جيبوتي موطن القواعد العسكرية

العقيد الركن م. ظافر مراد

تحتل جيبوتي البلد العربي، موقعًا استراتيجيًا هاماً في القرن الأفريقي، فهي تُعتبر قلب هذا القرن، والموقع الأكثر أهمية فيه من الناحية الإستراتيجية.

تعتبر جيبوتي من أصغر البلدان مساحة في أفريقيا، حيث تبلغ مساحتها 23,200 كيلومتر مربع، ويُقدر عدد سكانها بحوالي مليون نسمة، وتكمن قوة جيبوتي في موقعها الإستراتيجي عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، حيث تُعد جسرًا بين أفريقيا والشرق الأوسط، وهي تطل على أضيق نقطة في مضيق باب المندب مقابل اليمن، ما يجعلها الأكثر سيطرة من الناحية الإستراتيجية والعسكرية على هذا الممر، الذي يُعد من أكثر الممرات الملاحية ازدحامًا في العالم، ويستضيف هذا البلد على الرغم من صغر مساحته، قواعد عسكرية لكل من الصين وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة، إضافةً إلى تواجد ظرفي لقواتٍ تابعة لعدد آخر من البلدان دعمًا للجهود الدولية لمكافحة القرصنة، وتستفيد جيبوتي من إستضافة هذه القواعد عن طريق بدل مادي تتقاضاه سنويًا، ويشكل جزءًا هامًا من دخلها القومي.

على الرغم من أهمية الموقع الإستراتيجي لهذا البلد العربي، نلاحظ أنه لا يدخل في إستراتيجيات الدول العربية لنشر القوات والقواعد، بهدف الإستفادة من أهمية الموقع لتعزيز النفوذ واكتساب أفضليات عسكرية في البحر الأحمر وفي المنطقة، كما هو الحال مع الدول التي سبق وأقامت قواعد عسكرية لها هناك، وهنا يُطرح سؤال هام، لماذا إهمال هذا البلد الإستراتيجي وعدم التعامل معه من منظور الأمن القومي العربي؟ وكيف للدول الأجنبية أن تُدرك الأهمية الجيوستراتيجية لهذا البلد، وأن يغيب هذا الموضوع عن الفكر الإستراتيجي العربي، لا سيما في المملكة العربية السعودية ومصر؟

تعيش المنطقة حاليًا ظروف صراعات ومواجهات إقليمية وعالمية، تستوجب العمل سريعًا على ضمان المصالح الوطنية والقومية للدول العربية، وحيث أن مضيق باب المندب يشكِّل نقطة حرجة للأمن القومي العربي، فمن المفترض أن تسعى القوى العربية إلى حيازة مواقع عسكرية تجعلها قادرة على التدخل والتأثير في ضمان  مصالحها، وفي حماية تجارتها البحرية، وحماية سلاسل الإمداد والتوريد العالمية التي تمر بقناة السويس، وبغض النظر عن الموقف السعودي والمصري بعدم المشاركة في تحالف “حارس الإزدهار” الذي يهدف لحماية المرور والتجارة البحرية عبر هذا المضيق بعد تهديده من قبل الحوثيين، إلا أن هذا لا يمنع تواجد قوى وقواعد عسكرية لهما في جيبوتي، والتنسيق والتعاون مع هذا البلد، لمزيد من المنعة والقوة وتعزيز الموقف الأمني والسياسي للدول العربية في العلاقات الإقليمية والدولية.  

تشكِّل قناة السويس مصدر دخل كبير لمصر، وعليها تعتمد في جزء أساسي من دخلها القومي، أما السعودية فتقوم ببناء مشروع نيوم بكلفة عشرات مليارات الدولارات، وهو جزء من رؤية المملكة المستقبلية لما بعد 2030، كل ذلك يجعل من البحر الأحمر الذي يدخل ضمن مجالي السعودية ومصر الحيويين، منطقة هامة وحساسة جداً بالنسبة للبلدين، وهو يعتبر منطقة ضعيفة من الناحية العسكرية بسبب تقييده وحصره بمضيقين يسهل تعطيل حركة المرور فيهما، ومن هنا تبرز الحاجة لتركيز قواعد عسكرية لهما في جيبوتي، بهدف تأمين مزيداً من الأمن والحماية لمصالحهما الوطنية.

سعت دول عديدة، منها: روسيا والهند والإمارات والسعودية، لتأسيس قواعد عسكرية لها في جيبوتي، ولكن لغاية تاريخه لم يتم ذلك، وفي الحقيقة أنَّ الإزدحام العسكري الكبير في هذا البلد قد يزيد من حساسية الوضع ويرفع مستوى التوتر بين القوى المتمركزة هناك، ما ينذر بتحول جيبوتي لساحة مواجهة عسكرية، كما أن نشاطات التجسس المتبادلة بين القواعد العسكرية المختلفة مرتفعة جدًا، خاصةً بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، فالأولى لديها حوالى 4500 عسكري في قاعدتها في معسكر ليمونيه، الذي تستخدمه وفقًا لإتفاقية مع جيبوتي منذ العام 2003، والذي يضم طائرات مقاتلة طراز F-15 إضافة إلى أعداد كبيرة من المسيرات وصواريخ الدفاع الجوي، وهذه المعسكر هو المركز الرئيسي للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا AFRICOM.

ومقابل القوة الأميركية، أنشأت الصين أول قاعدة خارجية لها في آب 2017 في هذا البلد. وتهدف هذه القاعدة إلى تامين التجارة الصينية عبر البحر الأحمر وقناة السويس، إلا أن لها أهداف عسكرية أخرى تتمثَّل بتركيز نفوذ عسكري لها في أفريقيا. وكعادتها، اعتمدت الصين في جيبوتي إستراتيجية تعزيز النفوذ من خلال الإستثمار، والذي تجاوزت قيمته 4 مليارات دولار في قطاعات النقل والبنى التحتية، لا سيما في ميناء “دوراليه” الذي عملت على تطويره وتشغيله، وهو ميناء متعدد الأغراض تستفيد منه الصين بشكلٍ كبير من الناحية التجارية عبر مبادرة الحزام والطريق، وعبر إستقبال قطع من اسطولها البحري الضخم. وقد أقامت الصين في قاعدتها قرب هذا الميناء أرصفة لإستقبال السفن الحربية، ومهابط طوافات ومنشآت تحت الأرض، إضافة إلى تركيز أجهزة متطورة لتعزيز النشاطات الإستخبارية في تلك المنطقة الحساسة. ويقدر عدد الجنود الصينيين في قاعدة جيبوتي بحوالي 10 آلاف. ويُلاحظ أن كافة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي تم تركيزها في الجهة الخارجية للمضيق لجهة خليج عدن، لتكون خارج “فخ المضائق” ولمنع التضييق عليها وتقييد مناورة القوات المتمركزة فيها.

هناك العديد من الفوائد التي تؤمنها القواعد العسكرية للسعودية ومصر في جيبوتي، ونذكر على سبيل لا الحصر ما يلي:

  • حماية التجارة البحرية وحركة المرور للبلدين في البحر الأحمر.
  • تعزيز مدى ومستوى التأثير العسكري في المنطقة.
  • القدرة على التدخل السريع في كامل منطقة البحر الأحمر.
  • تأمين التحرك والمناورة للقوات البحرية والجوية خارج المجالات الإقليمية، والخروج من فخ المضائق.
  • تأمين قدرات إنتشار وتدخل كبيرة وواسعة المدى.
  • أمكانية نشر الطائرات والمسيرات، وإطالة ذراع الضربات الجوية.
  • تركيز أنظمة الرصد والمراقبة لاكتشاف التهديدات والمخاطر والتحضير للتعامل معها.
  • تعزيز قدرات البلدين في تنفيذ مهام عسكرية غير حربية (MOOTW) في كامل المنطقة.
  • إكتساب فرص للتعاون والتنسيق مع مزيد من الدول المجاورة.
  • المشاركة والتأثير في صناعة القرار في قضايا المنطقة الأمنية والإقتصادية.
  • إكتساب دور إستراتيجي على المستوى الدولي.  

تشكِّل السياسات الأمنية والعسكرية أداةً أساسية في صياغة إستراتيجيات الدول الكبرى في تعزيز نفوذها وموقعها العالمي، وينسحب هذا الشيء على الدول الطامحة لأن تنال مكانة مرموقة على المستويين الإقليمي والدولي، ولا يكفي أن تمتلك هذه الدول القدرات الإقتصادية والعسكرية، بل يجب أن تكون لديها جهازية إنتشار واسعة، ومنظومة عسكرية وسياسية تؤهلها لممارسة إستراتيجية “الضغط والإرغام” على المنافسين الآخرين، لتصبح دولة يُحسب لها حساب في المعادلات الإقليمية والدولية، وفي خضم منافسات القوى العالمية للإستحواذ والسيطرة على المواقع الإستراتيجية، تُشكِّل منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في محيط المضائق، هرمز، وباب المندب وقناة السويس، المسرح الأكثر سخونة في هذا التنافس، فهل تأخر العرب عن تعزيز موقعهم ودورهم في منطقة مرشحة لتكون مسرح صراع وتنافس للقوى الكبرى مستقبلًا، أم أن الفرص لا زالت متاحة أمامهم؟