قراءات في مستقبل العالم في ضوء تقاطع خطوط السياسة بالاقتصاد والعسكرة (الجزء الأول)

العميد م. ناجي ملاعب

في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة هل أضحى عالمنا المعاصر على عتبات نظام دولي جديد، يلعب فيه الفاعلون غير الحكوميين من شركات وافراد ومجموعات دوراً مهماً يكاد يؤثر وبقوة في مقدرات شكل العالم؟ وهل انتهى عصر ما عرف بالدولة الويستفالية مرة وإلى الأبد؟

رسم صلح ويستفاليا عام 1648 ملامح الدولة العصرانية الحديثة، وبلور سماتها وملامحها، من جهة الحدود، وأرسى قواعد تعاملاتها بين الواحدة والأخرى، مما أتاح فترة طويلة من الهدوء في أوروبا، بعد أن جرى احترام متبادل بين دول القارة.

ظل هذا المفهوم قائماً لنحو أربعة قرون، إلى أن ظهر أخيراً مفهوم مغاير يعرف بـ “الفواعل غير الدولية”، التي باتت فاعلة ومؤثرة، سواء كانوا أفراداً أم جماعات، عسكريين أو سياسيين، وراء الكواليس أو أمامها، مما جعل فكرة حكم العالم تتجاوز المؤسسات الدولية الكبرى كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو حتى الحكومات المدنية التقليدية شرقاً وغرباً.

أي ملامح لهذا العالم الذي تلعب فيه هذه الفواعل هذا الدور، وما الذي ينتظر علاقات الأمم والشعوب، طالما ظهرت قوى مؤثرة يمكنها أن تغيير الأوضاع وتبدل الطباع حول الكرة الأرضية، ومن غير أن تعد دولاً مستقلة؟

العالم الذي يبدو أنه يعيش فوضى غير مسبوقة في الآونة الأخيرة، تتقاطع فيها خطوط السياسة بالاقتصاد والعسكرية بالثقافات، فمن سيتمكن من تقييم الإمكانات الهائلة لكل الثقافات. وهل يتوجب ترك الأديان تهيمن على العالم ام التفلت من القيود الدينية والإجتماعية كما يحصل اليوم، أم تسليم قيادة الإمبراطوريات للأسواق وفق تطور منظومات الذكاء الاصطناعي، أم رده إلى القوميات وصرعة غلق الحدود بينها؟

ربما يحتاج العالم في مثل هذه الأوقات، إلى شخوص بوزن جاك أتالي2، وغيره من الباحثين، حال أردنا فهم أبعاد ما يجري من تغيرات جذرية، سياسية واقتصادية، أمنية واجتماعية، في عالم يموج بتغيرات جيوبوليتيكية، مع عدم القدرة على توقع المستقبل، الذي يبدو ضبابياً في كل الأحوال.

في هذا البحث سنحاول الاستفادة من آراء خبراء ومحللين غربيين وشرقيين جهدوا في استشراف مستقبل العالم في ضوء التقدم السريع للتكنولوجيا بما فيها من وسائل التضليل وتعميم الافتراضات غير الواقعية ذات التأثير القوي على حياة البشر، وتنافس القوى العظمى على انتزاع الهيمنة الأحادية السائدة في ظل نشوء قوى وفواعل غير دولتية، وصولا الى كيفية التعامل مع غضب الطبيعة ومحاولات التفاعل مع التغيرات المناخية.

في مؤلف جاك أتالي القيم “غداً من سيحكم العالم”، يجد القارئ ذاته أمام التساؤل الذي يتردد على الألسنة بقوة في العقدين الأولين من القرن الـ21، “من الذي سيحكم العالم في العقود المقبلة، أميركا أم الصين؟” ولا يتوقف المؤلف عند هذه الحدود، بل يتجاوزها إلى بعض الأفكار التي تبدو اليوم غير واقعية، لكن من يدري ماذا سيحدث غداً.

من تلك الأسئلة، “هل يمكن أن نشهد تحالفاً أميركياً صينياً للسيطرة على بقية أرجاء العالم؟ أم ستقوم الصين بالأمر وحدها؟” والشاهد أنه إذا كان العالم قد بدأ أخيراً في فتح أعينه على الهند، ودورها المتنامي، فقد كان أتالي من أوائل من تكلموا عن الآمال والأحلام الهندية المقبلة حكماً في الطريق. ولأنه مفكر إشكالي، فقد ناقش بعمق أبعاد الدور الأوروبي الذي يحدوه الأفول أخيراً، على رغم تراث أوروبا الإنساني الذي لا يزال العالم ينهل منه.

في جوابه، يرى المفكر الفرنسي أن العالم لن يحكمه أي من الطرفين المشار إليهما، أميركا والصين، حتى وإن بقيت الولايات والصين، على ما بها من السطوة والقوة، ومهما أصبحت الصين على قدر من القوة الاقتصادية أول الأمر، وعسكرياً تالياً.

وفي رأي مايكل أوهانلون من معهد بروكينغز4،أن أميركا والصين ليستا صديقتين طبيعيتين بكل معنى الكلمة، لكن بالكاد يرجح أن تصبحا عدوين. بل إنهما متنافستين، وليسا متحاربتين في حرب باردة “. بالتأكيد، الجميع يراقب المشهد الدولي اليوم ويتبين مخاطر.

هذه العلاقة الحاسمة وفي كثير من الأحيان، آثار تعقيدات العلاقات بين الصين وحلفاء أميركا الرئيسيين في شرق آسيا. لذا، في حين أن المستقبل لا يزال بعيدا ويصعب التنبؤ به، فإن حالة الأمل حول هذه العلاقة وحول آفاق السلام بين القوى العظمى عموما في العقود المقبلة تعتمد على التوازن أكثر من اعتمادها على القوة إلى حد ما. فالبلدان كل منهما بحاجة الى الآخر، ويستفيد أحدهما من الآخر، ومرة أخرى، كلاهما ذكي بما فيه الكفاية لمعرفة ذلك.

وبجانب ما تقدم، فقد فتح أتالي الباب واسعاً لنقاشات حول دور الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود، وما يمكن أن تقوم به في أزمنة تلاشت فيها المسافات، وانطوت عبرها المسافات. ويخلص المؤلف الى التساؤل: هل هذه قراءة واقعية لعالم متعدد الأقطاب؟ ليضيف “غالب الظن أن ذلك كذلك، إذ سيصبح العالم على نحو موقت متعدد الأقطاب، يدار بواسطة عشر قوى إقليمية”.

أقوى من الدولة.. الفواعل غير الدولية

طفا أخيراً على صعيد المصطلحات المرتبطة بالعلوم السياسية، تعبير non state actors أي الممثلين غير الدوليين، الذين يمكن اعتبارهم إفرازاً عولمياً، لم يكن ليظهر على سطح الأحداث لو لم تكن هناك هذه التشابكات والتقاطعات بين دول العالم، إذ لم تعد العلاقات ثنائية أو ثلاثية، بل متعددة متداخلة الخيوط ومتشابكة الخطوط.

ولعله من المؤكد أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تنامياً غير مسبوق في أعداد هذه الفواعل وأنواعها نتيجة التطور الهائل في مجال التكنولوجيا والاتصالات، إضافة إلى التراجع في دور الدولة.

ماذا عن تعريف هذه الفواعل غير الدولية في الحال، وما المتوقع لها في المستقبل؟ ماذا عن أهم تلك الجماعات وما مآلاتها، لا سيما في عصر الفوضى الأنتروبي الذي تعيشه المسكونة وساكنوها هذه الأيام؟

تتمثل هذه الفواعل في عديد من الفئات الشائعة والمؤثرة، فمنها أقطاب الأعمال، أولئك الذين يمتلكون بشكل شخصي من الثروات ما يفوق ملكيات بعض الدول، ومنهم على سبيل المثال، بيل غيتس ووارين بافيت وجيف بيزوس وكثير من هؤلاء، إذ بات الجميع يتساءل عن الأدوار الخفية التي يقومون بها في تسيير شؤون العالم، وربما زيادة شجونه.

من هؤلاء كذلك الشركات العابرة للقارات، التي تعرف كذلك بالمتعددة الجنسيات، ويليق بها المتعدية للجنسيات، إذ كياناتها المالية الفائقة تجعلها قادرة على ترك بصماتها على دول مستقلة بل وتوجه دفتها كيفما شاء لها.

ظهرت كذلك في هذا الإطار المنظمات غير الحكومية، أو الـ NGOs، وباتت قدراتها هائلة وتتقاطع مع السيادة الدولية بل وتنتقص منها، لا سيما أن حضورها يرتبط بالمفاعيل الخاصة بالمؤسسات المالية الدولية كما الحال مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

تشمل هذه الفواعل الجماعات المسلحة لا سيما تلك التي تؤمن بالعنف، وقد عانى العالم في العقود الأخيرة صعود مجموعات إرهابية مثل “القاعدة” و”داعش” و”بوكو حرام” وغيرها، أحدثوا خسائر هائلة وتسببوا في شيوع وذيوع الذعر حول العالم.

ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر فإن عدد الجماعات المسلحة الخارجة عن السياق الدولي تبلغ في السنوات الخمس الأخيرة نحو 450 جماعة، ويعيش نحو 195 مليون شخص تحت سيطرة مثل هذه القوات غير الرسمية، سواء كانت مستقرة أو مانعة.

وفي كل الأحوال فإن مفهوم “الفواعل غير الدولية” يعد من المفاهيم التي تتسم بالغموض في مجالات العلاقات الدولية، إذ لا يتضح تعريفه وتحديده من قبل المنظمات الحكومية الدولية، ذلك أنه يعبر بوجه عام عن عناصر فاعلة منفردة ذات هياكل وموارد وطرق مختلفة في التأثير السياسي عن الكيان المؤسسي للدولة.

لعل أول ملاحظة يمكن أن تنتج من زمن الفواعل غير الحكومية تتصل بتراجع دور الحكومات الوطنية نفسها، لا سيما بعد أن صاغ الأكاديميون كلمة تعبر عن الفواعل من غير الدول، وهي “عبر الوطنية” أو Transnational تأكيداً لعدم اقتصار الحكومات في التأثير بمجال العلاقات الدولية، بل إن هناك فواعل عبر وطنية Transnational actors، ذات تأثير فعلي.

أمثلة على النماذج غير الحكومية؟

الشركات عبر الوطنية كفاعل سياسي: تعد الشركات التي تقوم على الاستيراد والتصدير شريكاً في الأنشطة الاقتصادية عبر الوطنية، وغالباً ما تعتبر التغييرات في كل من معايير الصحة والسلامة، وتنظيم مرافق الاتصالات بين الدولي والسياسات

الاقتصادية العامة المفروضة من الحكومات الأجنبية تؤثر مسارات التجارة لتلك الشركات، وعلى هذا لا تستجيب تلك الشركات بالضرورة لتطبيق تلك المعايير مع توقعهم الخسارة.

وتندرج ضمن تلك الفواعل المنظمات غير الحكومية كضاغط سياسي: هنا يمكن القول إنه لا يمكن التعرف إلى سياسات أية دولة من دون التعرف إلى الجماعات التي تضغط على الحكومة، وبذلك تعرف بـ”جماعات الضغط”، وهذه لها دور مؤثر في المجتمع المدني، ومن منظور بريطاني تعرف بأنها مجموعات المصالح المتحيزة لمجموعة تروج لقيمها وتدافع عن مصالحها مثل النقابات، بينما تطلق عليها الولايات المتحدة مصطلحات ذات دلالات أكثر معيارية، مثل: اللوبي lobby ومجموعات المصالح العامة، والتنظيمات التطوعية الخاصة.

وعن الربح الذي يجنيه عملاق صناعة التكنولوجيا الأميركية “أبل”؟ الإجابة عن هذا التساؤل تأتي مصحوبة بأرقام تتزايد، بينما تبحث عن الإجابة، فمجموع أرباحها يقدر بأكثر من 150 ألف دولار كل دقيقة و2500 دولار في الثانية الواحدة. ومن المقرر أن تكشف شركة التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة عن أرباح ضخمة هذا الأسبوع عن الأشهر الثلاثة من العام الحالي 2021 حتى نهاية مارس (آذار)، كما ستكشف عن الكيفية التي ساعد بها وباء كورونا الشركة في الابتعاد من بقية الاقتصاد.

وتعلن أبل، التي نشرت أفضل تقرير أرباح في تاريخها خلال الربع السابق، النتائج المالية التالية بعد إغلاق السوق يوم الأربعاء 28 أبريل (نيسان) 2021.

وتوقعت “وول ستريت” أرباحاً لـ “أبل” قدرها 20 مليار دولار لهذه الفترة مع مبيعات تقديرية بنحو 77 مليار دولار، وشهد عملاق التكنولوجيا الذي تبلغ قيمته السوقية 2.25 تريليون دولار، مما يجعلها الشركة الأكثر قيمة في البورصة الأميركية، زيادة في مبيعات جهاز “آيفون 12 الجديد”.

الشركات العالمية والهيمنة السلطوية

هل أضحت للشركات العالمية المتعددة الجنسيات سلطة تفوق سلطات الدولة، مما يجعل منها فاعلاً قوياً متقدماً في عالم الفواعل غير الحكومية؟

من أفضل التحليلات التي تقدم جواباً عقلانياً لهذا التساؤل، البروفيسور الفرنسي إيفان دو روي، المؤسس المشارك لموقع “كفى” ولمرصد الشركات المتعددة الجنسيات. ويبين لنا دو روي كيف أن الضخامة الاقتصادية الهائلة لهذه الشركات باتت لا تقبل الشك، وأكبر الشركات المتعددة الجنسيات وأعظمها على الصعيد الاقتصادي العالمي شركات المال والصناعة النفطية والسيارات والطاقة، التي باتت تنافس الدول.

تبدو العلامة المكملة للاسم التجاري لمتاجر “وول مارت” Walmart” المركزية الكبرى الأميركية، هي أنها تستخدم 2.2 مليون شخص، أي ما يناهز عدد سكان باريس، وتحقق “وول مارت” مبيعات سنوية تقدر بـ 485 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل الناتج المحلي القائم للأرجنتين أو لتايوان.

أما الموازنة المصرفية العمومية لبنك باريس الوطني “بي أن بي باريبا”، فتبلغ تريليوني يورو، أي ما يوازي الناتج المحلي القائم للبلد الذي اتخذه مقراً فيه أي فرنسا التي تحتل مرتبة القوة الاقتصادية السادسة في العالم، وهذا مع أن بنك “بي أن بي باريبا” لا يحتل سوى المرتبة الثامنة بين المصارف العالمية، أي إن ترتيبه يأتي بعد المؤسسات المالية الصينية والأميركية.

لقد باتت الشركات المتعددة الجنسيات تمارس سلطة تقريرية حقيقية لا جدال فيها، في عديد من المجالات الحساسة الحاسمة، التي تراوح ما بين تلك التي تتعلق بالحياة اليومية أو بتوازن المعمورة كلها. وهي سلطة لا يراقبها ولا يتحكم بها أحد ما خلا المساهمين. ولعل أول وأقدم تجلٍ من تجليات هذا الجبروت هو ذاك الذي يمارس على الاستخدام والحماية الاجتماعية المرتبطة به، بينها مستوى الأجور وشروط العمل والعطل والحرية النقابية.

هنا التساؤل كم من المدن أو من المناطق أو من الأقاليم تجد نفسها تحت رحمة نقل صناعة وترحيلها أو إقفال موقع؟ هذه السلطة لم تعد تمارس على مستوى قاري فحسب، بل على مستوى الكرة الأرضية كلها أيضاً.

وضمن القراءات الاستشرافية التي يقدمها أتالي، هناك نصيب واسع للولايات المتحدة، إذ يؤكد أنه خلال عام 2035، وفي نهاية معركة كبيرة أو ربما في قلب أزمة بيئية كبرى، ستنهزم الولايات المتحدة، التي ستكون إمبراطورية مهيمنة لا تزال، وذلك بواسطة عولمة السوق المالية، وستسقط أمام قوة المشاريع الخاصة، وعلى الأخص شركات التأمين.

وشأنها شأن الإمبراطوريات التي سبقتها، ستتوقف الولايات المتحدة عندئذ عن إدارة العالم، لا سيما بعد أن تتغير موازينها المالية، ومقدراتها السياسية، لكن ذلك لن يعني اختفاءها من فوق سطح البسيطة دفعة واحدة، بل ستظل القوة الرئيسة في الكوكب، ولن تحل محلها إمبراطورية أخرى، ولا أمة مهيمنة أخرى.

تابع