ھل تفقد مجتمعات الاستخبارات مركزیتھا بإنتھاء عصر السّریة؟

أحمد صابر عباس

ما أشبه اليوم بالبارحة، تنطبق المقولة أيضًا على ساحات الحرب ومجتمعات الاستخبارات، فبعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، كانت الأسلحة السوفييتية الثقيلة لا زالت تهدد أوروبا، وانقسم العالم رسميًا إلى عالم ليبرالي لا يزال ضعيفًا وعالم مناهض للديمقراطية تقوده روسيا، في ذلك الوقت كانت الصين لا تزال غارقة في حروبها وتمر بطور التأسيس لتظهر كجمهورية حديثة بقيادة رسولها الشيوعي ماو.


لمواجهة تلك التحديات الخطيرة، نفذت الولايات المتحدة إصلاحات بجهاز الاستخبارات عبر إنشاء وكالة المخابرات المركزية في عام 1947، كان الدافع الرئيسي لذلك تفادي تكرار الصفعات التي تلقتها الاستخبارات الأمريكية في بيرل هاربور، حيث اعتبرت الضربة الجوية اليابانية فشل استخباراتي كبير للقوات الأمريكية لعدم قدرتهم على التنبؤ أو تفادي ذلك الهجوم.

نفذت الولايات المتحدة إصلاحات بجهاز الاستخبارات عبر إنشاء وكالة المخابرات المركزية في عام 1947
كان الدافع الرئيسي لذلك تفادي تكرار الصفعات التي تلقتها الاستخبارات الأمريكية في بيرل هاربور


وبغض النظر عن أن تلك الإصلاحات في الاستخبارات الأمريكية لم تنعكس بالإيجاب بشكل كبير على الحرب الكورية التي فشلت فيها الاستخبارات الأمريكية في عدة معارك، خاصة من الناحية الاستراتيجية، إلا أن أداء الجهاز بشكل عام أخذ في التطور حتى تلقى صفعات أخرى في أحداث 11 سبتمبر، حيث اخترقت العناصر الإرهابية الطائرات المدنية ونفذت أهدافها كاملة.


في تلك المراحل السابقة كانت أجهزة المخابرات وفي القلب منها الأمريكية، تمتلك مركزية قوية فيما يتعلق بالمعلومات مراقبة الجغرافيا السياسية للدول، وغيرها من المعلومات السرية التي تساعدها في حماية الأمن القومي للبلاد. قبل سنوات قليلة كانت الولايات المتحدة تتحكم حتى بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا التجارية، حيث أطلقت تكنولوجيا الـ GPS وغيرها، الأمر الذي مكنها من التحكم في هذه التطبيقات وتعطيلها إذا لزم الأمر، وهي المركزية التي لم يعد لها وجود الآن.


اليوم لدينا عالم أشبه كثيرًا بتلك الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنه أكثر تعقيدًا باحتلال الروس لدولة مجاورة، وبصعود الصين الذي اعتبره وزير الدفاع الأمريكي في تصريحه بأنه أكبر خطر يواجه الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل. كما أن التحديات التي تواجهها أجهزة الاستخبارات اليوم تختلف في طبيعتها، فبتطور الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا التجارية على نحو غير مسبوق، يبدو السؤال الأدق هو كيف تستطيع أجهزة المخابرات التحكم في المعلومات وحماية الأمن القومي للدول في ظل هذا الكم الهائل من المعلومات المتاحة؟


كيف يكون السباق الاستخباراتي بوجود هذا الكم الهائل من المصادر المفتوحة؟


تأتي الإجابة الأولى من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تجاوزت عصر “السرية” الذي تعودت عليه أجهزة المخابرات وبدأت باستخدام أسلوب “الكشف” قبل بدء العملية السرية الروسية في أوكرانيا.


أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية نية روسيا في ضرب أوكرانيا، للتخلص من احتمالية استخدام الروس للأعلام المزيفة، وكشف النوايا الروسية أمام العالم لتقليل أي دعم محتمل للرئيس الروسي بوتين يبدو هذا التصرف أكثر عمقا ويعكس فهم جهاز الاستخبارات الأمريكي التحديات الحالية وطبيعة عصر المصادر المفتوحة.

صندوق رأس المال المخاطر المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لدعم تكنولوجيا التجسس


الآن من المتوقع أن تنشئ المخابرات الأمريكية وكالة استخبارات مختصة بالمصادر المفتوحة، حيث من المتوقع أن تكون التحديات التي تفرضها التطورات التكنولوجية أكثر من فوائدها، فالآن يتطلب الأمر معالجة آلاف بل ملايين الأخبار المرصودة بواسطة المصادر المفتوحة، وهو ما يتطلب عملا مكثفا ومتخصصا لتحقيق تفوق ملموس، بدلا من التراجع وتضييع الوقت كاملا في محاولة التحقيق في جميع الأخبار لمعرفة الصحيح منها أو الذي يصلح تصنيفه كمعلومة استخباراتية.


لسنا في سياق الحديث عن أهمية تطوير أجهزة الاستخبارات لتواكب هذا العصر المعلوماتي، لأن الشرح يطول حول هذه النقطة، لكن الاهتمام بالمصادر المفتوحة وتطوير طرق التعامل معها أمر حتمي لنجاة أجهزة الاستخبارات الحكومية من خطر الفيض المعلوماتي والاستخبارات التجارية والمدنية التي قد تبدو خطورتها في السنوات المقبلة أكبر مما نتوقعه، فالسرية والمركزية التي كانت تعتمد عليها مجتمعات الاستخبارات في الماضي أصبحت سرابًا لا يعتمد عليه لتحقيق تفوق ملموس في حماية الأمن القومي.