قراءات في مستقبل العالم في ضوء تقاطع خطوط السياسة بالاقتصاد والعسكرة (الجزء الثاني)

العميد م. ناجي ملاعب

الفواعل شبه العسكرية.. من ميليشيات “فاغنر” إلى الحوثي

تتجاوز الفواعل غير الحكومية إطار العمل المدني والسياسي، إلى حيز السياقات العسكرية وجماعات العنف الميليشياوي، ولنا في الحاضر القريب مثالان يؤكدان ما يمكن أن تفعله مثل تلك الحاضنات في السياقين الإقليمي والدولي على حد سواء.

المثال الأول في هذه القراءة موصول بجماعة “فاغنر” الروسية، تلك التي نشأت على يد يفغيني بريغوجين، طباخ بوتين، التي استخدمت لتحقيق أهداف عسكرية بصورة غير رسمية، وإن جاءت لتصب في صالح الكرملين في كل الأحوال.

 قدمت “فاغنر” خدماتها لكل من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسية، وتحركت في شتى بقاع الأرض لتحقيق أوامر القيصر، وقامت فكرتها الرئيس على صيانة الأهداف الاستراتيجية الروسية، وإن بطريقة غير مباشرة. 

 لم تكن “فاغنر” مجرد جماعة عنف مسلح عشوائي، بل بدت أقرب ما تكون إلى الجيوش النظامية فقد امتلكت مهارات عالية تفتقر إليها بعض جيوش الدول الاعتيادية، واتسمت بقدرتها على التخفي بين المدنيين وكلفتها المادية المنخفضة مقارنة بالجيوش النظامية، إضافة إلى توفيرها الوقاية من التبعات السياسية والقانونية للدولة التي تملكها.

 استطاعت “فاغنر” أن تلعب دوراً مؤثراً وفاعلاً خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، هذا على الداخل الجغرافي الروسي، واعتبرت بذلك ذراعاً عسكرية روسية في الداخل يرفع عن كاهل بوتين تبعات العمليات العسكرية التي تقع تحت طائلة جرائم الحرب.

تجاوز دور “فاغنر” الحدود الجغرافية لروسيا، فخرج إلى أفريقيا ليلعب دوراً مثيراً ضمن سياق لعبة الشطرنج الإدراكية بين روسيا وأميركا والصين في القارة السمراء.

 وعلى رغم وفاة بريغوجين المثيرة، التي توضح أصابع القيصر الطويلة، فإن جماعته لم تمت ولم يتوقف عملها من بعده، فقط تغير الاسم إلى “الفيلق الروسي”، الذي بدأ مباشرة عمله في ليبيا وعدد من دول أفريقيا. 

 ما ينطبق على “فاغنر” يمكن كذلك أن ينسحب على ميليشيات الحوثي، تلك الجماعة التي تجمع بين الإطارين الدوغمائي من ناحية والأيديولوجي من أخرى. وليس سراً القول إن الحوثي جماعة ميليشياوية ذات خلفية عقدية ترتبط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 تحولت هذه الجماعة غير الحكومية إلى رقم صعب في المعادلة الدولية الأممية، لا سيما بعد تهديداتها المباشرة للملاحة في منطقة البحر الأحمر. وتبدو جماعة الحوثي اليوم معضلة للولايات المتحدة بنوع خاص، ذلك أن واشنطن وإن وجهت لها بعض الضربات الجوية الخاطفة خلال الشهر الماضي، إلا أن المراقبين الدوليين العسكريين يقطعون بأنها لم تزد على “دوي من غير صوت، من بندقية فارغة”، ولهذا جاءت خسائر الجماعة شبه منعدمة.

… والأفراد الفواعل

 في مؤلفه “الطغمة الحاكمة” يعطينا المؤلف ديفيد ج روثبكوف، عالم السياسة والصحافي، عدة أمثله على الفواعل الأفراد حول العالم، وفي مقدمهم كارلوس سليم الحلو، أحد أثرى الرجال على وجه الأرض بثروة تفوق 67 مليار دولار، الذي يسيطر على 94 في المئة من خطوط الهاتف الأرضي في المكسيك وعلى 70 في المئة من سوق الإنترنت السريعة في البلاد من خلال الشركات التي يملكها. وبين عامي 2006 و2007 ازدادت ثروته بمقدار 19 مليار دولار أو بمعدل 2.2 مليون دولار في الساعة، وفي عام 2007 باتت توازي نحو ثمانية في المئة من الناتج القومي المحلي في المكسيك. من خلال شركاته مارس سلطة احتكارية فاعلة ونفوذاً سياسياً كبيراً بهدف رفع الأسعار.

 أما روبرت ميردوخ فسيطر على وسائل الإعلام التي تصل إلى مئات الملايين من الناس حول العالم. فيما إدوارد سي نيد جونسون الذي شغل منصب مدير التنفيذي لشركة “فيديلتي” الاستثمارية، وهي أكبر شركة مستثمرة للأسهم في العالم ومسؤولة عن 24 في المئة من السوق العالمية للمشاريع التقاعدية وعن أكثر من 12 في المئة من سوق الأسهم في العالم. وتدير أكثر من 3 تريليونات دولار في أصول مالية. ومن ناحية النفوذ، تسيطر “فيديلتي” على 10 في المئة في الأقل من الحصص في أكثر من 100 من كبريات شركات الولايات المتحدة.

والمثير بحسب هذا الكتاب أن الفواعل هنا لا تتوقف عند حدود المثلث الرأسمالي التقليدي “الولايات المتحدة وأوروبا واليابان”، بل تمتد إلى القطب الصاعد الصين. إذ تسيطر “وو زياو لينغ” على المال الاحتياط الأجنبي في مصرف الصين الاشتراكي وتصل قيمة هذا الاحتياط إلى أكثر من 1.4 تريليون دولار.

 وربما لم يقدر لروثكبوف أن يتوقف عند أبطال لمع نجمهم لاحقاً من أمثال مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك وجيف بيزوس.

 في الخلاصة، قد نكون بالفعل على عتبات نهاية العالم الويستفالي وصعود الفواعل غير الدولتية، مما يعني أن نظاماً عالمياً جديداً حاكماً في الطريق.

 علاوة على ذلك، خلقت هذه الاستراتيجية سابقة لاستخدام القوة العسكرية ضد الدول الراعية للإرهاب، مما أرسى الأساس للدبلوماسية القسرية المستخدمة خلال حرب الخليج وبعد 11 سبتمبر خلال الحرب على الإرهاب.

إن تجربة ريغان مع “الدول المارقة وحلفائها الإرهابيين” – وفق تعبير MATTHEW FRAKES – تقدم مخططًا أساسيًا للرئيس بايدن. وكان رد ريغان غير المؤكد على تفجير بيروت عام 1983، والذي أدى في النهاية إلى انسحاب القوات الأميركية من لبنان، سبباً في تشجيع الدول المارقة مثل إيران وإحباط حلفاء أميركا في الشرق الأوسط. لكن رده الحاسم على الأعمال الإرهابية الوقحة في ليبيا عام 1986 – والتي دمجت جميع عناصر القوة الأمريكية، بما في ذلك التدابير الدبلوماسية والاقتصادية وكذلك القوة العسكرية – أدى إلى تدهور هذا العدو من تهديد متزايد إلى مثيري شغب من الدرجة الثانية.

ويواجه بايدن لحظة مماثلة في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل. وستراقب إيران لترى ما إذا كانت الولايات المتحدة سترد بشكل حاسم. إن العواقب الواضحة، ليس فقط بالنسبة لحماس، بل وأيضاً بالنسبة لإيران، تشكل ضرورة أساسية. يجب على بايدن أن يوجه جهود الولايات المتحدة نحو تسريع العزلة الدبلوماسية والاقتصادية لكلا النظامين، وحشد دعم الحلفاء مع توضيح الرغبة في إظهار – واستخدام إذا لزم الأمر – القوة الأمريكية. القوة العسكرية ضد أي تصعيد آخر للصراع ضد إسرائيل. وهذا هو الدرس المستفاد من حرب رونالد ريجان ضد الإرهاب.

السوشيل ميديا ودور التكنولوجيا في تعميم التضليل الممنهج

 كتبت أمينة خيري في اندبندت عربية تحت عنوان الكذب وتوجهات الناخبين: يشير تقرير المخاطر العالمية لعام 2024، إلى أن المعلومات الخطأ والمضللة هي أكبر المخاطر على المدى القصير. فنحو 60 دولة ستشهد انتخابات في الأشهر القليلة المقبلة، منها 27 انتخابات برلمانية أوروبية، إضافة إلى انتخابات في الهند وتايوان والمكسيك وروسيا وأوكرانيا وجنوب أفريقيا والجزائر وتونس وبالطبع الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

وتضيف الكاتبة، يخشى مراقبون من أثر انتشار الأخبار الكاذبة وتغلغلها، لا سيما على أثير المنصات العنكبوتية، وقت الانتخابات للتأثير على توجهات الناخبين. وما جرى في انتخابات واستفتاءات رأي سابقة في عدد من الدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا من توجيه للرأي العام عبر بث أخبار كاذبة أو مضللة، جعل كثيرين يتوجسون مما يمكن للأخبار الكاذبة أن تفعله بالانتخابات المقبلة. ويضاعف من حجم القلق ما شهده الذكاء الاصطناعي من تطورات كبيرة جعلت الأخبار والمعلومات الكاذبة جزءاً متناغماً من نسيج مشهد الأخبار العام، وأداة طيعة في أيدي كثيرين.

وبحسب تقرير الأخطار العالمية 2024، جاءت النزاعات المسلحة بين الدول ضمن أكثر خمسة مخاوف تجتاح العالم حالياً، لا سيما في ظل تزايد التوترات الجيوسياسية، وتراجع المرونة الاجتماعية، ومن ثم انتشار عدوى الصراع، التي تغذيها الأخبار الكاذبة.
الأخبار الكاذبة باتت سمة من سمات الحروب والصراعات الحديثة. السودان وحربه أحد أبرز الأمثلة، حيث لطرفي القتال وجود قوي في المعركة الإعلامية، وفي القلب منها معركة الـ”سوشيل ميديا” الدائرة رحاها جنباً إلى جنب مع الحرب الجارية على الأرض. الحرب الافتراضية لا تقل ضراوة عن الحقيقية. والمحتوى المقدم للمتابعين على الـ”سوشيل ميديا” غارق في التسييس وعامر بالأخبار والتحليلات غير الدقيقة والمضللة، وذلك تزامناً مع تقلص دور الإعلام التقليدي بسبب ظروف الحرب، وهو ما يترك الأبواب مفتوحة على مصاريعها أمام “أخبار” السوشيال ميديا” باعتبارها المصدر الوحيد للأخبار

تابع