معركة القرضابية ملحمة الوحدة الوطنية في ليبيا

معركة القرضابية ملحمة الوحدة الوطنية في ليبيا

 صلاح الدين أبوبكر الزيداني

في تاريخ الامم والبلدان منازلات تاريخية شكلت جزءا من أحداث تاريخها الحربي تستحق ان تدون وتخلد تذكرة لتضحيات كبيرة بذلت في سبيل الحرية والكرامة ومن تلك المنازلات معركة القرضابية

التي جرت أحداثها في 28_29 أبريل 1915م بالقرب من منطقة سرت معركة تاريخية خالدة شكلت ولاتزال جزءاً مهماً من الذاكرة السياسية للأمة الليبية وتاريخ نضالها العسكري في جهادها ضد المستعمر الإيطالي البغيض تعرف بملحمة الوحدة الوطنية وهي كذلك بحق , إختلطت فيها دماء الليبيين في معركة حاسمة عززت من قيمة الإنتماء للوطن توحدت فيها الصفوف بعيداً عن القبلية والمناطقية والتوجهات والمغانم لتؤكد أن الوطن للجميع وأن الموت دونه يصبح واجباً على الجميع.

الموقف العام:

نتيجة لمعارك فزان الخالدة في الشب وأشكدة وقارة محروقة والتي تصدى فيها المجاهدين للمستعمر الإيطالي في ملاحم بطولية مشرفة سطرت بأحرف من نور في تاريخ ليبيا وجسدت معاني الكفاح المسلح من أجل الدين والوطن وبعد فشل الجنرال مياني قائد الحملة الإيطالية في الإحتفاظ بسيطرة إيطاليا على مناطق فزان وحواضرها التي أستردها المجاهدين الواحدة تلو الأخرى وكان آخرها إستعادة سبها في 27 نوفمبر. 

 أجبر مياني على مغادرة فزان إلى بعد أن نفذ من معركة مرزق ومن كمائن المجاهدين في الصحراء طوال المدة التي استغرقتها رحلة الهزيمة القاسية ، ولكن نظراً لأهمية فزان كعمق إستراتيجي لمدن الساحل ولعموم ليبيا أعد الجنرال مياني بالتشاور مع الحكومة الإيطالية قواته لإسترداد فزان وإخضاعها ولإظهار قوة حكومة الولاية ومدى سيطرتها على البلاد ، ولضمان تنفيذ خططه إستعان بعدد من الزعماء المحليين وجند الليبيين قسراً لتسيير حملتين نحو فزان إنتهت الحملة الأولى إلى هزيمة قاسية في معركة وادي مرسيط في 7 أبريل 1915م والثانية قادها مياني بنفسه متجهاً إلى سرت ليعاود الكرة نحو فزان عن طريقها وكانت سرت تحت السيطرة الإيطالية منذ العام 1913م لكنه واجه قوات المجاهدين في معركة حاسمة نستعرض ما حدث فيها من أحداث بوجهة نظر عسكرية كونها شكلت جزءاً مهماً من ذاكرة الأمة الليبية وتاريخها العسكري.

* الموقف الخاص :

 – وجب التذكير بأننا هنا لسنا بصدد ذكر الأسماء والقبائل والزعامات القبلية والوطنية المشاركة في المعركة إلا بما تقتضيه اهمية سرد الرواية التاريخية العسكرية للمعركة خاصة وأننا نركز في رؤيتنا هذه على العملية العسكرية في القرضابية وما دار فيها من أحداث لنحلل عسكرياً من خلالها ما جرى فيها من حركات وعمليات تعبوية ونستخلص منها الدروس المستفادة لهذه المعركة التي هي من الصفحات المجيدة للتاريخ الحربي الليبي.

 – كلفت القوات الإيطالية زعماء القبائل وأعيان المناطق الليبية بتجنيد المواطنين وجمعت الرجال من مناطق بني وليد وترهونة ومصراتة ومسلاتة وزليطن وقماطة والخمس وقامت بتوزيع السلاح والمال عليهم ضمن الحملة التي أعدتها إيطاليا لمعاقبة المجاهدين وتشتيت شملهم بعد ورود معلومات عن تجمعهم شرق سرت وبدء تواصل القوى الوطنية وإتصالهم ببعضهم لتطوير العمل السياسي والعسكري ضد المستعمر الإيطالي لكن هذه السياسة الإستعمارية بتجنيد المواطنين لقتال أخوتهم والإيحاء بأنهم خارجون عن القانون ويسعون للإفساد في البلاد كانت ضرباً من الجنون إذ لايمكن بأي حال الوثوق بهؤلاء المجندين لقتال أخوتهم والمساعدة في بسط نفوذ وهيمنة المستعمر على بلادهم مهما كان الثمن وهذا ما لم يفهمه مياني وقيادته ودفعت الحملة لاحقاً ثمنه باهضاً.

 – تجمع المجندون بما يسمى آنذاك بالحملات من قماطة ومسلاته والخمس ومصراته في مصراته وأنضموا للقوة الإيطالية هنالك وتجمع أهالي بني وليد وترهونة في بني وليد وأنضموا لقوة الأحباش الإرتريين تحت رئاسة أعيانهم ووفقاً لخطة عمليات المعركة بدأت مجموعات المجندين بمرافقة وحدات القوات الإيطالية والمرتزقة الأحباش والتحرك على مجموعات فتقدمت مجموعة مصراتة بقيادة العقيد مياني نحو منطقة بئر بن عيزار وتحركت القوة الثانية التي تضم مجموعة بني وليد مع ترهونة والأحباش المرتزقة نحو منطقة بن تليس ثم نحو بئر بن عيزار .

– وفي تلك الأثناء  قدم الشيخ أحمد سيف النصر مع نفر من رجاله إلى بني وليد لحث الناس على الجهاد ومقاومة المستعمر الإيطالي وبدأ فعلياً إتصالاته بأبناء المناطق والقبائل في الغرب وكان الكثيرين قد أنضموا لقوته وخاضوا معه معركة بونجيم التي غنم فيها مجموعة من الإبل والسلاح عززت من قوة المجاهدين.

– في منطقة التحشد في بئر بن عيزار تجمعت القوات الإيطالية وكان قوامها 84 ضابطاً وو500 جندي إيطالي وعدد 2089 من الجنود الأحباش الأرتيريين وعدد 3000 مقاتل من المجندين الليبيين (رجال المحلات) وعدد 250 فارساً إضافة إلى القافلة المرافقة والتي تضم ما مجموعه 2000 جمل تحمل مؤن الحملة والذخيرة وعدد 12 قطعة مدفعية مع عدد من الرشاشات كانت تحت سيطرة القوات الإيطالية وعدد من السيارات العسكرية. 

 – أقامت القوات الإيطالية والوحدات المساندة لها من الحملات والفرسان مدة ثلاثة أيام في منطقة التحشد الأولى لإدامة القوات والإستعداد الكامل للانطلاق وكانت قوات المجاهدين تتمركز عند منطقة الخطوة التي تبعد مسافة 10 كم من منطقة التحشد للقوات الإيطالية في بئر بن عيزار في قوة قوامها عدد 400 مجاهد بقيادة الشيخ أحمد سيف النصر.

 – في بئر بن عيزار إجتمع قادة المحلات المرافقة للحملة الإيطالية وأتفقوا سراً على القتال إلى جانب المجاهدين والإنقلاب على الإيطاليين في وقت معين من المعركة وأرسلوا لقادة قوات المجاهدين وأعلموهم بما تم الإتفاق عليه وبأنهم سيكونون عوناً لأخوتهم ضد عدوهم المشترك.

 – بعد إكتمال الترتيبات اللوجستية للحملة إنطلقت القوات الإيطالية إلى السدادة لإكمال التزود بالمياه من آبارها الضحلة ومن ثم مواصلة التقدم نحو القداحية وهناك رجع الشيخ عبد النبي بلخير إلى بني وليد ومعه 400 مقاتل بعد حيلة دبرها لتحييد هذا العدد من المقاتلين لفائدة المجاهدين ومن القداحية واصلت القوات مسيرتها بالتقدم على مراحل خاصة وأن عدد النقلية المصاحبة للحملة وصل حتى 2000 جمل إضافة لعدد المقاتلين الراجلين والذي يحتم التحرك بسرعة محدودة لضمان تقدم كامل الجيش في مسير بجبهة واسعة عريضة لدرجة أن النجوع القريبة لمحور التحرك كانت تخلي أماكنها وتبادر بالإبتعاد عن خط سيرها .

 – وصلت الحملة الإيطالية لمنطقة قرعاة العبد وهي غدير ماء كبير وأقامت حوله مدة ثلاثة أيام أستغلت لإدامة القوات وإراحتها بعد المسير الطويل نحو سرت وكانت على أثرهم قوات المجاهدين التي سلكت نفس الطريق حيث وجدوا أربعة من الإبل لوحدها متخلفة عن الحملة بكامل حمولتها من السلاح والذخيرة في أول عملية دعم لهم من أخوتهم المجندين في القوة الإيطالية دون علم الإيطاليين بها.

– بعد 288 يوماً من تحرك الحملة وصلت القوات الإيطالية إلى قصر سرت يتقدمها العقيد مياني في سيارته السوداء المجهزة بجهاز إتصال لاسلكي وتمركزت مع الحملات المرافقة لها خارج القصر ودخل مياني للقصر وأتخذه مقراً له وبدا المكان أشبه بمعسكر كبير لقوات متحالفة جمعها مياني لتحقيق مجد تاريخي له يعيد به مجده العسكري الذي تعثر في فزان الأبية. 

 – وصلت قوات المجاهدين بدورها لمنطقة قصر بوهادي وتمركزت هناك لتنضم إليها قوات المجاهدين القادمة من الشرق بقيادة السيد صفي الدين السنوسي والتي كانت تتمركز منذ فترة شرق قصر بوهادي في منطقة قراره.

* وصف شكل الأرض وهيئتها :

 – القرضابية هي بئر ماء تقع شرق قصر سرت وعلى مسافة قريبة منه وقصر أبو هادي أطلال لقصر قديم عرف محلياُ بهذا الاسم ويقع إلى الجنوب الغربي من قصر سرت والساحة التي جرت فيها المعركة بين قوات المجاهدين والقوات الإيطالية كانت تشغل المسافة التى بين القرضابية وقصر أبو هادي وكانت العمليات القتالية ناحية القرضابية جنوب سرت أقوى وأستعر فيها القتال أكثر من ناحية أبو هادي وبذلك أشتهرت المعركة بنسبتها الى القرضابية وعرفت بذلك الإسم في العديد من المصادر التاريخية .

* الإستعدادات للمعركة :

1- إجراءات القوات الإيطالية:

 إستعداداً للعمليات العسكرية اللاحقة أمر الجنود بالإستعداد للتحرك نحو قصر بوهادي وكانت المهمة المكلفين بها طرد ومعاقبة قوة المجاهدين المتمركزة هناك وكانت الأوامر تقضي بحمل مؤن تكفي لمدة ثلاثة أيام لأنهم لايحتاجون لأكثر من ذلك وكأن الأمر برمته لايعدو كونه نزهة قصيرة للإستمتاع وليس مهمة قتالية.

– كان تشكيل القوة خلال المسير كالآتي:

قوة الجنود الإيطاليين ويكون محور تحركها من ناحية الغرب وعلى يسارها مجندي مصراتة ويكون موقع مجندي ترهونة ومسلاته في الوسط وعلى يسارهم المرتزقة الأحباش ومعهم مجندي زليطن وكلف رمضان السويحلي بقيادة باندات المجندين الليبيين.

– وصلت القوة لمنطقة سواني بوشناف ليلاً و في إستعراض للقوة كان الغرض منه إضعاف الروح المعنوية لقوة المجاهدين أطلقت مدفعية الإيطاليين قذائفها فرد المجاهدين بإطلاق نيران بنادقهم باتجاه القوات الإيطالية بكثافة عالية ما دفع الإيطاليين إلى التخفي أثناء الحركة في الموقع وعدم إشعال النيران خوفاً من عمليات القنص. 

– كان من ضمن الإجراءات الإدارية التي تم الإتفاق والتدريب عليها عند طلب الدعم والمساندة الفورية لأية قوة رفع أعلام صغيرة كإشارات دالة على أن هذا الموقع يطلب تنفيذ عمليات إخلاء طبي للقتلى والمصابين أو يطلب دعماً ومساندة نارية فورية ليتولى القادة دعمه بالقوة المناسبة وذلك لإنظراً لإتساع جبهة المعركة المتوقعة وعدم وجود وسائل إتصال بين القادة الميدانيين ورئيس العمليات وقائد الجيش في المنطقة الواقعة بين قصر بوهادي والقرضابية والتي تقدر بحوالي 7 كيلومترات والتي تقرر أن تكون موقع المعركة. 

2- إجراءات قوات المجاهدين :

 خلال الليلة الماضية للمعركة تسربت سراً مجموعات من المجندين الليبيين لتنضم لقوة المجاهدين المتمركزة في المنطقة الواقعة جنوب وشرق قصر بوهادي تحت قيادة الشيخ أحمد سيف النصر. 

 وكان الجناح الآخر من قوة المجاهدين يتمركز شرقي وادي تلال ولديهم علم تام بواسطة مجموعات الإستطلاع بتحركات القوات الإيطالية والتي بدورها أعلمتهم ببدء التحرك الفعلي للقوات الإيطالية حسب التعليمات الصادرة إليهم.

 – كانت خطة المجاهدين تقضي بوضع الفرسان في قلب النسق الأول لقوة المجاهدين وكان الواجب المسند إليها تنفيذ الهجوم الأول الذي يجب أن يكون سريعاً وقوياً ثم تتراجع لتوحي للقادة الإيطاليين بأنها تنسحب للخلف لتغري مشاة القوات الإيطالية بالتقدم وملاحقة الفرسان نحو عمق قوات المجاهدين للإيقاع بهم ومن ثم تقوم قوات مشاة المجاهدين بالتعامل معهم في كمين محكم ومفاجأتهم بنيران كثيفة ثم يعاود الفرسان هجومهم بقوة وعنف تكفي لإبادة جزء كبير من القوات الإيطالية .

سير المعركة : صباح يوم 29 ابريل بدأت المعركة بعد أن أعطي مياني أوامره ببدء التمهيد المدفعي على طول خط الجبهة وبدأت المدفعية الإيطالية بقصف مواقع المجاهدين بقوة وعنف حتى أن بعض الروايات تذكر أن القصف وحده أسفر عن سقوط حوالي 150 شهيداً وبعد ذلك تقدمت القوات الإيطالية لتنفيذ خطتها الهجومية

تحت غطاء نيران الرشاشات وأشتبكت مع قوات المجاهدين وفي الوقت نفسه إنطلقت قوة فرسان المجاهدين لتنفيذ خطة إختراق القوة المهاجمة لكنها وتحت وطأة وكثافة النيران المعادية تراجعت لناحية الغرب بدلاً من الخلف حيث كان من المفترض أن تقوم مشاة المجاهدين بهجوم معاكس بعد أن يوقعوا العدو داخل كمين محكم لكن إشتداد الضغط وقوة الهجوم الإيطالي على النسق الأول وعدم تنفيذ خطة عمليات المجاهدين بدقة سبب إختلال كبير في صف المجاهدين حتى كاد المرتزقة الأحباش أن يطوقوا قوة المجاهدين لكن تدخل قوة صفي الدين الشريف والأطيوش بقوة دفع المرتزقة الأحباش للخلف وعزز من قوة جناح الشيخ سيف النصر وحدث إرتباك وتداخل كبير ساد تنظيم قوات المجاهدين ثم أحتدمت المعركة في صدام كبير ما بين قوة المجاهدين وبين القوات الإيطالية أختلط فيها إستخدام الأسلحة النارية مع السلاح الأبيض من سكاكين وخناجر وسيوف وبدأت الأرواح تسقط وتحصد في قتال تلاحمي شديد في لحظات قدر مهيبة سادت جو المكان .

عند منتصف النهار وتحت وطء ضربات المجاهدين القوية بدأت القوات الإيطالية في التراجع تمهيداً لإعادة بناء صفوفها لكن إنقلاب المجندين الذين كانوا ضمن الحملات عليها من الداخل حسب الإتفاق المسبق بين قادة المحلات سبب خلل كبير في صفوفها وكان ذلك بمثابة دعم وإسناد كبيرين تلقتها قوات المجاهدين في القوت المناسب مما ساهم في رجح كفة موازين القتال وميله لصالحهم.

إنظم رمضان السويحلي إلى المجاهدين وفقاً للإتفاق المبرم بين قادة المجاهدين في بن عيزار وأختار لتنفيذ ذلك الوقت المناسب في حركة تدل على حنكته ودهائه ما جعل القتال يشتعل بقوة داخل صفوف القوات الإيطالية هذه المرة وكان موقع الفرقة الإيطالية النظامية ضمن القوة الرئيسية للعدو بين محلات ترهونة ومصراتة فكانت بذلك من أوائل الوحدات التي تأثرت تأثراً ملحوظاً من تحول المجندين لقتالهم بعد تلقي الأوامر من السويحلي بإعتباره قائد المجندين في الحملات المرافقة وأثناء ذلك جرح العقيد مياني أثناء محاولته اليائسة للسيطرة على قواته التي فقد التحكم بها على أثر الضربات الشديدة المتلاحقة وقامت على اثر ذلك قوة من المجاهدين بمهاجمة مؤخرة القوات الإيطالية في حركة إلتفاف ناجحة أصدر على أثرها مياني أوامره بسرعة الإنسحاب لمن تبقى من جنوده وفر هارباً من ميدان المعركة لينفرط بعدها عقد القوات الإيطالية ويبدأ جنوده في إنسحاب غير منظم بإتجاه القصر مع من تبقى من المرتزقة الأحباش وعدد من المجندين الذين إختلط عليهم الأمر وكانوا لايعلمون بأمر الإتفاق بين قادة المحلات الليبية.

وكان وعد الله الحق لأوليائه وأنتصر المجاهدين نصراً مؤزراً على جيش عرمرم ومرغوا أنف خامس قوة في العالم آنذاك في الوحل وكانت صيحات التكبير تتعالى في جنبات المكان ومعها يردد المجاهدين شعار “هلنا ونهار … غابن لعذار” .

بعد النصر على القوات الإيطالية في القرضابية توجهت الحملات كلاً نحو منطقتها وتولت محاصرة القوات الإيطالية المتمركزة بها لتحررها من سيطرة المستعمر الإيطالي بحيث لم تبقى تحت سيطرتهم سوى العاصمة طرابلس ومدينة الخمس .

* نتائج المعركة :

– على الصعيد العسكري:

1- أضاف المجاهدين الليبيين لرصيد التاريخ العسكري في ليبيا نصراً حاسماً تحدث عنه العالم آنذاك بإعجاب كبير ولقنوا الجنرال مياني وقواته درساً في التعبئة والحرب ما جعله يفر هارباً من المعركة ليصب سخطه وجام غضبه على أهالي سرت في حملة إعتقالات واسعة ومذبحة أستمرت مدة ثلاثة أيام حسب رواية المعاصرين للحدث.

2- غنم المجاهدون 11 مدفعاً وجميع الإبل التي كانت تمثل نقلية العدو الإيطالي خلال الحملة وما تحمله من مؤن وذخائر ومئات البنادق وعدد ثلاثة سيارات نقل أحرقت بعد الإستيلاء على حمولتها من مؤن وأسلحة وذخائر.

3- وفقاً للبرقية التي أرسلها العقيد مياني قائد الحملة إلى حكومة الولاية ووزير المستعمرات الإيطالي والتي ذكر فيها خسائره على النحو التالي :

عدد 18 ضابط إيطالي وعدد 252 جندي إيطالي قتلي أو مفقودين وعدد 1411 جندي أيطالي جرحى وعدد 234 مجندين وطنيين قتلى وعدد 296 جرحى وفقد عدد 11 قطعة مدفعية وعدد 3 رشاشات وعدد 3 سيارات وعدد من المعدات العسكرية وفي الحقيقة كانت خسائره أكبر من ذلك بكثير .

4- شكل إنتصار المجاهدين في المعركة بداية الإنحدار لسيطرة إيطاليا على البلاد فقد تحقق بعدها الإستيلاء على مناطق تمركز حاميات القوات الإيطالية الواحدة تلو الأخرى وكان ذلك نتيجة مباشرة للإنتصار الذي حققته قوات المجاهدين في القرضابية وبحلول منتصف شهر أغسطس من ذلك العام لم يتبق تحت السيطرة الإيطالية إلا مدينتي طرابلس والخمس.

– على الصعيد السياسي :

1- كانـت هزيمـة القوات الإيطالية في هـذه المعركة مـن الأسباب التي أطاحت بحكومـة جوليتي بعد أن طالبت الأحزاب الإيطالية بوجوب الانسحاب مـن ليبيا وإنهاء العمليات العسكرية فيها بعد أن كلفت الشعـب الإيطالي ثمناً باهظ التكاليف في الأموال والأرواح.

2- ظهور الجمهورية الطرابلسية وهي أول جمهورية عربية في تاريخ العرب المعاصر.

3- تناقلت وسائل الإعلام والصحف في ألمانيا وتركيا أخبار الإنتصار الذي حققته قوات المجاهدين في القرضابية الأمر الذي أفاد كثيراً الحركة الوطنية في نقل أخبار الكفاح الليبي المسلح ضد المستعمر الإيطالي ولفت أنظار العالم للقضية الوطنية.

4- بدأت القوات الإيطالية بتنفيذ حملة قبض واسعة على مئات من أعيان ووجهاء القبائل والمناطق وأهل سرت والحكم بإعدامهم عسكرياً وساقت نحو ألف منهم قسراً إلى إيطاليا في أكبر حملة نفي تاريخية كرد إنتقامي على هزيمتها القاسية في القرضابية.

الأساليب القتالية التي طبقها المجاهدون خلال المعركة :

* خلال معركة القرضابية طبق المجاهدين عدداً من العمليات القتالية خلال التجهيز والإعداد للمعركة وأثناء إحتدام القتال بينهم وبين القوات الإيطالية بدءاً من إعلان التعبئة الكاملة في القبائل والمناطق الليبية للجهاد ضد المستعمرين الطليان مروراً بعملية التحشد التي تمت في منطقة بئر بن عيزار وما جرى خلالها من عمليات لتوفير الدعم اللوجستي لقوات المجاهدين من العدو نفسه وإنتهاءاً بعمليات المناورة التي تم تنفيذها تحت ضغط كبير من نيران العدو وعمليات الإستطلاع فقد قامت قوات المجاهدين بإستطلاع دقيق على طول محور تحرك الأرتال القوات الإيطالية أثناء توجهها نحو سرت وأيضاً قبيل بدء المعركة وكان يتم إبلاغ قيادات المجاهدين بالمعلومات لتقدير الموقف وإتخاذ التدابير اللازمة كما نفذ جناح الفرسان مناورة جرئية للتقدم نحو صفوف العدو وجره لكمين داخل قوات المجاهدين مع أن الخطة لم تكتمل للتفوق الناري الكبير الذي تتمتع به القوات المعادية لكن ذلك لم يمنع من المحاولة ونجاح عملية الإلتفاف على مؤخرة القوات الإيطالية وكل تلك العمليات تميزت بالسرعة والسرية وتنفيذ التعليمات الصادرة من القيادة الموحدة بين القادة الميدانيين والزعماء الوطنيين بدقة وايضاً إختيار أماكن تمركز القوات بعناية.

* الدروس المستفادة :

1- عندما نستذكر تاريخ معارك الجهاد الليبي فإننا نفخر بأننا نعزز الذاكرة التاريخية لبلادنا وللأمة العربية بمعارك ومنازلات شكلت جزءا مهما من تراثنا وتاريخنا الحربي وأننا لانسوق الأحداث لنروي فانتازيا تاريخية ولكن لنتعلم من تلك الأحداث ونستسقي العبر ونجعلها رصيداً في التوجه نحو مستقبل واعد نقف فيه على ذكرى ماضي مجيد لوطن بذل في سبيله الآباء والأجداد الدماء والأرواح وتوظيفها كعامل أساسي لبناء ليبيا والحفاظ على حريتها وإستقلالها.

2- عززت معركة القرضابية من أهمية الإنتماء للوطني وحركت المشاعر الوطنية لدى الليبيين “قيادات قبلية و مجاهدين ومجندين” على حد سواء ووحدت صفوفهم في معركة وطنية وعملية عسكرية مشتركة خاضوها جميعاً تلبية لنداء الوطن بعيداً عن المآرب والتوجهات الخاصة.

3- إستثمار إقتران العمل السياسي بالعمل العسكري في سبيل تطوير الكفاح المسلح ضد العدو حيث قامت القيادات الوطنية السياسية والعسكرية بالإتفاق مع بعضها لتنفيذ عملية مشتركة بين المجاهدين والمجندين الوطنيين والإنقلاب على القيادة الإيطالية دون علمها مع إيهامها بإظهار الولاء لها حتى اللحظات الأخيرة.

4- مهما كان العدو قوياً فالإيمان بالله والحق في العيش الكريم ونيل الحرية هو ما يدفع المقاتلين للقتال بشجاعة وإقدام والتصرف بحنكة وخبرة وما جرى خلال المعركة من تنسيق وتلاحم ألهب مشاعر المجاهدين والمجندين على حد السواء وزادهم إيماناً بوطنية المعركة وأهمية تعاضدهم كأخوة ضد عدوهم المشترك.

5- أهمية الروح المعنوية والسرعة والسرية كعوامل مهمة في نجاح تنفيذ العمليات القتالية وأيضاً المتاورة والتحرك على عدة محاور خلال المعركة وهذه في مجموعها ساهمت بشكل كبير في الإنتصار التاريخي الكبير في القرضابية.

6- انتهت المعركة ولم تنتهي القرضابية وبقيت ذكراها تطل كل عام لتؤكد لليبيين بأن مصيرهم واحد وبلادهم واحدة لا تقبل القسمة وأن عدوهم واحد وأن المحافظة على الوحدة الوطنية تتطلب الكثير من التضحيات وأن للحق صوتاً يعلو على ما سواه. تاريخا نذكره ونفخر به ويذكره الاعداء ويهابونه وحدت الأخوة وكانت بحق ملحمة للوحدة الوطنية.