مجموعة فاغنر.. من التأسيس الى مقتل قائدها

العميد م. ناجي ملاعب

فيما اعتبر تأكيد نهائي على مقتل قائد مجموعة “فاغنر الروسية الخاصة، Wagner Group فقد أعلن في موسكو في 27 من الشهر الفائت عن وفاة قائد المجموعة يفغيني بريغوجين، بعد اكتمال الفحوص الجينية عن طريق لجنة التحقيق الروسية المكلفة النظر في حادث تحطم الطائرة التي كان على متنها، والمتجهة من موسكو إلى سان بطرسبورغ عندما تحطمت في سماء منطقة تفير.. وكان مع بريغوجين على متن الرحلة 6 من مرافقيه، بمن فيهم مساعده دميتري أوتكين، وطاقم الطائرة المؤلف من 3 أشخاص هم الطيار ومساعده ومضيفة.

سنحاول في هذه المقالة البحث في تأسيس الجموعة الروسية الخاصة والمهام المستدة إليها وصولاً الى استشراف المستقبل الذي ينتظرها في غياب قائدها.

كيف بدأت مجموعة فاغنر؟

أشار تحقيق أجرته هيئة لإذاعة البريطانية بي بي سي بشأن مجموعة فاغنر، إلى انخراط محتمل لضابط الجيش الروسي السابق، دميتري أوتكين، البالغ من العمر 51 عاما، في بدايات نشاط الشركة، إذ يُعتقد أنه أسس شركة “فاغنر” وأعطاها اسمها – تيمنا بلقبه أو اسمه الحركي السابق حين كان ضابطا. وأوتكين من قدامى المحاربين في حروب الشيشان، وضابط سابق في القوات الخاصة وكذلك في المخابرات العسكرية الروسية.

بدأت مجموعة فاغنر العمل لأول مرة أثناء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، كما تقول تريسي جيرمان، أستاذة الصراعات والأمن في جامعة كينغز كوليدج بلندن. وتضيف: “يُعتقد أن مرتزقتها هم من الرجال (بالزي الأخضر) الذين احتلوا المنطقة..ثم دعم حوالي ألف منهم الميليشيات الموالية لروسيا التي تقاتل من أجل السيطرة على منطقتي لوهانسك ودونيتسك في أوكرانيا”. وتقول: “إن إدارة جيش من المرتزقة يتعارض مع الدستور الروسي..ولكن رغم ذلك فإن فاغنر توفر للحكومة قوة تستطيع إنكارها والتنصل منها.. إذ يمكن أن تتدخل فاغنر في الخارج ويمكن للكرملين أن يقول ببساطة: لا علاقة لنا بالأمر”.

 في إحصاء نشرته  بي بي سي في العام 2022 يقول صموئيل راماني، الزميل المشارك في معهد رويال يونايتد سيرفيسز، إن مجموعة فاغنر لديها حوالي 5 آلاف مرتزق يعملون في جميع أنحاء العالم. .. وان معظم مجندي فاغنر بشكل أساسي هم من قدامى المحاربين الذين يحتاجون إلى سداد الديون وتغطية تكاليف الحياة..إنهم يأتون من مناطق ريفية حيث توجد فرص أخرى قليلة أمامهم لكسب المال”.

فاغنر حاجة للنظام الروسي

لم تكن روسيا بوتين، وهي تستعيد تموقعها، تعمل بطريقة تقليدية حيث تخوض الدول حروبا بالجيش الوطني النظامي فقط، بل إلى جانب ذلك برز دور “المرتزقة” أو ما يسمى بالشركات العسكرية الخاصة، وهذا منتشر في العديد من الدول، لكن تبقى قدراتها ومجال تأثيرها وفعاليتها عوامل مرتبطة بخدمات أمنية خالصة للأفراد والمؤسسات، الأمر الذي تختلف فيه مجموعة فاغنر عن بقية الشركات الأمنية والعسكرية من حيث من الغموض، ومن حيث علاقتها بالنظام في روسيا والأدوار المنوطة بها، وهي كالآتي:

أولا:  تتجاوز في وظيفتها البعد العسكري الذي يضطلع به الجيش الوطني، ذلك أن ما تخضع له صيرورة الحرب والنزاع ضمن القانون الدولي يجعل الجيوش أكثر تحفظا، خشية وقوع جرائم حرب تجعلهم عرضة للمساءلة الجنائية الدولية، فيكون استخدام فاغنر أو المرتزقة بغية تجنب المساءلة، ذلك أن يد الشركات العسكرية الخاصة متحررة من أي التزامات قانونية أو أخلاقية.

ثانيا:  الدور الحاسم لمجموعة فاغنر في مجموع التدخلات الروسية، فهؤلاء المرتزقة يمهدون الطريق أمام التدخل الروسي العسكري أو السياسي، وهو ما حدث في سوريا بالاستيلاء على آبار النفط وفي السودان وأفريقيا الوسطى من خلال شركات التعدين والذهب، وفي ليبيا مع تسليح أمير حرب آخر، هو خليفة حفتر سنة 2019 خلال هجومه على طرابلس ومساعدته بالمرتزقة للسيطرة على العاصمة، وفي مالي بتقديم الدعم الأمني، وفي الحرب الراهنة بأوكرانيا بمدينة باخموت وغيرها.

ثالثا:  يظهر من خلال تدخلاتها في عدد من الدول أن أنشطتها يتداخل فيها العسكري الأمني بالاقتصادي الذي يسعى وراء الربح، في الارتباط بالمصالح الروسية، وهذا يجلي حصولهم على امتيازات خاصة من روسيا.

يمكننا القول إن التدخل الروسي في ليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان ومالي لم يكن ليتم بشكل مباشر، وذلك بسبب القيود التي يفرضها القانون الدولي، وكذلك صراع القوى الأخرى على الأرض، الذي يفرض تدبيرا مختلفا للصراع المسلح، وهو ما جعل مرتزقة فاغنر أداة فعالة في يد روسيا

إذا نظرنا إلى مجموعة المرتزقة من خلال أنشطتها العسكرية بموازاة التدخلات الروسية يمكننا القول إن التدخل الروسي في ليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان ومالي لم يكن ليتم بشكل مباشر، وذلك بسبب القيود التي يفرضها القانون الدولي، وكذلك صراع القوى الأخرى على الأرض، الذي يفرض تدبيرا مختلفا للصراع المسلح، وهو ما جعل مرتزقة فاغنر أداة فعالة في يد روسيا لبسط النفوذ في عدد من مناطق النزاع، لكن طبيعة عمل المرتزقة وأمراء الحروب الخارجة عن القانون وإكراهات الصراع السياسي يصبح مع صيرورة الزمن وتعقد أوجه الصراع مشكلة كبرى تهدد الدول.

من يمول مجموعة فاغنر؟

يعتقد البعض أن وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، تمول وتشرف سرا على مجموعة فاغنر. وقد قالت مصادر من المجموعة لبي بي سي، إن قاعدتها التدريبية في مولكينو بجنوب روسيا، توجد جنبا إلى جنب مع قاعدة عسكرية روسية. ونفت روسيا باستمرار أن يكون لفاغنر أي صلة بالدولة. لكن التحقيق الذي أجرته بي بي سي والذي كشف عن صلات لأوتكين بمجموعة فاغنر، يربط أيضا بين المجموعة وأحد الأوليغارش الروس، ألا وهو يفغيني بريغوزين، المعروف باسم “طباخ بوتين”، ذاك اللقب الذي أطلق عليه لأن بداياته كانت كصاحب مطعم ومتعهد طعام للكرملين. وتعمل شركة ايفرو بوليس التي يملكها بريغوزين في مجال خدمات الإطعام ومن بين زبائنها الجيش الروسي. وتخضع العديد من شركات بريغوزين حاليا لعقوبات أمريكية بسبب ما تصفه واشنطن بـ “نفوذه السياسي والاقتصادي الخبيث في جميع أنحاء العالم”.

 مجموعة فاغنر تحت المجهر الغربي

بدأت مجموعة فاغنر العمل في سوريا عام 2015، حيث قاتلت إلى جانب القوات الموالية للحكومة، وعملت أيضا على حراسة حقول النفط. لكن المجال الأوسع لها اليوم – بعد دورها الذي انفضّت عنه في أوكرانيا – هو القارة الإفريقية. وتنشط المجموعة في ليبيا منذ 2016 وتدعم القوات الموالية للقائد العسكري خليفة حفتر. ويُعتقد أن ما يصل إلى ألف مرتزق من فاغنر شاركوا قوات حفتر في الهجوم الذي شنته على الحكومة الرسمية في طرابلس عام 2019. كما اتهم الجيش الأمريكي عام 2020 مرتزقة فاغنر بزرع ألغام أرضية وعبوات ناسفة أخرى في العاصمة الليبية طرابلس وفي محيطها.

ودعيت مجموعة فاغنر إلى جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2017 لحراسة مناجم الماس، كما وردت تقارير إعلامية تفيد بأن المجموعة تنشط كذلك في السودان، حيث تعمل على حراسة مناجم الذهب. وفي الآونة الأخيرة دُعيت مجموعة فاغنر من قبل حكومة مالي في غرب أفريقيا لتوفير الأمن ضد الجماعات الإسلامية المتشددة. وقالت وزارة الخزانة الأمريكية في عام 2020 إن مجموعة فاغنر كانت “بمثابة غطاء” في هذه البلدان لشركات التعدين المملوكة لبريغوزين، مثل إم إنفست ولوبي إنفست، وجراء ذلك فرضت عليها العقوبات.

وقد كان لوصول المجموعة إلى مالي أثر على قرار فرنسا بسحب قواتها من البلاد عام 2021، واتهمت الحكومة الفرنسية إثر هذا التعاون مع الروس مرتزقة فاغنر بارتكاب عمليات اغتصاب وسطو ضد المدنيين في جمهورية أفريقيا الوسطى، وجراء ذلك فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليهم.

في الأسابيع التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، يُعتقد أن مرتزقة مجموعة فاغنر نفذوا هجمات متبعين استراتيجية “العلم الزائف” في شرق أوكرانيا، لإعطاء روسيا ذريعة للهجوم، حسب تريسي جيرمان، أستاذة الصراعات والأمن في جامعة كينغز كوليدج بلندن.

وقد ظهرت مؤخرا رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي الروسية تُجنّد المرتزقة بدعوتهم إلى “نزهة في أوكرانيا”. لكن يبدو أن مجموعات المرتزقة باتت تذهب تحت أسماء أخرى مثل “الصقور”. وهذا الإسم قد يمثل محاولة للابتعاد عن اسم فاغنر لأن “الاسم بات ملوثا”.

مجندو المجموعة

تكبدت الشركة العسكرية الخاصة، فاغنر، خسائر فادحة في غزو موسكو واسع النطاق لأوكرانيا، حيث قادت جهودًا للاستيلاء على باخموت في إقليم دونيتسك. ومع تطور الوسائل دعت المجموعة الى تجنيد لاعبين روسيين للعمل على التدريب لقيادة طائرات بدون طيار وتجنيد لاعبي ألعاب الفيديو لتعزيز صفوفها وسط الحرب المستمرة في أوكرانيا. يجب أن يتراوح عمر المجندين بين 21 و 35 عامًا ، وأن يكونوا في حالة بدنية جيدة ولديهم معرفة جيدة بالكمبيوتر.

كانت المزايا الإضافية هي أولئك الذين لديهم خبرة في أجهزة المحاكاة باستخدام عصي التحكم ، بالإضافة إلى اللاعبين “الذين يجلسون بشكل مستقيم يلعبون لساعات”. كان فاغنر يبحث عن أولئك الذين لديهم “الرغبة في دراسة تخصصات جديدة والعمل في جميع أنحاء العالم”.

وبعد أن كانت المجموعة تعتمد على تجنيد سجناء من السجون في صفقة عرض فيها على المدانين إمكانية العفو مقابل توقيع عقد مدته ستة أشهر، أعلن بريغوجين في يناير / كانون الثاني أنه سيتوقف عن تجنيد السجناء، لكن حملة التجنيد من السجون ما زالت تنفذ من قبل وزارة الدفاع الروسية التي تقدم عفوًا مقابل الخدمة العسكرية.

التمرد

عرفت روسيا في الأيام الأخيرة توترا حادا بين مجموعة فاغنر والجيش الروسي، بل تطورت الأزمة لتصبح أزمة مع نظام بوتين برمته، إذ أعلنت “فاغنر” التمرد المسلح بسبب خلافات متراكمة مع الجيش الروسي، والاتجاه نحو موسكو العاصمة قبل العدول عن ذلك.

وقد نتجت عن هذا التمرد ردود فعل متعددة ومتوالية من نظام بوتين، ابتداء من إعلان جهاز الأمن الداخلي (FSB) فتح تحقيق جنائي مع رئيس جهاز فاغنر “يفغيني بريغوجين”، وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن التمرد المعلن خيانة للوطن، ليتم احتواء الأزمة بعد إصدار بوتين لقانون يمنع متابعة المتعاونين في الحرب ومساءلتهم جنائيا، ويظهر أن ذلك كان جزءا من عملية التفاوض التي كان الرئيس البيلاروسي وسيطا فيها.

لكن هذا الاحتواء المرحلي لأزمة كبيرة في سياق حرب تخوضها روسيا في أوكرانيا لا يعني انتهاء الأزمة التي تبدو مؤشرا على فهم الصراع الحالي بين أجنحة النظام الروسي وطبيعة الاختلاف بينها الذي قد يؤدي في أي لحظة إلى تعميق الانقسام داخل بنية النظام الذي شيده بوتين، ويجعل فترة ما بعد التمرد مفصلية في بنية السلطة داخل روسيا، وكذلك على الحرب الدائرة في أوكرانيا.

 بداية السقوط

ربما لم يكن في حسبان متابعي الحرب الروسية في أوكرانيا، والصورة التي تبدو بها روسيا في النظام الدولي، أن يظهر مشهد تقدم رتل من آليات المرتزقة كانوا أداة للنظام الروسي نفسه في عدد من تدخلاته، وهي تتوجه إلى العاصمة، أو تعلن مجموعة مرتزقة نمت وتطورت بمساعدة النظام الروسي العصيان والتمرد وتطالب برأس الجيش، إحقاقا للعدالة حسب قول زعيم المجموعة، وذلك بسبب خلافات تعود إلى السيطرة على مدينة سوليدار في يناير/كانون الثاني الماضي (2023)، ثم لاحقا بمدينة باخموت حيث انتقد الجيش في عدم تقديم الدعم اللازم، وهو الخلاف الذي تعمق مع رفض رئيس مجموعة فاغنر قرار وزير الدفاع القاضي بضرورة توقيع المتطوعين في الحرب عقودا فردية مع الوزارة، الأمر الذي رفضه مرتزقة فاغنر، إلى أن حدث هجوم على قواته.

اتهام وزير الدفاع بخصوص الحرب في أوكرانيا ومساعيه لبناء مجد شخصي هو اتهام بالأساس لبوتين

ظهرت أولى كلمات بريغوجين وهو يتهم وزير الدفاع بالكذب قبل بدء الحرب في أوكرانيا، وهذا يعني أن التصور والرؤية للحرب كانا من أسباب الخلاف، وفي الواقع فإن اتهام وزير الدفاع بخصوص الحرب في أوكرانيا ومساعيه لبناء مجد شخصي هو اتهام بالأساس لبوتين؛ ذلك أن قرار الحرب كان ضمن رؤية بوتين الجيوسياسية لروسيا، كما هو واضح في المبررات التي قدمها منذ إعلانه انطلاق العملية العسكرية.

ويعني ذلك أن الدوافع التي حركت التمرد لم تكن فقط كما هو معلن، وإنما كانت جزءا من طموح يرتبط بالسلطة والحكم، أو الحضور الوازن في مربع السلطة بحجم الدور الذي قامت به مجموعته في حروب شرسة بمدينة باخموت وسوليدار، أو الأدوار التي تقوم بها لنظام بوتين في كل مناطق النزاع.

فالتحرك الذي أجهض كان يمكنه النجاح والتأثير إذا حدث انقسام في مواقف أجهزة الدولة الروسية وبنية الحكم، لكنه في الوقت نفسه قد أبرز ضعفا وهشاشة في النسق القائم، وخدش صورة أقوى الجيوش في العالم وهو يخوض حربا شرسة قرن نجاحها بحماية أمن روسيا القومي، وفشلها بتهديد وجودي لروسيا.

لقد أبرز هذا التمرد حجم التهديد الذي يحمله أمراء الحرب والمرتزقة، فهم قد يصلحون أدوات للقيام بأدوار تخدم مصالح الدول، لكنهم في الوقت ذاته، من خلال نزعة العنف التي تتلبّسهم، يتحولون إلى عوامل تفكيك وهدم للدول الراعية لهم حينما تتناقض المصالح وتختلف الأهداف، ذلك أن المرتزقة لا تحركهم النزعة الوطنية أو الدوافع الأخلاقية أو الأيديولوجية، وإنما تحركهم حسابات الربح والخسارة، يقتلون من أجل المال.

في الخلاصة، لقد انتهى يغفيني بريغوجين عندما أفشلت القيادة الروسية تمرده، وكانت ردة فعل الرئيس الأميركي على خبر مقتله “لم أفاجأ” أصدق تعبير مختصر لمأساة رجل استطاع ان يكون رمزاً للبطولة عند الشباب الروسي بعد تحقيق انتصارات لم تحققها القوى النظامية، ووجه انتقادات على الأداء العسكري الروسي.

اليوم انتهى هذا القائد من دون أن نعرف كيف، ولكن، ورغم القرار الروسي الرسمي بتنسيب أعضاء المجموعة وإلزامهم الإنخراط في مؤسسات وزارة الدفاع، لكن مهمات فاغنر التي أُعلن عن انتهائها في أوكرانيا، فإنها لم تنتهِ خارج الروسيا، ويبو أن النيجر على طريق الإستعانة بها بعد الإنقلاب الحديث العهد.