حرب الفسيفساء: حرب المناورة في القرن الحادي والعشرين (Mosaic Warfare)

أ.د. غادة محمد عامر
عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
زميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا

تخيل أننا الان في عام 2035م وحدث اندلاع حرب محدودة عبارة عن نزاع إقليمي في بحر الصين الجنوبي. فيتحرك فريق هجومي تابع لمشاة البحرية الأمريكية مع مجموعة من طائرات MV-22 (هي طائرة عسكرية أمريكية متعددة المهام قابلة للإقلاع والهبوط عموديًا (VTOL) وقدرات إقلاع وهبوط قصيرة (STOL) وهي مصممة لتقوم بوظائف المروحية التقليدية، وأن تقوم برحلات بحرية طويلة المدى، وهي أيضا عالية السرعة) التي تحتوي على مزيج من رقائق الكمبيوتر والمتفجرات القابلة للطباعة ومعدات الاتصالات، ليستعد لضرب هدف عالي القيمة. وهم مرتبطون بالحاويات الرباعية الموضوعة مسبقا والتي تم تسليمها بواسطة نظام لوجستي غير مأهول. يفتح الفريق الحاوية ويبدأ في تجميع حمولة المهمة. بعد تحليل الخيارات المختلفة التي تم إنشاؤها بواسطة مساعد الكمبيوتر “أثينا”، يختار قائد الفريق فرقة تنفيذ العملية وهم: ثلاث طائرات بدون طيار للمراقبة وللعثور على الهدف وإصابته، ونظامان للهجوم الإلكتروني لعزل الهدف، وثلاث طائرات بدون طيار متفجرة مدربة على استهداف نقاط الضعف الحرجة. بالإضافة لطابعة ثلاثية الأبعاد لتطبع الشحنات المتفجرة، كل هذا مع تحميل ملامح هجوم جديدة للمهمة في قرص باستخدام رمز blockly (هو محرر برنامج مرئي مفتوح المصدر يعتمد على الويب). كذلك يتفحص هذا الفريق الهجومي قاعدة بيانات الاستخبارات المستندة إلى السحابة، ويقومون بتنزيل التحديثات لمساعدة خوارزمية التعلم الآلي على التعرف على الهدف وتجاهل وتحييد خداع العدو. وبعد إطلاق حزمة المهمة واصابة الأهداف بنجاح، يصعد الفريق إلى MV-22 ويخطط لهجومه التالي أثناء انتقاله إلى موقع إطلاق نار جديد.

يمثل هذا المزيج السريع والإبداعي للأنظمة الصغيرة والرخيصة والمرنة في السيناريو أعلاه نظرية جديدة للنصر: أطلق عليها الحرب الفسيفسائية. وتعريفها أنها نظرية قتالية تقترح أن يتم القتال بحجم كبير وغير متماثل بشكل غير متوقع، وبمجموعة متنوعة من الأسلحة والمنصات من فئات وأحجام وأنواع مختلفة – كل قتال بطريقة متميزة مثل البلاط في الفسيفساء – يمكن أن يكون ميزة قاهرة مقارنة بمواجهة الأسلحة والمنصات المماثلة لذلك العدو. ظهرت الفكرة في وكالة مشروع الأبحاث الدفاعية المتقدمة داربا (DARPA) وكانت تصف الحرب الفسيفسائية كيفية إجراء مناورة متعددة المجالات ضد الأعداء الذين يمتلكون قدرات للضربات دقيقة. تضع حروب الفسيفساء أهمية كبيرة في رؤية المعركة كنظام ناشئ ومعقد، واستخدام تشكيلات حشود غير مأهولة منخفضة التكلفة جنبًا إلى جنب مع التأثيرات الإلكترونية للتغلب على الأعداء. الفكرة المركزية هي أن تكون رخيصة وسريعة وقاتلة ومرنة وقابلة للتطوير. فبدلاً من بناء ذخيرة باهظة الثمن ومعقدة ومُحسَّنة لهدف معين، قم بتوصيل الأنظمة الصغيرة غير المأهولة بالقدرات الحالية في مجموعات إبداعية ومتطورة والتي سوف تستفيد باستمرار من ظروف ساحة المعركة المتغيرة ونقاط الضعف الناشئة. ببساطة، إنها عملية رخيصة الثمن، يتم فيها تكوين فريق من الإنسان والآلة يجمع بين أنظمة غير مأهولة ومرنة مع الحدس الاستراتيجي، بوتيرة لا يمكن للخصم أن يضاهيها. عندما تهاجم القوات في وقت واحد من اتجاهات متعددة فإنها تنتج سلسلة من المعضلات التي تتسبب في انهيار نظام العدو. وعلى مدار العامين الماضيين، أدى التعاون الفريد بين مكتب التكنولوجيا الإستراتيجية التابع لـداربا، وجامعة Marine Corps، وقيادة الابتكار رقم 75 للاحتياطي الأمريكي، إلى سلسلة من الألعاب الحربية لاختبار هذا المفهوم. استنادًا إلى النتائج الأولية لهذا التعاون، يعد مفهوم الفسيفساء طريقة قابلة للتطبيق للمضي قدمًا لتطوير تشكيلات وقدرات متعددة المجالات في القرن الحادي والعشرين.

وللتوضيح أكثر، فإن الأنظمة التقليدية كانت لابد وأن تكون متجانسة، من مقاتلات الجيل الخامس إلى حاملات الطائرات، وغالبًا ما تكون هذه المنصات باهظة الثمن وثابتة ويصعب تكييفها. إنها أنظمة تشبه أحجية الصور المقطوعة، حيث لا يمكن ربط كل قطعة إلا بقطعة مطابقة. لذلك تم تصميم نظام “الفسيفساء” بحيث يتم ربطه بالشبكات بشكل مرن وتكوينه بسرعة لتوفير إمكانات مرنة للمشغل. فيمكن دمج أي نظام (أو وحدة) لها خصائص وظيفية معينة مع الآخرين لتوفير القدرة القتالية المرغوبة في الوقت والمكان الذي يختاره القائد. كذلك تتطلب إدارة أسراب الفسيفساء التعاون بين الإنسان والآلة في التخطيط والتنفيذ. على سبيل المثال، تخيل تطبيقًا للذكاء الاصطناعي يدير طلبات إعادة الإمداد واستبدال الأفراد، بينما يقدم توصيات حول التضاريس لمخطط الاستخبارات والتنسيق بين كل وحدات الجيش المختلفة أثناء المعركة لحظيا وبناء على التغيرات التي تطرأ. إن الجديد في حرب الفسيفساء ليس تجميع فريق عمل منظم وأنظمته لمهمة محددة، فسلاح مشاة البحرية الأمريكية يقوم بهذا -منذ فتره- في سياق فرقة العمل البحرية الجوية-الأرضية، ولا هو فكرة استخدام أنظمة شبكية في القتال. الجديد هو السرعة والتعقيد الذي يسمح به مفهوم الحرب الفسيفسائية. حيث يوفر توليف حزم القوة المرنة مع القيادة والتحكم المعززين بالذكاء الاصطناعي والعمليات الموزعة وقيادة المهمة الذين هم جميعا أساسًا قويًا لحرب المناورة الحديثة التي هي جزء من الحروب اللامتماثلة التي تتمحور حول المعلومات. توفر مجموعة متنوعة أكبر من خيارات الهجوم عبر النطاقات، والتي يتم توفيرها بسرعة وحجم أسرع مقارنة بالأسلحة أو الأنظمة المركزة على النظام الأساسي التقليدي، كما إنها توفر أساليب جديدة تمامًا لاستباق الخصم أو إزاحته أو تعطيله. سيستخدم قائد الفسيفساء الماهر على المستوى التكتيكي والتشغيلي تصرفًا متغيرًا باستمرار مقترنًا بالقدرة على التحكم والتوسع بسرعة في التخطيط، والقوة القتالية، والدعم اللوجستي لخلق معضلات للخصم، واستغلال الميزة الموضعية، والتحكم في وتيرة. إنه نهج مفكك ومتعدد المجالات يتعارض مع الاعتقاد بأن القوة القتالية المنسقة والمدربة بشكل موحد والتي تعمل بسلاسة هي فقط الخصم الأكثر قوة الذي يجب مواجهته. ففي حرب الفسيفساء، فإن المنصات الفردية لكل مجال مثل المجال الجوي، والأرضي، والبحري، والإلكتروني، والفضاء، وما إلى ذلك، سيخلق معًا صورة أكبر للقوة العريضة والقوية ، بينما تجعل من الصعب على العدو في الوقت نفسه تحديدها. ونظرًا لأن التصميمات الجديدة عالية الأداء والشرائح عالية السعة يتم تطويرها وتقديمها، فإن دمج هذه الأجهزة غير المأهولة في المزيد من استراتيجيات المعركة يمكن أن يضيف ميزة غير متكافئة مع تقليل المخاطر على الأفراد العسكريين. وهذا ما وصفته وزارة الدفاع الأمريكية “زيادة القدرة على البقاء” في المعركة.


الأستاذ الدكتور غادة عامر هي عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وزميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا،   سفير تقني لوكالة الفضاء المصرية 2022 – 2024، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للعلوم والتكنولوجيا ونائب رئيس المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا. شغلت عددًا من المناصب الاخرى، مثل وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث بجامعة بنها مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في اكاديمية البحث العلمي – مصر، ومدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في جامعة بنها ، والرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمختبر الابتكار ASTF ، والرئيس السابق لقسم الهندسة الكهربائية بجامعة بنها والمدير التنفيذي للأوقاف العالمية. كما اختيرت لتكون ضمن أحد أعضاء لجنة تحكيم جوائز” رولكس” للابتكار بسويسرا.
تم الاعتراف بجهودها دوليًا اختيرت من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات التعليم الهندسي IFEES ومجلس عمداء الهندسة العالمي GEDC في الولايات المتحدة الأمريكية، كأحد أفضل القصص الملهمة للمرأة في مجال الهندسة والتكنولوجيا في أفريقيا.