هجوم من الموتى … من صفحات الحرب العالمية الأولى

العميد صلاح الدين أبوبكر الزيداني الأنصاري

حصن Osovets أوسوفيتش قلعة من القرن التاسع عشر تقع في شمال شرق بولندا بنتها الإمبراطورية الروسية في السنوات 1882-1892 باعتبارها واحدة من اكبر الدفاعات لحماية الحدود الغربية لروسيا ضد ألمانيا وتم تحديثها باستمرار بعد ذلك لتكون قادرة على صد ضربات المدافع والاسلحة الثقيلة مع التقدم الذي حصل في الوسائط القتالية.

موقع القلعة كان حيوياً على نهر Biebrza حيث تكثر فيها المستنقعات على حدود مقاطعة شرق بروسيا الألمانية  حيث تشرف على مكان واحد يمكن من خلاله عبور مستنقعات النهر في نقطة إختناق حيوية ما يجعلها مانعاً طبيعياً من الصعب إجتيازه إلى جانب مرور خط السكة الحديد بيلوستوك – لابك – كونيغسبرغ  الاستراتيجي عبر موقع القلعة.

شهد الموقع قتالاً عنيفًا خلال الحرب العالمية الأولى عندما صدت الحامية الروسية المتمركزة بالقلعة الهجمات الألمانية وكانت موقعاً دفاعًيا عنيدًا في قتال إستمر لعدة أشهر خلال أحداث الحرب العالمية الأولى .

في خريف عام 1914م اقتحم الجيش الألماني الثامن القلعة البولندية Osovets أوسوفيتش بقوة أربعون كتيبة مشاة ألمانية وأشتبك في معركة طويلة وشاقة مع أفراد الحامية الروسية من أجل السيطرة علي الخط الأول للدفاعات الميدانية الروسية وتمكنت القوات الروسية من الصمود وصد قوات العدو المتفوقة عليها عددياً لمده 5 أيام في خنادق ضحلة.

لم تستطع الكتائب الألمانية برغم قوة عدتها وعتادها السيطرة على القلعة وسمي ذلك بالهجوم الأول وكان قائد حامية القلعة اللفتنانت جنرال : كارل أوغسطس شولمان تمت ترقيته ثم عين اللفتنانت جنرال نيكولاي برزوزوفسكي في قيادة القلعة وكان له هو دور كبير في مقاومة الهجوم الثاني

خلال اليومين التاليين للتراجع نحو الخط الثاني، لم تعط القوات الروسية اية أوامر وفضلت البقاء في مواقعها الدفاعية ، ولكن التراجع من الخط الأول سمح للمدفعية الالمانية بالتمركز في مواقع أفضل والبدء في عملية قصف دقيقة ومركزة علي الحصن.

وفي فبراير 1915 قاد الألمان هذه المرة هجوما مركزاً بعدد 17 بطارية مدفعية ثقيلة ، بما في ذلك اثنين من Berthas الكبير واختلفت أعيرة قذائف المدفعية هذه المرة من عيار 100 مم إلى المدفعية الثقيلة من عيار 420 مم وكان القصف مكثفاً وبوتيرة عالية حيث كانت المدفعية تطلق حممها  بمعدل 360 قذيفة كل أربع دقائق في إنفجارات متتالية تهز القلعة وإستمرت المدفعية أسبوعاً وهي ترمي قذائقها نحو القلعة في قصف لم يشهد له التاريخ آنذاك مثيلاً ، حققت المدفعية الألمانية خلال عمليات القصف للقلعة رقما قياسيا عالميا حيث كان مجموع ما أطلقته 250,000 قذيفة من المدفعية الثقيلة وحوالي 1,000,000 قذيفة من قطع المدفعية الخفيفة , وفي 9 فبراير قررت القيادة الروسية سحب جميع القوات إلى خط الدفاع الميداني الثاني الذي كانت له خنادقه عميقة ومزود بمواضع للمدافع الرشاشة.

بعد أن أدركت هيئة الأركان العامة الروسية خطورة موقف المدافعين قامت بالطلب من القائد العسكري للقلعة الصمود لمدة يومين من أجل السماح بإجلاء المدنيين وإعادة تجميع القوات في قلعة Osovets ومع ذلك حققت الحامية الروسية بالمقابل رقماً قياسياً في الصمود مجدداً فبدلاً من يومين استمر المدافعون عن القلعة لمدة نصف عام , وحقق المدافعون الروس عن قلعة أوسوفتس إنجازا كبيرا دون لصالحهم تاريخياً عرف من خلاله مدى صلابة وعزيمة الجندي الروسي.

عانى الروس خسائر فادحة من وابل قذائف المدفعية ، الذي كان الأقوى في الفترة من 14 إلى 16 فبراير ، ومن 25 فبراير إلى 5 مارس 1915 وكانت الضربات في أماكن متعددة داخل الحصن وانهيار العديد من المباني جعل التنقل بين أجزاء مختلفة من القلعة شبه مستحيل وكل ذلك أدى إلى انتكاس القطاع إلى الحرب الموضعية.

أطلق الألمان هجومًا رئيسياً كاملاً على القلعة في بداية يوليو وشمل الهجوم 14 كتيبة من المشاة ، وكتيبة من الملاحين ، و 24-30 من مدافع الحصار الثقيلة ، و30 بطارية من المدفعية مجهزة بالغازات السامة بقيادة المشير بول فون هيندنبورغ.

إنتظر الألمان ظروف الرياح المناسبة حتى 6 أغسطس عام 1915م لتنفيذ هجومهم التالي وهذه المرة إستخدم الألمان الغازات السامة التي أطلقت خليطًا ساماً من غازات الكلور والبروم في اتجاه الخنادق الروسية بإستخدام 30عدد بطارية مدفعية وفي الوقت نفسه استمر القصف بقذائف الكلوروبكرين ولم يكن لدى الروس أي أقنعة غازية لتفادي التأثر به وكانت الغازات السامة هي السمة الألمانية لموسم حرب ربيع وصيف 1915م , الضباب الأخضر الغامق الذي ينتج من الغاز يسقط على المواقع الروسية , حوالي نصف الجنود والضباط ماتوا في العذاب والبقية كانوا يموتون ببطء أيضا , عندما تبدد الغاز كان قد فعل الأفاعيل في الروس.

إنتقلت الوحدات الألمانية إلى الهجوم في خطة لإكتساح الحامية وبالرغم من أن جميع المدافعين تقريباً قد لقوا حتفهم ، فقد بدأت أربع عشرة كتيبة من “لاندوير” – ما لا يقل عن 7000 رجل مشاة – في التقدم. عندما وصلت فرقة المشاة الألمانية فرقة Landwehr إلى خط الدفاع الأول ، فجأة خرج “الموتى” الروس من الخنادق ليلتقوا بهم ويهاجموا الألمان المندفعين في قتال تلاحمي , المخلوقات الصامدة الرهيبة التي أحرقتها المواد الكيميائية وهم يسعلون الدم بسبب آثار الغازات السامة يحملون بنادقهم بما تبقى لهم من قوة في مواجهة يائسة مع عدوهم المذعور أختلط فيها أزيز الرصاص والدم , صدم الألمان بالمنظر الذي جسد صلابة من تبقى من الكتيبة الثالثة عشرة من فوج زيمليانسك الـ 226 فرؤية حوالي 100 رجل يتمايلون بملابسهم الدامية وهم لايزالون يدافعون عن مواقعهم , تسبب لهم بالإنكسار والهروب وفي وقت لاحق فتحت المدافع الرشاشة الروسية الخمسة النار على الألمان المتقهقرين وأبادت منهم الكثير.

في مثل هذه الأحداث وعند عمليات إقتحام الخنادق يكون الطرف الآخر في حالة دفاع لكن هجوم المقاتلين المتخندقين وهم في صورة سيئة كان هو المفاجأة الأكبر التي أعاقت تقدم القوات الألمانية وجعلتها مذعورة مقاتلين كالأشباح يهاجمون وهم في حالة شبه أموات ولكم أن تتخيلوا المشهد وقد وصفت الصحف الأوروبية الحدث بعد ذلك بـ”هجوم الرجال القتلى”.

يصف سيرغي خميلكوف “مشارك وشاهد” هذا الحدث في كتابه “الكفاح من أجل الأساطير”: “إن الكتيبتين الثالثة عشرة والثامنة … استدارتا على جانبي خط السكة الحديد وأطلقتا هجوماً هرعت الكتيبة الثالثة عشرة بعد أن التقت بأجزاء من فوج الأرض العصبية الثامن عشر وهم يصيحون بصيحة “مرحى!” في قتال تلاحمي بالحراب ضرب هذا الهجوم من “المدافعين الموتى” الألمان لدرجة أنهم هرعوا للقتال ولم يستعدوا إليه ، مات العديد من الألمان على شبكات الأسلاك قبل خط الخندق الثاني من نيران المدفعية الروسية , بعدها هدد الألمان بتطويق القلعة مع الاستيلاء على Kovno و Novogeorgiesk فهدم الروس الكثير من قلعة  Osovet وانسحبوا منها في 18 أغسطس.

معركة حصن  Osovetكانت درساً تاريخياً تأكد معها بأن الثبات والصبر يهزم في كثير من الأحيان القوة العددية وأن قوة العدو المادية لا تساوي شيئاً أمام الروح المعنوية العالية وبأن إرادة القتال والتضحية من أجل الوطن حافزاً لا مثيل له للصمود والمقاومة وكل ذلك في جانب والضبط والربط والإلتزام بالأوامر والتعليمات العسكرية في جانب آخر وكل ذلك يضاف للرصيد التاريخي العسكري للجيش وفخراً لأمتهم ووطنهم.

اليوم أصبحت القلعة معلماً تاريخياً بارزاً في بولندا ويمكن للسائحين الوصول إلى بعض أجزائها، وخاصة تلك الموجودة داخل حدود متنزه بيبرزا الوطني حيث يقع مركز معلومات الزوار التابع للمتنزه في أوسويك-تويرددزا وهي مستوطنة صغيرة تقع داخل حدود القلعة ولا تزال أجزاء أخرى من الحصن يشرف عليها الجيش البولندي ولا يسمح بالوصول إليها.

<strong><strong>العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري</strong></strong>
العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري

باحث ليبي في الشؤون الدفاعية

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*