إطلاق الحرب العالمية الثالثة

العقيد الركن م. ظافر مراد

العقيد الركن م. ظافر مراد

بعد إعلان الرئيس الأميركي بايدن أن الصين تشكل التهديد الأخطر على النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. وتكرار هذا الإعلان على لسان مساعديه. أصبحت الأمور أكثر وضوحاً، فكل ما يحدث الآن هو عملية تهيئة لإطلاق الحرب العالمية الثالثة، ونستطيع أن نؤكد أن هذه الحرب قد بدأت بمراحلها الأولى، ويتجلى ذلك في الحرب الروسية-الأوكرانية، وتقود الولايات المتحدة هذه الحرب ضد روسيا، بمشاركة الدول الغربية وحلف الناتو، وهي أيضاً تنفذ مراحلها المعقدة بحذر وببراعة، في إصرار أن تكون هي اللاعب الأقوى في مجالي الأمن والاقتصاد الدوليين. والأكثر تأثيراً في تحديد مستقبل هذا العالم. في هذا الوضع تبدو الدول الأوروبية في أضعف مواقفها من الأزمة، ويبدو واضحاً أن الولايات المتحدة تقود قرار هذه الدول في هذه المسألة، وأنها تتورط شيئاً فشيئاً في مواقف غير محسوبة النتائج، تشوبها “الأخلاقيات” الانتقائية والخلافات حول كيفية المواجهة ومداها المطلوب، وهي بذلك تعمل ضد مصلحتها الاقتصادية وقد غاب عن  بالها أن الولايات المتحدة هي أم “الواقعية السياسية” التي تضع مصلحتها الخاصة فوق أي اعتبار آخر.    

أصبحت الصين بواسطة قوتها الاقتصادية المتمادية في كافة أنحاء العالم، وقدراتها العسكرية والفضائية المتنامية، قادرة على تهديد الأحادية الأميركية وإيقاف نفوذها في مناطق متعددة

أصبحت الصين بواسطة قوتها الاقتصادية المتمادية في كافة أنحاء العالم، وقدراتها العسكرية والفضائية المتنامية، قادرة على تهديد الأحادية الأميركية وإيقاف نفوذها في مناطق متعددة، خاصة من خلال الجبهة الموحدة وغير المعلنة مع روسيا وبعض الدول الأخرى المتمردة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مثل إيران وكوريا الشمالية. فهناك إذا جبهتين كبيرتين تقود الأولى الولايات المتحدة، وتقود الصين الثانية، بالرغم من أن روسيا هي المنخرطة في هذه الحرب حالياً. إلا أن هدف أميركا وعدوها الأول هو الصين. وتشكِّل الصين التهديد الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، وهي تتطور عسكرياً بشكلٍ سريع سيؤمن لها قريباً جداً التفوق على مستوى العالم.

تبلغ ديون الولايات المتحدة للصين أكثر من 2.7 تريليون دولار، وتعتمد الصين سياسة الديون لتقوية نفوذها في دول العالم الثالث، وكذلك في أوروبا، فالصين مثلاً هي أكبر مُقرض لأفريقيا التي تصل قيمة ديونها الخارجية إلى أكثر من 400 مليار دولار، وتعيش الدول الغربية أزمة ديون غير مسبوقة فاقمتها جائحة كورونا، وتقدر ديون الولايات المتحدة حالياً حوالي 30 تريليون دولار، وكذلك الأمر بالنسبة لديون منطقة اليورو، فهي تبلغ حالياً أكثر من 11 تريليون يورو. وفي خضم هذا الواقع، يعيش صانعي القرار في الولايات المتحدة قلق كبير نتيجة تعاظم الاقتصاد الصيني وامتداد أذرعه في التجارة والاستثمار العالميين. وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية تشعر فعلياً بالتهديد الجدي لهيمنتها على الاقتصاد العالمي ولقوة عملتها الدولار.

 ومنذ العام 1945 كرَّست اتفاقية بروتون وودز منظومة نقدية عالمية ترتبط بالدولار، والذي بدوره يكون مرتبط بالذهب. إلى أن حرر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في العام 1971 عملة الدولار من التزامات التغطية بالذهب، معتبراً أن الاقتصاد الأميركي قوي لدرجة لا تحتاج فيها عملته لحماية وتغطية من هذا النوع. لم تحترم الولايات المتحدة اتفاقية بروتون وودز، ومنذ العام 1971 أصبح الدولار عملة أميركا ومشكلة باقي الدول. لأن العالم يحتاج الدولار وهو مقيد به، فالنفط مثلاً لا يُباع ولا يُشترى إلا بالدولار، وكذلك معظم المواد الأولية في العالم، وهو مطلوب جداً في التجارة العالمية. لا أحد يعرف بالضبط كم تبلغ كمية الدولارات الموجودة في العالم، ولكن من المؤكد أن هذه الكميات ليس لديها فعلياً أي تغطية بالذهب أو أي ضمانات أخرى، فقط “السمعة” القوية لهذه العملة. ويعيش الدولار حالياً تهديداً حقيقياً غير مسبوق، ومن غير الممكن إزالة هذا التهديد سوى بتغيير هائل وكبير في توازنات القوة العالمية.  

التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا

في الوقت التي تقوم به روسيا في إطلاق آلتها العسكرية الجبارة في أوكرانيا، تهيء الولايات المتحدة وحلف الناتو الظروف لتصبح هذه الحرب طويلة الأمد ومرهقة للجيش والحكومة الروسية. وبينما تتسبب العقوبات الغربية بارتفاع متسارع لأسعار الغاز والنفط، تستفيد منه روسيا بشكلٍ غير مباشر، يكون الخاسر الأكبر في هذه العقوبات الدول الأوروبية التي تبحث عن بديل لمصادر الطاقة، ولكن بأسعار تفوق بكثير العرض الروسي. ويبدو أن موسكو كانت  مستعدة لإجراءات الغرب المتوقعة تجاه حظر موارد الطاقة الروسية، وهي كانت قد باشرت بالتحضير لنقل الغاز والنفط إلى الهند والصين بكميات أكبر بكثير، وبأسعار لا مجال لمنافستها. والجدير ذكره هنا أن الروبل الروسي سجل أفضل أداء للعملات العالمية  بعد الحرب على أوكرانيا. والسبب طلب الرئيس بوتين الدفع بالروبل مقابل الغاز الروسي، ما دفع بأن تكون هذه العملة مطلوبة في سوق تجارة الطاقة.

 من الناحية العسكرية فالجميع يعرف أن روسيا ستقضم جزءاً كبيراً من أوكرانيا، وليس بمقدور أحد استرجاع هذا الجزء إلا ربما بحربٍ شاملة يتوجب أن يخوضها حلف الناتو بكامل قواه ودوله، وهذا مستبعد لأنه سيتسبب باندلاع حرب نووية مدمرة. وفي الحقيقة يبدو أن الولايات المتحدة قررت إطلاق الحرب العالمية الثالثة، والتي هي في الأساس موجهة ضد الصين، وكل ما يحدث حالياً هو جزء من مراحلها الأولية. وهذه الحرب ستكون من نوع الجيل الأخير من الحروب والذي يشمل كافة أنواع المواجهات العسكرية والسيبرانية والاقتصادية والثقافية والبيئية والإعلامية. وستتوسع الحرب العالمية الثالثة شيئاً فشيئاً في وجهها العسكري، عبر حروب متفرقة في عدة مناطق من العالم، مثل الشرق الأوسط، آسيا الوسطى والقوقاز، شمال أفريقيا…..، وهذه الحروب سترسم “خط الصدع” الجديد بين العالم الغربي والعالم الشرقي، وسيشكل هذا خط التماس بين الأيديولوجيات، ويعيد تأكيد نظرية هنتغتون التي تتحدث عن “صدام الحضارات” وبنفس الوقت سيدحض نظرية فوكوياما التي تحدثت عن “نهاية التاريخ” بتفكك الإتحاد السوفياتي. ومن وجهة نظر شخصية، أنا أؤمن بأنه مع الأيديولوجيا لا يوجد حلول ولا اتفاقات وسطية، ولا يمكن للأيديولوجيا أن تموت، فهي تعيش في “وعي” و “لا وعي” الشعوب، ويمكن إيقاظها بأبشع صورها من خلال حدث بسيط.

ستسيطر روسيا على أجزاء كبيرة من أوكرانيا، ويجب على الأوكرانيين أن يعرفوا ذلك، وسبق لروسيا  أن استولت على القرم ولم يتحرك الغرب، وكل ما يقوم به حالياً هو إطالة أمد الصراع وإرهاق روسيا، أما الصين فهي ستسيطر على تايوان، فتايوان أساساً جزءاً من الصين. والأمم المتحدة لم تعترف بها كدولة. وهناك ستنشب حرب كبيرة. وسيمتد خط الصدع الجديد شمالاً من فنلندا، مروراً بالحدود بين تركيا ودول آسيا الوسطى وصولاً إلى بحر الصين الجنوبي.

سيكون هناك عالمين منقسمين كلياً، مثلما كان الوضع قبل تفكك الاتحاد السوفياتي. وستعيش المناطق المتداخلة بين هذين العالمين أزمات وحروب دامية. وسيكون أمن الطاقة العالمي الهدف الأساسي من الحرب. وسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً  لإعادة تشكيل الخرائط النهائية لمناطق السيطرة والنفوذ. أما في ما خص منطقة الشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة، فمن المفترض أن تكون جزءاً من العالم الغربي، أما كيف سيحدث ذلك فهناك خيارين، الأول عبر رضوخ كافة دوله للقرار الأميركي، أو عبر حربٍ كبيرة ومدمرة تفرض تغييرات جذرية بالأنظمة القائمة. بالنسبة لمنطقة آسيا الوسطى والقوقاز، وهي الحديقة الخلفية لروسيا والصين، فإن التخريب في هذه الحديقة سيحقق نتائجه المثمرة لمن يريد ذلك. ستمر أوروبا بشتاءً قاسٍ وستكون الأكثر تضرراً، وسيمر العالم بأزمات اقتصادية وغذائية طويلة الأمد، وسيخضع العالم بأسره لتغييرات لا تخطر على بال احد. وهذه التغييرات ستشمل أساليب العيش والعادات الاجتماعية وتقارب ثقافات وتنافر أخرى، إنها حرب أكثر من شاملة، ستستمر وقتاً طويلاً وستصيب التفاصيل الصغيرة في حياتنا وعاداتنا. إنه سيناريو مرعب حقاً ولكن احتمالات حدوثة تزداد شيئاً فشيئاً، إن نتائج الأحداث التي تجرى حالياً، من الصعب وقفها، ومعها لا يمكن إعادة الوضع إلى ما كان عليه.