سامي اورفلي
على مدار العشر سنوات الماضية، تربّعت بكين على عرش القوة الرئيسة في بحر الصين الجنوبي بفضل توسُّعها في المنطقة، مما تسبَّب في توتُّر في العلاقات مع دول جنوب شرق آسيا والولايات المتحدة.
هذا ويُعَدُّ بحر الصين الجنوبي منطقة استراتيجية مهمة وطريقاً تجارياً رئيساً في العالم، لاحتوائه على موارد طبيعية قيِّمة مثل النفط والغاز وثروات سمكية، بالإضافة إلى الجزر والمراكز الاستراتيجية.
وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، يمر نحو 80% من واردات النفط الصينية عبر مضيق “ملقا” في البحر الصين الجنوبي. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ ثلثي إمدادات الطاقة لكوريا الجنوبية و60% من إمدادات الطاقة لليابان وتايوان تعتمدان على هذا الممر المائي الحيوي.
الصين والقواعد العسكرية في بحر الصين الجنوبي
فيما يتعلَّق بالقواعد العسكرية، فقد بنت الصين جزرًا اصطناعية وتوسَّعت في المنطقة، ما أثار قلق دول جنوب شرق آسيا مثل بروناي وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام، اللاتي تدّعي أنّ بعض الجزر والمراكز في المنطقة هي جزء من أراضيها.
لقد نشأت في بحر الصين الجنوبي بؤرٌ استيطانية على مجموعتين من الجزر؛ جزر “باراسيل” القريبة من البر الرئيس، وجزر “سبراتلي” الأبعد.
شهدت جزر “باراسيل”، التي تقع في الركن الشمالي الغربي من بحر الصين الجنوبي وتتنازع عليها فيتنام والصين وتايوان، تطويرًا حيث استمرت الصين في نقل المزيد من المعدات العسكرية إليها. أما جزر “سبراتلي” فتقع في الركن الجنوبي الشرقي للبحر، وتتنازع عليها كلّ من الصين وتايوان وفيتنام، كما تطالب ماليزيا والفلبين بجزء منها.
تُستخدم هذه الجزر الاصطناعية لأغراض مختلفة، منها الصيد وخفر السواحل والنقل البحري وحتى التسليح، وتحتوي على مطارات ومدارج بطول 3000 متر، وأرصفة بحرية، وصوامع للصواريخ، وحظائر ومخابئ ذخيرة، ومواقع رادار وأجهزة استشعار تتيح للجيش الصيني مراقبة المنطقة بشكل كامل.
تضم “سبراتلي” جزراً اصطناعية عديدة، بما في ذلك مواقع كبيرة تسهِّل عمل القوارب وخفر السواحل والقوات البحرية وتحتوي على مطارات وصواريخ أرض-جو وصواريخ مضادة للسفن ورادارات وأجهزة استشعار، بما في ذلك Mischief Reef وFiery Cross Reef و Subi Reef، والتي أصبحت تسهل سيطرة الصين على المنطقة.
منذ حوالي عقد من الزمن، وفي حين كان الجيش الأمريكي منخرطاً في الصراعات في الشرق الأوسط وأفغانستان عملت الصين على زيادة سيطرتها على جزر “سبراتلي”، مما أتاح الفرصة للصين لبسط نفوذها في بحر الصين الجنوبي وزيادة تواجدها العسكري في المنطقة.
سعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى تعزيز التعاون مع الصين في العديد من الملفات، لا سيّما الاتفاق النووي الإيراني والعمل على الحد من التوترات النووية في كوريا الشمالية، ولكنها لم تنظر إلى هذا التحدي بالقدر نفسه من الجدية التي وجهتها للتحديات الأخرى.
بدايةً، كان العديد من المسؤولين الأمريكيين يعارضون وجود القواعد الصينية على الجزر مع استخفافهم بها، حيث كانوا يعتقدون أنه يمكن لصواريخ “توماهوك” تدمير هذه القواعد. ومع تقدم الوقت، أدركوا أن الصينيين يحاولون بكل جدية تحقيق أهدافهم العسكرية والاستراتيجية في المنطقة، وأصبح من الصعب جدًا على الولايات المتحدة التعامل مع هذه القواعد بدون إحداث تداعيات خطيرة.
والجدير بالذّكر أنّ الرئيس الصيني شي جين بينج، قد تعهد خلال زيارة للبيت الأبيض في سبتمبر/ أيلول 2015، بعدم “عسكرة” الجزر الاصطناعية، معتبراً أن هذه النشاطات لا تستهدف أي دولة أو تؤثر عليها.
وفي عام 2019، اتهم الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الصين بالتراجع عن هذه الالتزامات، مشيرًا إلى أن الصين نشرت مدارج بطول 3 آلاف متر، ومرافق لتخزين الذخيرة، ونظماً دفاعية وطائرات على الجزر الاصطناعية.
تطور البحرية الصينية
تتسابق الصين والولايات المتحدة في سباق السلاح والقوة العسكرية، وتحتل الصين حاليًا المرتبة الثانية في العالم في الإنفاق العسكري، والذي بلغ 225 مليار دولار عام 2023 بزيادة بلغت نسبتها 7.2%. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تتهم الصين بأن إنفاقها العسكري الفعلي يتجاوز هذا الرقم المعلن بنسبة كبيرة.
تمتلك البحرية الصينية أكبر عدد من الوحدات البحرية في العالم، متفوّقةً عسكرياً بذلك على العديد من الدول الإقليمية والعالمية. ومما لا شكّ فيه أنّ الرئيس الصيني الحالي يولي الأولوية لتطوير البحرية الصينية، فقد أطلقت البحرية الصينية منذ عام 2014 عددًا كبيرًا من الغواصات، والسفن الحربية، والسفن البرمائية، والوحدات العسكرية المختصة في الإِغاثة، حيث يفوق العدد الإجمالي للسفن الصينية تلك التي تخدم حاليًا في البحرية الألمانية، والبحرية الهندية، والبحرية الإسبانية، والبحرية التايوانية، والبحرية البريطانية.
تمتلك الصين حالياً 6 غواصات نووية، و48 غواصة تكتيكية تقليدية، و80 مدمرة وفرقاطة، بالإضافة إلى 209 سفناً قتالية ساحلية، هذا ويخدم حوالي 250 ألف جندي في القوات البحرية الصينية.
من جهةٍ أخرى، يُقر مركز التقييمات الاستراتيجية والميزانية الأمريكي CSBA بأن تطور البحرية الصينية يتسارع بوتيرة كبيرة وغير متوقعة، كما أنه يمكن لجيش التحرير الشعبي الصيني إدخال عدد كبير من السفن الحربية إلى الخدمة أكثر مما كان متوقعًا. ويتوقع أن تكون للبحرية الصينية 10 غواصات للصواريخ الباليستية و5 حاملات طائرات على الأقل بحلول العام 2030.
تحذر التقارير العسكرية والاستخباراتية العديد من الدول الغربية من تزايد النفوذ العسكري الصيني. وفي ظل الخلافات الجيوسياسية والتجارية المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى، فإن الاهتمام بالتطورات العسكرية الصينية يزداد يوماً بعد يوم. مما حفّز الكثيرين من التطلع إلى تحقيق توازن في النفوذ العسكري بين الصين والولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى للحفاظ على الاستقرار الإقليمي والدولي وتجنب أي تصعيد عسكري قد يؤدي إلى نزاعات مدمرة.
تحدي الصين للهيمنة الأمريكية
تمكنت الصين من تحقيق هيمنتها العسكرية الإقليمية عبر الاستفادة من قدراتها الدفاعية، وذلك بشكل أكبر في بحريها الشرقي والجنوبي. وقد كانت الصين جريئة في تحدّيها لوجود القوات العسكرية الأمريكية في تلك المناطق.
وفي المقابل، تساعد الصين على دعم النظام الكوري الشمالي لإبقاء القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية بعيدة عن حدودها.
تمثل تحدّيات الصين للهيمنة الأمريكية في المنطقة تهديدًا لحلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان والفلبين وتايوان. كما أن العمليات التجارية العالمية معرضة للخطر، وخاصة عمليات شحن أشباه الموصلات المتقدمة التي تُنتج تايوان 66% منها عالمياً.
في الوقت الحالي، تواجه الصين والولايات المتحدة توترات بسبب التجارة والتكنولوجيا وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى الخلافات حول بحر الصين الجنوبي. ويبدو أن التوترات بين البلدين في المنطقة لم تقل، فقد قامت الصين بزيادة تواجدها العسكري في الجزر الاصطناعية، فيما أجرت الولايات المتحدة عدة دوريات بحرية قرب المنطقة، ما يعكس تصاعد حدّة التوتر بين البلدين.
تسعى بعض الدول في جنوب شرق آسيا عن الحاجة إلى إيجاد حل سلمي للنزاعات المتعلقة ببحر الصين الجنوبي، والتي تشمل الصراعات المتعلقة بالسيادة والموارد والأمن. وتشجع هذه الدول على إجراء محادثات ثلاثية مع الصين والولايات المتحدة، في محاولة للتهدئة من وتيرة التوتر في المنطقة.
ويُتوقع أن يستمر التوتر في بحر الصين الجنوبي لفترة طويلة، حتى في ظل محاولات بعض الدول لإيجاد حلول سلمية، إذ لا يزال الصراع على الموارد والنفوذ والتأثير القضية الرئيسة في المنطقة.
محاولات الولايات المتحدة لإضعاف الصين
قامت واشنطن، بالتعاون مع حلفائها في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادي، بعدة إجراءات أمنية عسكرية بهدف احتواء الصين. ومن بين هذه الإجراءات، اتفاق “أوكوس” AUKUS الأمني الذي تم الإعلان عنه في سبتمبر/ أيلول 2021.
يتضمن هذا الاتفاق وجود شراكة أمنية بحرية ما بين أستراليا وإنجلترا وأمريكا، ويسعى إلى تزويد أستراليا بالتكنولوجيا الأمريكية لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، لتمكينها من مراقبة التحركات البحرية الصينية في جنوب شرق آسيا. ولقد اعترضت الصين على هذا الاتفاق، كونه ينتهك معاهدة عدم الانتشار النووي.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل واشنطن على إنجاح حوار أمني رباعي يشمل الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، والمعروف باسم “تحالف كواد” Quad.
وفي مقابلة للخبير الاستراتيجي العميد “ناجي ملاعب” مع موقع “سكاي نيوز عربية”، عرض فيها للجهود التي تقوم بها الولايات المتحدة بهدف إضعاف الصين وللحفاظ على هيمنتها على المحيطين الهندي والهادئ. ويشير العميد ملاعب إلى وجود اتجاهين رئيسين لهذه الجهود، الأول هو تشكيل اتحادات عسكرية لدول المنطقة لمواجهة الصين، والثاني هو السبيل الدبلوماسي وإقامة “سلام آسيوي” مع الصين.
ومع ذلك، يلاحظ العميد ملاعب صعوبة توجيه تحدٍّ مباشر للصين في المنطقة أو الدخول في صراع معها، ويشير إلى أن النفوذ الصيني سيبقى أقوى من النفوذ الأميركي.
سباق التسلح في مواجهة الصين
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، فإنّ الصين التي صعدت لتصبح قوة عسكرية عظمى، تحفّز دولاً مثل الهند وفيتنام وسنغافورة على إنفاق المزيد لشراء الأسلحة ولتحديثها، وتجعل دولاً كاليابان مثلاً، التي قامت مؤخراً بشراء طائرة “إف-35” بمليارات الدولارات من واشنطن، تقرّر زيادة الإنفاق العسكري لها، وضخ القوة في عروق جيشها الذي تبنَّى التوجه السلمي وعدم العسكرة.
وعليه، يبدو أن استراتيجية “الهجوم الوقائي” التي تنوي اليابان تبنيها تركز على تحسين قدراتها الدفاعية والهجومية بشكل يمكنها من التصدي لأي تهديدات محتملة، وهو ما يتطلب زيادة الإنفاق على الجيش وشراء المعدات الحديثة بحوالي 300 مليار دولار، عبر شراء أنظمة صواريخ قصيرة وبعيدة المدى، وغيرها من الأسلحة الهجومية، بما في ذلك أنظمة الصواريخ والأسلحة الهجومية الأخرى.