دور تقنيات النانو في الحروب اللامتماثلة (الحروب الحديثة)

ا.د. غادة محمد عامر
عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
زميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا

لقد بات معروفاً لكل من يعمل في التكنولوجيا الدفاعية إن الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو باتا في طليعة برامج بناء الأسلحة في الدول المتقدمة. الغريب أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كان لها نصيب كبير من الدعاية في وسائل الإعلام، لكن تكنولوجيا النانو لم تكن في دائرة الضوء، بل تجد هناك تعتيم عليها بشكل ما. إن استخدام تكنولوجيا النانو في المجالات العسكرية يمكن أن تكون مروعةً في أنواع الاختراعات التي يمكن أن تتسبب في دمار شامل. وهذا ما أكده الكثير من العلماء أمثال “يورغن ألتمان” أستاذ الفيزياء التجريبية في جامعة “دورتموند” بألمانيا، حيث نشر عام 2004م ورقة بعنوان “المخاطر الناجمة عن الاستخدامات العسكرية للتكنولوجيا النانوية – الحاجة إلى تقييم التكنولوجيا والسيطرة الوقائية”، حيث أكد فيها على ضرورة وجود تدابير تنظيمية للحد من التطورات الخطيرة للاستخدام العسكري لتقنيات النانو تكنولوجي. وقد تنبأ “يورغن ألتمان” منذ عام 2001م بمخاطر استخدامات تقنيات النانو في الأسلحة البيولوجية والروبوتات الدقيقة وأجهزة الحاسوب المصغرة المزروعة.

لقد كان الاستخدام التاريخي لتكنولوجيا النانو في مجال الحرب والدفاع سريعا وتوسعيا في مجالات عديدة. وخلال العقدين الماضيين، مولت بلدان عديدة تطبيقات عسكرية لهذه التكنولوجيا مثل الولايات المتحدة، والصين، والمملكة المتحدة، وروسيا. وقد أُعتبرت الحكومة الأمريكية رائدة في مجال البحث والتطوير في هذا المجال. ففي عام 2000م وضعت حكومة الولايات المتحدة مبادرة وطنية لتكنولوجيا النانو (NNI) تركز على تطوير علوم وتكنولوجيا النانو خاصة في الأمور العسكرية وعلى رأسها الأسلحة النانوية. وقد أدت هذه المبادرة إلى تطبيق تكنولوجيا النانو في العديد من البرامج الدفاعية، وفي جميع القوات العسكرية بما في ذلك القوات الجوية والبحرية والقوات الخاصة وقوات الفضاء وفي جميع الخدمات المعاونة. فمن السنة المالية 2001م حتى عام 2014م ساهمت الحكومة الأمريكية بنحو 19.4 مليار دولار في علوم النانو، بالإضافة إلى تطوير وتصنيع الأسلحة النانوية للدفاع العسكري. وينص قانون القرن الحادي والعشرين للبحث والتطوير في مجال تكنولوجيا النانو (2003) على أن تواصل الولايات المتحدة ريادتها في مجال تكنولوجيا النانو من خلال التعاون الوطني والإنتاجية والقدرة التنافسية، للحفاظ على هذه الهيمنة. لذلك نجد أن ميزانية الرئيس الأمريكي لعام 2019م قد وفرت ما يقرب من 1.4 مليار دولار للمبادرة الوطنية لتكنولوجيا النانو، ليبلغ مجموع هذا المبلغ التراكمي نحو 27 بليون دولار منذ إنشاء هذه المبادرة في عام 2001م. وقد قال وزير الدفاع الأمريكي عام 2018م التالي: “ننظر إلى تكنولوجيا النانو على أنها مجال تكنولوجيا تمكيني يجب أن يحظى بأعلى مستوى من اهتمام الشركات وتنسيقها، بسبب الطبيعة الواسعة والمتعددة التخصصات لتكنولوجيا النانو”. واعتبارا من عام 2017م أظهرت البيانات أن الولايات المتحدة نشرت 4725 براءة اختراع وهذا جعلها تحافظ على مكانتها كقائدة في مجال تكنولوجيا النانو لأكثر من 20 عاما. لم تكن الولايات المتحدة الوحيدة التي استثمرت في أبحاث تكنولوجيا النانو للاستخدامات العسكرية، فقد استثمر الاتحاد الأوروبي 1.2 مليار دولار، واليابان 750 مليون دولار. وفي حين أنه من المؤكد أن الصين تنفق الكثير في هذه الأبحاث ولها باع طويل كان واضح فيما قدمه -على سبيل المثال لا الحصر- معهد بكين للتكنولوجيا (BIT) من تكنولوجيا عسكرية مرتبطة بتكنولوجيا النانو مثل، الغواصات النووية مع رقائق التعلم الذاتي، والروبوتات المجهرية التي يمكن أن تغزو جسم الإنسان، وحرب النجوم مثل “الليزر AK-47s”.  لكنك تجد من الصعب الحصول على أرقام الإنفاق الدفاعي عامة في الصين.

وتشمل أحدث البحوث في المجالات العسكرية إنتاج أجهزة عسكرية دفاعية بهدف تعزيز التصاميم القائمة من مواد خفيفة الوزن ومرنة ودائمة. وقد أدت التطورات في هذا المجال إلى تصنيف تطوير هذه الأسلحة النانوية بتصنيفات متفاوتة من آلات روبوتية صغيرة، ومتفجرات شديدة التفاعل، ومواد كهرومغناطيسية فائقة. وقد تم تجهيز هذه التصاميم المبتكرة مع ميزات لتعزيز أيضا استراتيجية هجومية من خلال أجهزة الاستشعار والتلاعب في الخصائص الكهروميكانية. وكما تقول صحيفة “نانوج” “النانو هو اتجاه التقدم التكنولوجي في المستقبل، وعلى العلماء والمهندسين العسكريين واجب دراسة هذه الآثار وتطبيق ما يتعلمونه لحماية شعوبهم”. وتستخدم المنظمات العسكرية تكنولوجيا النانو في أمور عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: الملابس التي لديها القدرة الكبيرة على تحمل التغيرات في درجة الحرارة، والمواد التي تمتص الطاقة لتحمي من الانفجارات أو صدمات الذخيرة، كذلك تستطيع تكنولوجيا النانو المصممة للاتصالات المتقدمة تزويد الجنود والمركبات بأشعة هوائية دقيقة، وعلامات لتحديد الهوية عن بعد، وأجهزة استقبال دقيقة لتحديد المواقع، واتصالات لاسلكية بسهولة وبطاقة أقل.  كذلك توفر تكنولوجيا النانو الأسطح المقاومة للخدش، والزجاج الأقوى والأرق والأرخص، والطلاءات التي لا تتحلل أو تحتاج إلى إعادة طلاء، والطائرات الأخف والأسرع التي تستخدم وقودا أقل، وتقديم المساعدات الطبية بشكل أسرع ومحدد مثل العلاج الموجه للخلايا، وغيرها الكثير من الأمور التي تبدو إيجابية. لكن عندما يتعلق الأمر بالأسلحة فالأمر مختلف تماما، فمثلا طورت وزارة الدفاع الأمريكية أسلحة مثل القنابل المدمجة والقوية مثل “النانونومنيوم” للتسبب في معدلات حرق عالية للغاية، والمتفجرات الكيميائية ذات حجم دمار أقوى من القنابل التقليدية مثل “نانوثرميت” أو “سوبر الثيرميت”. أيضا تم تطوير سلاح الليزر السوبر “super laser” وأجهزة الميكروويف عالية الطاقة (HPM) ذات الوزن المنخفض والاقل حجما والاقل استهلاكا الطاقة. كما إن استخدام تكنولوجيا النانو تُمكن تكنولوجيات الأسلحة القائمة – مثل التخفي والذخائر الموجهة بدقة والطائرات بدون طيار – من التطور بشكل كبير وسريع. وكل هذا سيوفر للجنود الحماية القصوى من الإخفاء أثناء العمليات القتالية أو أنشطة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. وسيُمَّكن الجنود من اغتيال الهدف في أي وقت ومن أي مكان بدقة دون هامش خطأ.

إن صعوبة تصنيف الأسلحة النانوية، والأغراض المقصودة منها (الدفاعية أو الهجومية) تعرض توازن الاستقرار والثقة في البيئة العالمية للخطر. ” وقد ذكرت وزارة الدفاع الأميركية ان “التهديد بالأسلحة النووية ادى الى الحرب الباردة. ومن المتوقع أن يكون الاتجاه نفسه مع تكنولوجيا النانو، التي قد تؤدي إلى عصر جديد من الدمار”. وبالمثل، يحذر تقرير صادر عن “جامعة أكسفورد” من انقراض الجنس البشري بشكل بارز مع خطر حدوث ذلك بنسبة 5٪ بسبب تطوير “أسلحة النانو الجزيئية”. وفي روايته الثاقبة والمتبصرة لهذه التكنولوجيا المحفوفة بالمخاطر والراديكالية، يتوقع” ديل مونتي” أن تهيمن الأسلحة النانوية على ساحة المعركة في المستقبل وقد تكون في نهاية المطاف أكثر إشكالية من الأسلحة النووية. وكما يقول الأب المؤسس لتكنولوجيا النانو، “إريك دريكسلر”، في كتابه” محركات الخلق: العصر القادم لتكنولوجيا النانو”، باستخدام تكنولوجيا النانو، “يمكنهم تهدئة أو استئصال أو تعديل مجموعات سكانية بأكملها بثمن بخس”!


الأستاذ الدكتور غادة عامر هي عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وزميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا،   سفير تقني لوكالة الفضاء المصرية 2022 – 2024، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للعلوم والتكنولوجيا ونائب رئيس المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا. شغلت عددًا من المناصب الاخرى، مثل وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث بجامعة بنها مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في اكاديمية البحث العلمي – مصر، ومدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في جامعة بنها ، والرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمختبر الابتكار ASTF ، والرئيس السابق لقسم الهندسة الكهربائية بجامعة بنها والمدير التنفيذي للأوقاف العالمية. كما اختيرت لتكون ضمن أحد أعضاء لجنة تحكيم جوائز” رولكس” للابتكار بسويسرا.
تم الاعتراف بجهودها دوليًا اختيرت من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات التعليم الهندسي IFEES ومجلس عمداء الهندسة العالمي GEDC في الولايات المتحدة الأمريكية، كأحد أفضل القصص الملهمة للمرأة في مجال الهندسة والتكنولوجيا في أفريقيا.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*