العميد م. ناجي ملاعب
اذا كان من المبكر الحكم على نجاحات او فشل العملية العسكرية الخاصة التي قادتها موسكو بتوغلها في الداخل الأوكراني، وقد واكبتُ هذه العملية بدقائقها، واذا كان مَن بدأ تلك “العملية العسكرية الخاصة” كما اعلن عنها في موسكو في 24 شباط الماضي، أو استدرج إليها، لم يكن يتوقع صمود الأوكرانيين امام جحافل الجيش الثاني في العالم، سنحاول في هذه العجالة اجراء تقييم ميداني بعد مرور ستة اشهر على شرارتها الأولى، وصولاً الى دراسة القدرات الروسية أمام حلف شمال الأطلسي الذي انخرط من بعيد في الدعم العسكري والمعنوي للحكومة الأوكرانية.
في هذا السبيل، يمكن الإستئناس بآراء بعض الخبراء ومنهم كارلوس دي سوريتا Carlos D. Sorreta سفير الفلبين السابق لدى الاتحاد الروسي في مقالة له لموقع European Leadership Network “شبكة القيادة الأوروبية” تحت عنوان: الحرب في أوكرانيا والعواقب النووية لسباق التسلح الجديد يقول:
أنتجت ستة أشهر من “العمل العسكري الخاص” الروسي في أوكرانيا العديد من الصور لأوجه القصور العسكرية الروسية. ..طوال الصراع، غمرتنا صور الأخطاء العسكرية مع خسائر في المعدات والجنود الروس قتلى أو في الأسر. عربات مدرعة روسية تتعطل وتتساقط على جانب الطريق حتى قبل أن تصل إلى الخطوط الأمامية. تم تدمير الدبابات الروسية بواسطة جنود مشاة كانوا يستخدمون أسلحة محمولة وطائرات بدون طيار. طائرات روسية تقصف من السماء من قبل نفس المشاة وصواريخهم المحمولة على الكتف. تم اعتراض الاتصالات الروسية بسهولة. كانت المعدات التي تم التقاطها تُخشى ذات يوم على أنها تقنية عالية ومتقدمة، وتبين أنها مليئة بمكونات قديمة أو حتى مفقودة. الجنود الروس يسرقون الطعام والسترات الواقية من الرصاص وحتى الأحذية.. الجنرالات الروس يموتون على الخطوط الأمامية.
صورة أخرى سائدة، لا سيما في الجزء الأول من الصراع، كانت المقارنات بين جيشي روسيا وأوكرانيا، مما أظهر ميزة هائلة من جانب روسيا. كانت هذه الصور مصحوبة بتعليقات مفادها أن روسيا، بعددها الهائل من القوات والمعدات، كان ينبغي أن تجتاح أوكرانيا بسهولة. غالبًا ما تُستثنى من هذه التحليلات حقيقة أنه في أي نزاع مسلح، سيكون من الصعب على روسيا تركيز جميع قواتها على جبهة واحدة.
ويصل الكاتب الى “استنتاج لا مفر منه من هذه الجوانب النوعية والكمية للقوة العسكرية الروسية: إنها بالكاد قادرة على مهاجمة الناتو وهزيمته. ليس لديها القدرة الهجومية الحقيقية لتحدي وهزيمة الناتو، أو حتى بعض أعضائه الفرديين. على الرغم من أن القدرات العسكرية الروسية هائلة، إلا أنها كافية إلى حد كبير للدفاع عن نفسها لحراسة وتأمين أراضيها الكبيرة إلى حد ما.
ففي عام 2021، شكلت روسيا 3.2٪ فقط من الإنفاق العسكري العالمي. في العام نفسه، بلغت النسبة المتبقية من الناتو – باستثناء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا – 8.3٪ من الإجمالي العالمي. بالاقتران مع هذه الدول الأربع، يمثل الناتو بشكل جماعي 57.1٪ من الإنفاق الدفاعي العالمي.
يمكن للجيش الروسي الذي يمتد إلى حد ضئيل أن يثبت صحة ما كان يدعي طوال الوقت: أن قواته المسلحة، على الرغم من أنها قد تكون ضخمة وكبيرة، هي لأغراض دفاعية فقط، لديها قدرة هجومية حقيقية قليلة جدًا من حيث شن حرب تقليدية ضد الناتو؛ فروسيا ليست الاتحاد السوفياتي مع كتلته الشرقية. لم يعد هناك حلف وارسو. وارسو تساعد أوكرانيا الآن في شن حرب ضد روسيا. بنفس القدر من الأهمية، لكي يكون لهذه الرواية أي فرصة للنجاح، يجب على روسيا نفسها أن تبذل قصارى جهدها لتكون أقل تهديدًا، ومع ذلك، فإن السرد يسير في الاتجاه المعاكس. يبدو أن الناتو قرر تجاهل القدرات العسكرية الروسية المتضائلة، وبدلاً من ذلك وضع ثقته في دفاع أقوى – وهو القرار الذي سيؤدي حتماً إلى سباق تسلح تقليدي جديد وزيادة التوترات. الرواية الناشئة هي أنه يجب على الناتو زيادة إنفاقه الدفاعي لبناء وإنتاج المزيد من الأسلحة وأفضلها – مهما كانت نتيجة الصراع الحالي.
في مقاربة أخرى يكتب الكاتب الاستراتيجي المعروف جوزيف ناي الابن، وهو صاحب المراجع الأهم عن القوة المرنة ومستقبل أمريكا والمعنونين بـ “القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، “مستقبل القوة”، و”هل انتهى القرن الأمريكي” مقالة بعنوان: ثمانية دروس من حرب أوكرانيا، نشرت على موقع (project-syndicate) فيقول:
عندما أصدر الرئيس الروسي أوامره بغز أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير/شباط، كان يتصور أن قواته قادرة على الاستيلاء السريع على كييف وتغيير الحكومة على نحو مماثل لما حدث بعد التدخل السوفييتي في بودابست عام 1956 ثم في براغ عام 1968. لكن ذلك لم يكن ليحدث. فلا تزال الحرب مستعرة، ولا أحد يعلم متى أو كيف قد تنتهي.
ولأنه من السابق لأوانه التكهن متى تنتهي الحرب، فمن الواضح أن بعض الاستنتاجات سابقة لأوانها. على سبيل المثال، دحضت هذه الحرب الحجج التي زعمت أن عصر حرب الدبابات انتهى، حيث انتقلت المعركة من ضواحي كييف الشمالية إلى السهول الشرقية في منطقة دونباس.
ولكن حتى في هذه المرحلة المبكرة، ينطوي الأمر على ثمانية دروس ــ بعضها قديم، وبعضها جديد ــ يتعلمها العالم (أو يتعلمها من جديد) من الحرب الدائرة في أوكرانيا. سوف نكتفي بالشق الميداني من تلك الدروس:
أولًا: أثبت الردع النووي نجاحه، لكنه يعتمد على مخاطرات نسبية أكثر من اعتماده على القدرات. فقد ارتدع الغرب، ولكن فقط إلى حد معين. لقد منعت التهديدات التي أطلقها بوتين الحكومات الغربية من إرسال قوات (وإن كانت ترسل معدات) إلى أوكرانيا. ولكن لا تعكس هذه النتيجة أي قدرة نووية روسية متفوقة؛ بل تعكس الفجوة بين تعريف بوتن لأوكرانيا باعتبارها مصلحة وطنية حيوية وتعريف الغرب لها على أنها على جانب كبير من الأهمية لكنها أقل من أن تشكل مصلحة حيوية.
ثانياً: حرب المعلومات قادرة على إحداث الفارق. كما أشار جون أركويلا من مؤسسة راند (RAND) قبل عشرين عاما، فإن نتائج الحرب الحديثة لا تعتمد فقط على جيش من الذي سيفوز، بل وأيضا على “قصة من التي ستفوز”. أثبت الكشف الحريص من جانب أميركا عن معلومات استخباراتية حول الخطط العسكرية الروسية فعاليته في “فضح زيف” روايات بوتين في أوروبا مسبقا، كما ساهم بشكل كبير في التضامن الغربي عندما حدث الغزو كما كان متوقعا.
ثالثاً: كل من القوة الصارمة والقوة الناعمة على جانب كبير من الأهمية. فبينما يتفوق الإكراه على الإقناع في الأمد القريب، فإن القوة الناعمة قادرة على إحداث الفارق بمرور الوقت. القوة الذكية هي القدرة على الجمع بين القوة الصارمة والقوة الناعمة على النحو الذي يجعل كل منهما تعزز الأخرى ولا تتضارب معها. فشل بوتين في تحقيق هذه الغاية. فقد خلق العنف الروسي في أوكرانيا ذلك القدر من الاشمئزاز الذي جعل ألمانيا تقرر أخيرا تعليق خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 ــ وهي النتيجة التي فشلت الضغوط الأميركية على مدار عدة سنوات في تحقيقها. على النقيض من ذلك، استخدم الرئيس الأوكراني، والممثل السابق، فولوديمير زيلينسكي، مهاراته الدرامية المشحوذة مهنيا لتقديم صورة جذابه لبلده، فنجح في تأمين التعاطف، بل وأيضا المعدات العسكرية التي تشكل ضرورة أساسية لتعزيز القوة الصارمة.
رابعاً: القدرة السيبرانية ليست حلا خارقا. فقد استخدمت روسيا أسلحة سيبرانية (إلكترونية) للتدخل في شبكة الكهرباء في أوكرانيا منذ عام 2015 على الأقل، وتنبأ كثيرون من المحللين هجوما سيبرانيا خاطفا على البنية الأساسية في أوكرانيا وحكومتها عند بداية الغزو. ولكن على الرغم من الهجمات السيبرانية العديدة أثناء الحرب، فلم تتمكن أي منها من تحقيق نتائج أوسع. عندما جرى اختراق شبكة Viasat الفضائية، استمر زيلينسكي في التواصل مع جماهير العالم من خلال الأقمار الصناعية الصغيرة العديدة التي وفرتها شبكة ستار لينك (Starlink).
خامساً: علاوة على ذلك، مع التدريب والخبرة، تحسنت الدفاعات السيبرانية الأوكرانية. بمجرد اندلاع الحرب، وفرت أسلحة الطاقة الحركية قدرا أعظم من حسن التوقيت والدقة والقدرة على تقييم الأضرار للقادة مقارنة بالأسلحة السيبرانية. مع الأسلحة السيبرانية، لا تعرف دائما ما إذا كان أي هجوم نجح أو جرى صده. ولكن باستخدام المتفجرات، يمكنك رؤية التأثير وتقييم مدى الضرر بقدر أكبر من السهولة.
أخيرا، والخلاصة للكاتب جوزف ناي الأبن، الدرس الأكثر أهمية هو أيضا أحد الدروس الأقدم: أن الحرب لا يمكن التنبؤ بعواقبها. كما كتب شكسبير قبل أكثر من أربعة قرون من الزمن، من الخطر على القائد أن “يطلق صرخة الحرب ويسمح لكلاب الحرب بالإفلات من بين يديه”. إن وعد الحرب القصيرة الخاطفة شديد الإغراء. في آب من عام 1914، توقع قادة أوروبيون “عودة القوات إلى الوطن بحلول أعياد الميلاد”. بدلا من ذلك، أطلقوا العنان لحرب دامت أربع سنوات، وخسر أربعة من هؤلاء القادة عروشهم. في عام 2003، بعد الغزو الأميركي للعراق مباشرة، توقع كثيرون في واشنطن “نزهة في بستان” (حملت لافتات معلقة على السفن الحربية عبارة “المهمة أنجزت” في شهر مايو/أيار من ذلك العام)، لكن الجهود هناك تعثرت لسنوات.
بهذا التقييم الميداني لهاذين الخبيرين “الغربيين” الدوليين يمكن القول أن من إستدرج التوغل الروسي في بلد مجاور – كان يوماً ما من ركائز قيام الإتحاد السوفييتي السابق- يبدو أنه رسم سيناريو عنوانه حرب استزاف طويلة الأمد ينتج عنها إنهاك الجيش الروسي، ولكن وفق معايير “أن لايفنى الذيب ولا يموت الغنم”، مصحوبة بعقوبات اقتصادية موجعة، ولم تكن تلك السيناريوهات بعيدة عن الرؤيا الروسية، فقد استعدت القيادة الروسية لها وطوقتها في مجالات أخرى من إعلام ونفط وغاز وتغذية، وحتى في كيفية إشغال الجبهات وتحقيق القضم المضطرد لمناطق الصراع، وتنظيم إدارة المناطق المسيطر عليها.
ولكن تسارع الأحداث، بقيام أوكرانيا بالإنتقال الى الهجوم وشن هجمات مضادة حققت ناجحًا بشكل ملحوظ، حيث استعادت مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة خاركيف وهددت باستعادة مدينة خيرسون المحتلة، قابلها بوتين، كما كان متوقعا، بالرد، معلنا “تعبئة جزئية” للقوات وأجرى “استفتاءات” متسرعة بشأن الانضمام إلى الاتحاد الروسي في الأراضي المحتلة. تم تنفيذ التعبئة الجزئية بطريقة فوضوية، كما في بداية الحرب، تسببت في فرار الآلاف من الأشخاص من روسيا. كانت هناك احتجاجات متفرقة في جميع أنحاء البلاد، وهددت بالتزايد في الحجم. في غضون ذلك، واصلت القوات الأوكرانية التقدم في شرقي البلاد.
ويُعتقد أن الجبهة الروسية في دونباس ما زالت مهددة بانهيار وشيك. إذا حدث هذا، فسيحتاج بوتين إلى المزيد من التصعيد. قد يأخذ هذا شكل المزيد من الهجمات على البنية التحتية الأوكرانية، ولكن إذا كان الهدف هو وقف التقدم الأوكراني، فإن الخيار الأكثر احتمالاً – كما يراه الباحث الأميركي في جريدة ذانيويوركر كيث جيسن – هو توجيه ضربة نووية تكتيكية صغيرة (أقل من كيلوطن واحد – أي حوالي خمسة عشر مرة أصغر من القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما). ومع ذلك، سيكون ذلك مدمرًا، وسيؤدي بالتأكيد إلى رد فعل شديد من الغرب. لا يعتقد الكاتب أن الناتو سيرد بضربات نووية خاصة به، لكن يمكنه، على سبيل المثال، تدمير أسطول البحر الأسود الروسي. قد يؤدي هذا إلى جولة أخرى من التصعيد. في مثل هذه الحالة، هل سيميل الغرب، أخيرًا، إلى التراجع.
“لكي تنتهي الحرب، يجب تغيير الحد الأدنى من مطالب أحد الطرفين على الأقل”. هذه هي القاعدة الأولى لإنهاء الحرب. ولم نصل بعد إلى النقطة التي تغيرت فيها أهداف الحرب بما يكفي لإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام.