
العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري
العولمة كمصطلح كتب حوله الكثير بوجهات نظر مختلفة تضع المتلقي في حيرة وتردد بين ما يقرأه ويسمعه وما يشاهده من أحداث عصفت وتعصف بالعالم ما يجعله غير قادر على تبني رأي أو فكرة محددة تجاهها أهي خير ينتظره العالم أم أنها شر مستطير يحدق به.
الكلمة في أصلها اللغوي تعني إعطاء الشيء طابعا عالمياً وهي ترجمة لكلمة Globalization التي شاع استخدامها وهي تشير دون انتقائية الى العلاقات والروابط التي تنشأ بين الشعوب والقوميات ولا تعترف بالحدود الدولية وهذا الأمر يمس بشكل مباشر سيادة الدول ويؤثر فيها من حيث تكوينها الإحتماعي والثقافي والحضاري , وهناك من يرى أنها تعني التوجه الأمريكي المباشر للسيطرة على العالم بعبارات حالمة ومنمقة وبطرق عديدة أهمها تدفق وإنتقال المعلومات والتكنولوجيا والسلع لتكون الحياة في العالم كما لو أنها في مكان واحد أو قرية واحدة صغيرة.
أهل السياسة لهم رأيهم في العولمة فبعضهم يرى أنها تقوض الدولة الوطنية وتضعها ضمن أقاليم منظمة تنظيماً سياسياً جديداً قد يكون في صورة دولة عالمية أو حكومة عالمية موحدة , ويراها آخرون بأنها تطور طبيعي لمفهوم الدولة وأنظمة الحكم المتغيرة ولذلك سيكون لزاماً على دول العالم إتخاذ موقف من هذه الظاهرة وتحقيق قدر من التعاون المشترك للسير وفق ما تجلبه المنافع والمصالح في تكافؤ لا يلغي فيه أحد الآخر ويقبله ضمن النسيج العالمي , وهناك أيضاً من يرى العولمة في ثوب آخر ويعتبرها تعبر عن الجانب الإقتصادي للدول ما يجعل اقتصاد العالم مرتبط ببعضه خاصة وقد ظهرت مؤشرات عديدة وضعت فعلياً لأرضية تؤسس لنشوء ذلك من خلال الشركات متعددة الجنسية.
وهناك أيضاً من يعتبر العولمة صورة جديدة للهيمنة والقوة العسكرية وهذه الصورة تأتي وفق متغيرات العصر وفي أعتقادي هذا الرأي يقترب من الحقيقة والواقع وهو ما سأبني عليه مقالتي هذه حول العولمة العسكرية نشأتها تداعياتها وتأثيراتها في الأحداث العسكرية حول العالم.
نشأة العولمة.
للعولمة أصول تاريخية ضاربة في القدم فقد ظهرت عندما برزت الحاجة لإنشاء جيوش الأمبراطوريات الكبيرة التي اتجهت لإحتلال وضم أراضي وأقاليم الشعوب الأخرى طوعاً أو قسراً قادها كبار قادة العالم العسكريين من أمثال الأسكندر المقدوني الذي قام بضم دويلات اليونان ثم قام بعدها بغزو بلاد فارس والهند وأجزاء من أفريقيا والسند وضمها في امبراطورية واحدة انتشرت خلالها الثقافة اليونانية التي دمجت سياسته مع عادات ومعتقدات الشعوب لتنسج امبراطوريته المتنامية وتنتج قوة تجارية وعسكرية حكمت المتوسط والشرق الادنى لقرون , جاء بعده الرومان وحاولوا بسط سيطرتهم على العالم ونجحوا إلى حد ما في ذلك وسيطروا على البحر المتوسط واسموه بحر الروم وحكموا أجزاء كبيرة من الدول المطلة عليه , ثم جاءت الدولة العثمانية وبسطت نفوذها على مناطق واسعة والملفت أن كل تلك القوى لا تدوم طويلاً فيأتي قادة بنفس الأفكار لينهوها أو يحطموها لتنتهي وتختفي ولا شي يدوم , وهكذا توالت المحاولات التوسعية للدول الاقوى وصولاً للتوسع الاوروبي الاستعماري على حساب الدول الضعيفة , وفي المجمل نجد ان للقوة العسكرية النصيب الأكبر والدور الأكبر في عمليات التوسع وإخضاع الدول والأمم تتبعها التجارة والإقتصاد التي تنمو في إستقرار يوفره لها التفوق العسكري وحالة الأمن التي تأتي نتيجة لسيادة القوة على غيرها وهكذا ظهرت العولمة العسكرية التي أصبح لها نهج واضح في سياسات الدول الأقوى في العالم لفرض ارادتها على غيرها من الدول.
العولمة العسكرية.
تشير العولمة العسكرية إلى العمليات التي تعزز من انتشار التكنولوجيا العسكرية والأسلحة وتطور الإستراتيجيات القتالية عبر الحدود وتُسهم شبكات الإنتاج والتجارة العالمية في تصنيع ونقل المعدات والأسلحة، مما يؤثر على الأوضاع الأمنية العالمية.
ومن خلال وجود مؤسسة عسكرية تُحقق لها القوة والترهيب لفرض سلطتها وسيطرتها وتحقق أهداف العولمة الساسية تقود الولايات المتحدة الأمريكية دفة العولمة بكل اتجاهاتها وتتفرد بقيادة توجه العولمة العسكرية خاصة وأنها تعتبر نفسها مؤهلة لقيادة العالم بأسره , و يرى بعض المنظرون والمفكرون أن العولمة العسكرية لها قطبين هما الهيمنة والقوة و أنه لم يكن لهذا التوجه أن يؤسس أو ينشأ لو انه لم يرتكز على ثنائي الهيمنة والقوة وأنها لم تأتي الى حيز الوجود نتيجة لحوار الحضارات وتلاقح الثقافات والأفكار وطموحات شعوب الأرض في العيش بسلام , بل هي نتاج هيمنة القوة وظهور القطب الأوحد في السياسة العالمية وإن كانت روسيا قد بدأت تعود للمشهد بشكل خجول لتعاود دورها القيادي وتنهي حالة القطب الواحد التي سادت حينا من الزمن.
والحقيقة أن ما جاءت به العولمة في صورتها العسكرية القوية يؤكد من جديد أن الصراع الذي يسود العالم من الدول الكبرى للسيطرة عليه وتحطيم قدرات المنافسين الأقتصادية والعسكرية وافتعال الحروب اللاحقة ما بعد العالمية الثانية وصولاً إلى حملات حلف الناتو العسكرية في البوسنة والهرسك وحرب الخليج يؤكد عليها عملياً بدء عصر العولمة العسكرية التي تطورت لاحقا لتدخل بشكل أكثر وضوحاً في سياق أحداث العالم في ما يعرف بالعمليات العسكرية المشتركة والتي تعتبر الحرب في العراق و ليبيا وسوريا والحرب ضد الإرهاب من أبرزها حيث قادت الولايات المتحدة تلك الحروب بتقنيات عالية وسياسات جديدة.
نعيش اليوم عصر العولمة العسكرية وما يميزه هو معيار قوة الدول وجيوشها عدداً وعدة وما تملكه من عتاد حيث اصبحت التقنيات العالية والحديثة هي السائدة في العمليات العسكرية ومن الطبيعي أن يؤثر التفوق النوعي والتقني في الأسلحة ما يجعل النتائج محسومة سلفاً في اي صراع أقليمي أو دولي وما جرى في الحروب والنزاعات الأخيرة برهن على أن العولمة العسكرية لها تأثير مباشر على دفة الأحداث سواءاً في السياسة أو على مستوى القتال والحروب الميدانية.
يتأثر بقاء العولمة العسكرية على الساحة الدولية أو أنحسارها بالتعامل المباشر معها كسياسة موجودة على أرض الواقع الكلمة الفاعلة فيها للقوة , قد تنتهي العولمة وقد تتطور لتأخذ أشكالاً جديداً على إعتبار أن فرضية إنتهاء الحروب تبقى أمنيات لن تتحقق في عالم تحكمه الصراعات مع وجود المصالح والرغبات الإنتهازية وسيظل الأمر قائماً ما وجد الإنسان وتنامي رغباته في التوسع والسيطرة على ثروات غيره.
وقد تنهي العولمة العسكرية نفسها إذا ما تكونت تحالفات اقليمية ووطنية قوية حدت من تغول الدول العظمى التي تملك العدة والعتاد ووقفت لها بالمرصاد مستمدة قوتها من إرادة الشعوب في حقها في العيش بسلام.

العولمة العسكرية وصراع القوة والمصالح في العالم.
يمثل تفاعل العولمة العسكرية مع صراع القوة والمصالح في العالم تحدياً معقداً يتطلب رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تركز على تحقيق الاستقرار والسلام العالميين في ظل التعقيدات المتزايدة.
خاصة وأن صراع القوة والمصالح يمثل معضلة معقدة تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية. وتعكس هذه الظاهرة التفاعلات في موازين القوى على الساحة العالمية وكيفية تأثير العولمة العسكرية على تلك الموازين ومن الجوانب المهمة لهذه التفاعلات:
-رفع مستوى النزاعات، حيث تسهل توافر الأسلحة على الفاعلين غير الحكوميين والدول ذات الموارد المحدودة. ويأتي ذلك في إطار التنافس على السلطة والنفوذ، ما يُعزز من احتمالات اندلاع النزاعات الإقليمية والدولية.
– تعتبر القوى الكبرى (مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين) محور صراع القوى في سياق العولمة العسكرية وهذه الدول تتنافس لتعزيز موقفها الاستراتيجي عن طريق الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية وخلق تحالفات جديدة في مناطق جديدة لتعزيز نفوذها، مما يزعزع الاستقرار في مناطق مختلفة من العالم , ومع تزايد التهديدات الأمنية، قد تتجه الدول الأصغر نحو تعزيز التكامل الأمني والدفاعي. لتتشكل تحالفات عسكرية جديدة، وقد تتعاون الدول في مجالات الاستجابة للأزمات والتدريب المشترك، مما يؤثر على توازن القوى في العالم سيؤدي الى ظهور قوى صاعدة جديدة سيكون لها دور محوري في المستقبل.
لمواجهة التحديات المرتبطة بالعولمة العسكرية ينبغي أن تكون هناك استجابة دولية فعالة كما ينبغي على المجتمع الدولي تعزيز حوار شامل وأنظمة الرقابة على الأسلحة وتجارتها مع التركيز على تعزيز السلام والأمن العالميين.
تداعيات العولمة العسكرية على أوضاع العالم.
العولمة العسكرية ليست مجرد ظاهرة عسكرية بحتة , بل هي واقع وقوة مؤثرة له تأثيراتها الواسعة التي تشمل جميع مجالات الحياة، مما يستدعي دراسة مستمرة لفهم عواقبها في المستقبل وتلافي ما قد ينشأ عنها من تداعيات التي ستطال أوضاع العالم في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
أصبح تأثير العولمة العسكرية على العلاقات الدولية ظاهراً من خلال تغير ملامح الأمن العالمي والمساهمة في إعادة تشكيل موازين القوى بين الدول، حيث تزداد قوة الدول التي تملك تكنولوجيا عسكرية متقدمة, فيما قد تجد الدول النامية صعوبة في مواكبة هذه التطورات، مما يؤدي إلى توسع الفجوة الأمنية بين الدول.
مع الإدراك الكبير إلى أن الاعتماد المتزايد على القوة العسكرية وإمكانيات الحروب الحديثة يعزز من احتمال نشوب النزاعات. فإن العولمة العسكرية تساهم في تيسير انتقال الأسلحة، مما يزيد من فرص الحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية.
كما أن تأثير العولمة العسكرية على الاقتصاد بات أيضاً واضحاً من خلال تعزيز الإنفاق العسكري في الدول وهذا الأمر سيكون على حساب تقليص النفقات الأخرى مثل التعليم والصحة، ويزيد من التوترات الاقتصادية والاجتماعية في مختلف دول العالم التي لا تتحمل ميزانيتها الإنفاق الكبير في الجوانب العسكرية والأمنية.
ولا يمكننا بأي حال من الأحوال إستبعاد البعد الإجتماعي والثقافي الكبير للعولمة العسكرية حيث تنتشر فكرة الحرب ووسائلها عبر الثقافات المستحدثة ووسائط الإعلام الحديث بشكل أسرع بسبب انعدام الحدود وتوافر المعلومات المتاحة بشكل كبير وهذا الأمر يعزز من تطبيع ثقافة العنف ويزيد من الآثار النفسية والاجتماعية الناتجة عن الحروب.

تأثير العولمة العسكرية على الأوضاع في العالم العربي.
يتجلى تأثير العولمة العسكرية على الأوضاع في العالم العربي بشكل عام في مجموعة من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتحولات المعقدة التي يشهدها الإقليم والمنطقة العربية و فيما يلي أبرز التأثيرات:
– تساهم العولمة العسكرية في إعادة تشكيل وترتيب القوى الإقليمية وتغير موازين القوى في العالم العربي ويظهر ذلك من خلال التغيرات الكبيرة التي حصلت في موازين القوى للجيوش العربية إبان ثورات الربيع العربي والسعي لتملك تكنولوجيا عسكرية متقدمة في بعض الدول لإكتساب نفوذ أكبر مع معاناة دول أخرى في اعادة ترتيب وتنظيم جيوشها بسبب ضعفها العسكري و تزايد التحديات الأمنية التي تواجهها.
– إحتمالات تزايد وإستمرار الصراعات المسلحة في الدول التي لم تتعافي أوضاعها الداخلية تماماً، مثل سوريا وليبيا واليمن , حيث تسهم العولمة العسكرية في انتشار النزاعات الأهلية، ويتمكن الفاعلون غير الحكوميون من الوصول إلى المعدات العسكرية بسهولة أكبر في ظل عدم سيطرة الحكومات على التنظيمات المسلحة وظهور وانتشار الأفكار المتطرفة والتقنيات العسكرية بين الجماعات المسلحة ذات الطابع الإيدولوجي والديني وهذا الأمر يمثل تهديدًا كبيرًا ينبغي العمل على احتوائه.
– للعولمة العسكرية تأثيرات متباينة فالإنفاق العسكري المتزايد في اقتصاديات الدول العربية يجعها تعاني من تزايد الأعباء المالية في ظل الأزمات الاقتصادية والإنفاق المتزايد للموارد على التسلح بدلاً من التنمية الاجتماعية والاقتصادية ومع تزايد التنافس في المجال العسكري، يتم دفع بعض الدول العربية نحو تطوير صناعات دفاعية محلية وهذا يشجع على البحث عن الإستثمارات الكبيرة لمحاولة التغلب على الأوضاع الإقتصادية المتردية.
-تؤثر العولمة العسكرية أيضًا على القيم الثقافية والاجتماعية حيث تُؤثر الصور النمطية للعنف والحرب في المجتمعات على مفاهيم القوة وتروج لذلك وسائل الإعلام المختلفة مما يؤثر على الثقافة السائدة التي نشأت لدى الأجيال الجديدة وهذا الوضع يستدعي اتخاذ سياسات حكيمة للتكيف مع هذا الواقع المتغير.
مستقبل العالم في ظل العولمة العسكرية.
تأثيرات العولمة العسكرية على مستقبل الأوضاع في العالم ستطال الاستقرار الأمني والتنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي ضوء العوامل الحالية، يمكن رصد عدة سيناريوهات وتوجهات في هذا السياق ضمن التصور المستقبلي للعالم في ظل العولمة العسكرية التي أجتاحت العالم:
– من المتوقع أن تستمر النزاعات المسلحة في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في المناطق التي تعاني من هشاشة أوضاعها السياسية وضعف الأداء الحكومي. على إعتبار أنها ستتأثر بشكل مباشر بحركة تدفق الأسلحة، ما قد يؤدي إلى تفشي الصراعات الإقليمية والدولية وعدم السيطرة عليها.
– ستظهر تحالفات عسكرية جديدة نتيجة للتهديدات المشتركة و قد تتعاون الدول لتعزيز قدراتها العسكرية لمواجهة التحديات الناشئة مثل الإرهاب بكافة أشكاله أو التهديدات من دول ذات قدرات عسكرية متقدمة , ومن الممكن أن يؤدي تزايد الاعتماد على الأمن العسكري إلى زيادة التكامل بين الاقتصاديات الدفاعية العالمية.
– كما ستستمر التكنولوجيا العسكرية في التطور، مع دخول تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار في ساحات المعارك. هذا قد يغير طبيعة الحروب ويزيد من تعقيد الصراعات بالإضافة إلى تقديم أدوات جديدة لإدارة الصراعات.
– ومع تزايد الهجمات السيبرانية، ستصبح قضايا الأمن السيبراني محور اهتمام دول العالم. ستحتاج الحكومات إلى تطوير استراتيجيات فعالة لمواجهة التهديدات السيبرانية التي يمكن أن تؤثر على البنية التحتية الحيوية.
– قد تؤدي العولمة العسكرية إلى انتشار ثقافة العنف والتطرف، مع تعظيم صورة القوة في وسائل الإعلام. وهذا الوضع سيكون له تأثير مباشر على القيم الاخلاقية والاجتماعية والسياسية المتعارف عليها، مما قد يقود إلى ردود فعل اجتماعية وثقافية متباينة.
– يمكن أن تؤدي العولمة العسكرية إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، حيث تمارس الدول الكبرى نفوذًا أعلى من خلال القوة العسكرية وبالتالي تزداد التوترات بين القوى العظمى ، مما يخلق مزيجًا من التعاون والتنافس على الساحة الدولية وسيحتاج المجتمع الدولي إلى العمل بشكل جماعي لاستعادة و تعزيز التعاون والتنمية، ومع كل ذلك ستحمل العولمة العسكرية في طياتها مخاطر جسيمة من صراع القوة والمصالح تتطلب تفكيرًا مدروسًا واستجابات سياسية فعالة.