلاً أي حوالي 7200كم من الصحراء المفتوحة بين مصر وليبيا وداخل الأراضي الليبية وإلتحق بهم 10 من العسكريين الفرنسيين الذين إنضموا للوحدة قادمين من دولة تشاد المجاورة وهم ثلاثة ضباط، واثنين من الرقباء وخمسة جنود.
وصلت القوة لمرزق فى يوم 11 يناير 1941م ونفذت الوحدة غارة مشتركة على القلعة الإيطالية في مرزق وأخذت القوات الايطالية المتمركزة فيها على حين غرة وأستطاعت تنفيذ خطتها بإحكام وباغتت القوة الإيطالية المعسكرة في المطار التي يقودها نقيب احتياطي عديم الخبرة وتمكنت من تدمير ثلاثة طائرات من نوع كابروني ومستودع الأسلحة والذخيرة والمحروقات بقيادة الرائد بات كلايتن وهو غير بعيد عن معسكر القيادة للقوة الإيطالية المتمركزة في مرزق والذي تعرض للهجوم أيضاً بقيادة النقيب مايكل ستيوارث حيث تمكن من تنفيذ مهمته بنجاح وبذلك تكون الغارة قد نجحت في تحقيق هدفها المحدد بدقة.
خلال الغارة يذكر أن المدافعون أنهم كَانوا بعيدين عن معسكرهم لكنهم تجمعوا بسرعةِ جديرة بالثناءِ في محاولة يائسة لمقاومة الغارة بالرغم من أنه يفتقرون إلى الإرادة والتصميم على القتال , الحامية الايطالية كانت تضم 11 ضابطاً و 18 ضابط صف و 273 مجند ليبي وحسب الرواية الفرنسية (12 و 47 و 273) خلال الغارة قتل ضابط إيطالي و اثنين من الجنود الليبيين وأصيب أربعة وخسرت القوات المهاجمة خلال الغارة عدداً قليلاً من منتسبيها فقد قتل ضابط فرنسي وعريف نيوزلندي وأعتقل ثلاثة رجال آخرون وأربعة قتلى من الفرنسيون و 21 جريحا ودمرت ثلاث شاحنات تابعة للوحدة.
وبعد مفاوضات سمح للناجين من الحامية الإيطالية بالانسحاب الى الشمال الغربي في مارس من نفس العام ولا تزال آثار طلقات الرشاشات الثقيلة على جدران المطار القديم في مرزق موجودة كشاهد على ما جرى في تلك الغارة , وبإعتبار أن الغارة لم تتعرض للسكان المدنيين في منطقة مرزق بالتالي لم تقع خسائر في الأرواح أو الممتلكات بالنسبة لهم.
بعد أن سلك جنود الوحدة طريقاً وعراً عبر الصحراء الليبية خالياً من أية علامات دالة قاطعين مسافة كبيرة وراء خطوط العدو ، بدءاً من القاهرة حتى العلامة الكبير في قلب الصحراء ثم الإتجاه غرباً في عمق الصحراء الليبية حتى واو الناموس ثم واو الكبير ومنه إلى مرزق أنسحبت الوحدة بعد إنجاز المهمة بنجاح في طريقها للعودة بدءاً من مرزق التي أنطلقوا منها إلى زوار في تشاد ومنها إلى السارة ومن السارة إلى القاهرة.
الجدير بالذكر أن الرحالة والدارس “كيت كونستابل ماكسول” قد قام برحلة مع رفيقه “ريتشارد” وذلك فى العام 2006ف تكريماً لجنود الوحدة الصحراوية بعيدة المدى – والتي تم حلها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية – الذين شاركوا في العملية متتبعا خط سير العملية من مدينة طبرق إلى مدينة مرزق الليبية وقام بتوثيق هده الرحلة ونشر ذلك بموقعه على شبكة الأنترنت تحت إسم ( تذكر أبطال الصحراء) .
والمقطع المرفق بين تتبع مسار الوحدة من بعض السائحين عبر الصحراء الليبية وتظهر بعض بقايا العربات الخاصة بالوحدة والتي تعطل بعضها في الصحراء ودمرت بعضها الآخر .
مر فريق الرحلة بالطريق التي سلكها منفذوا العملية واجتازوا الكثبان الرملية شديدة الإنحدار التي تفضي لمساحات كبيرة من بحر الرمال الذي تتناثر به أحياناً بعض الصخور وشاهدوا خلال رحلتهم بقايا سيارات الوحدة التي تعطلت وتركت في الصحراء وقبور بعض الجنود الإيطاليين الذين قتلوا خلال العملية في مرزق.
أعتبرت عملية الغارة على مرزق ناجحة عسكرياً وأستحوذت على إعجاب العديد من القادة ، وأشيد بجرأة منفذيها وشجاعتهم الكبيرة خلال الغارة حيث كان لدقة التخطيط وعنصر المباغتة الذى أربك الوحدات الايطالية مساهمة كبيرة في تعطيل قاعدة لوجستية كان الأيطاليون يعتمدون عليها في دعم وإسناد قواتهم المشتركة في الحرب آنذاك ويرجع نجاحها للعوامل التالية :
1-أعتمد البريطانيون مبدأ السرية والمباغتة التي تميزت بها الغارة وهي من أهم عوامل نجاح العمليات العسكرية.
2-ثلاثية النجاح المتمثلة في التخطيط الدقيق والتدريب الجيد والروح المعنوية التي كانت في مجملها من أبرز ما يتمتع به جنود الوحدة الصحرواية بعيدة المدى والتي كانت مفتاح النجاح للعملية.
3-أهمية تنسيق الجهود والتعاون بين القادة العسكريين للدول المتحالفة في العمليات المشتركة حيث أن العملية شارك بها عدد من العسكريين الفرنسيين المتمركزين آنذاك بدولة تشاد وأكدت على أهمية الوحدات الآلية ومشاركتها الفاعلة في العمليات.
4-أعتماد الإيطاليون على الموانع الطبيعية الرمال في المنطقة كدفاعات مساندة لهم وإهمال وترك التدابير الأمنية لحماية قاعدتهم بإعتقادهم أنها بعيدة عن منطقة العمليات الرئيسية في شمال ليبيا ، وعدم قيامهم بتسيير دوريات إستطلاع برية متقدمة للإنذار وحماية قاعدتهم في مرزق .
5-طول خطوط مواصلات القوات الايطالية فقد أستغل البريطانيون وجود الإيطاليون في الجنوب ما زاد في إتساع رقعة مسرح العمليات وبالتالي طول خطوط مواصلاتهم مع قواعدهم في الاخرى الشمال وقاموا بتنفيذ غارتهم في مناطق أخرى بعيدة عن مناطق القتال المعروفة خلال فترة الحرب .
6-تغلب البريطانيون على مشاكل الدعم اللوجستي ونجاحهم في تأمين المؤن والذخائر والوقود لقواتهم حيث أنها عبرت مسافة كبيرة خلال منطقة صحراوية قاحلة ووعرة التضاريس في عملية بعيدة عن مناطق قواعدهم بوسائل مواصلات لم تكن على درجة تقنية عالية.
ومن مجمل ما تقدم نستخلص دروساً مستفادة لعل أهمها الآتي :
* خلال الحروب لا توجد منطقة آمنة لا يستطيع أن يصلها العدو فأي دولة قد تصبح ميداناً لصراع لا دخل لها فيه كما جرى في الحرب العالمية الثانية التي دارت عملياتها على جزء كبير من أرض ليبيا أستبيحت خلالها من قبل الدول المتصارعة ، ولا زالت تعاني من مشاكل وجود الألغام المزروعة فيها حتى الآن.
* من الممكن أن يقوم العدو بضرب خصمه في أي وقت وفي أي مكان مستغلاً غفلته وعدم إتخاده للإجراءات الأمنية والوقائية الرادعة.
* على الرغم من أن الصحراء تعد من أهم الموانع الطبيعية إلا أنها من الممكن التغلب عليها بالوسائل الحديثة وقهرها وإجتيازها والوصول إلى العمق وتدمير الأهداف المحددة.
* ضرورة اليقظة والإنتباه والرصد الدائم لتحركات العدو وتسخير كل الوسائل الممكنة لذلك لأن العدو يغفل ولا ينام وينتظر الفرصة ليعاود أطماعه الإستعمارية ، ومن المحتمل أن يقوم العدو بالهجوم في أي وقت وفي أي مكان مستغلاً عدم إتخاده للإجراءات الأمنية والوقائية الرادعة.
* التركيز على تأمين وحماية المناطق الجنوبية بإعتبارها مناطق إستراتيجية هامة حيث أنها تعتبر بمثابة الباب الخلفي للبلاد الذي ينبغي أن يكون مقفلاً بإحكام ومؤمناً بشكل جيد ضد كل من يحاول الولوج من خلاله.
* دراسة تاريخ قوة الصحراء بعيدة المدى والعوامل المؤثرة على نجاح عملياتهم والإستفادة من ذلك بتطبيقه مع رؤية عسكرية إستراتيجية جديدة على الوحدات الموكلة إليها مهام حراسة وحماية وتأمين الحدود والعمل على تكوين مجموعات قتالية مجهزة خفيفة الحركة على غرار الوحدة بعيدة المدى.