إنفجارات البيجر … هجوم تقني وخرق أمني  

العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري

الحرب تتغير وهذه المرة أختلفت الأحداث كلياً لتظهر بصمات العدو الإسرائيلي الذي غير في آلياته وتكتيكاته بصورة مفاجئة في عملية قوية إذ لم يكن التوغل برياً بالمدرعات والمشاة وليس هجوماً بالطيران المقاتل والغارات الجوية ولا بهجوم الزوارق البحرية , كان هجوماً مربكاً وغير مسبوق امتزجت فيه التقنيات الحديثة بعنصر الإختراق الأمني بحيث استطاع القيام بعملية تفجير واسعة ودقيقة للغاية أستهدفت عناصر حزب الله اللبناني المزودين باجهزة النداء ما يعرف بالبيجر وأجهزة الإتصال اللاسلكي في مختلف مواقعهم في ضربة مفاجئة.

الحدث بدأ بانفجارات عديدة في حوالي الساعة 3:30 بالتوقيت المحلي يوم الثلاثاء ، وقعت في مناطق متفرقة في لبنان بما في ذلك الضاحية الجنوبية لبيروت وكانت متتالية ومتزامنة ليتبين أن مصدرها أجهزة البيجر والاجهزة اللاسلكية من نوع icom v82 في ضربة موجعة وغير متوقعة لعناصر الحزب وقيادته.

البيجر هو جهاز إلكتروني صغير للإتصالات يسهل حمله ويستخدم لاستقبال الرسائل القصيرة أو رقم الشخص الذي يحاول الاتصال بالجهاز وتتمتع أجهزة النداء (البيجر) ببعض المزايا والعيوب فيما يتعلق بالخصوصية مقارنة بالهواتف المحمولة.

ونظرًا لأن جهاز النداء أحادي الاتجاه هو جهاز استقبال فقط (لا يرسل أي معلومات إلى محطة القاعدة)، فلا يمكن تتبع موقعه وكان يُستخدم بشكل شائع قبل انتشار الهواتف المحمولة لإرسال واستقبال رسائل نصية قصيرة أو تنبيهات , وقد يكون ذلك هو ما دفع الحزب لإستخدامه في اتصالاته بين عناصره حيث يعتقد بأنه كان آمنا نسبيا لحامله من حيث الإختراق والتصنت عن غيره من أجهزة الإتصال الحديثة.

العملية معقدة ودقيقة جداً ولا تتوفر عنها حتى الآن أية معلومات فقد جمعت بين أحدث ما توصلت اليه التقنية في التفجيرات عن بعد وهي تعد من أكبر عمليات الإختراق التقنية في العالم على إعتبار أنها لم تعطل فقط عنصرًا رئيسيًا في منظومة اتصالات الحزب ، بل كشفت عن هوية الأعضاء، وقتلت وجرحت المئات منهم في ضربة واحدة , خاصة وأن حزب الله يعتمد في تنظيمه وعملياته على السرية التي كانت من ابرز سمات نجاح عملياته ويوفر حماية لخطوط اتصالاته بالاعتماد على شبكة اتصالات بدائية تعتمد على أجهزة النداء وخطوط داخلية من الألياف الضوئية , مع تخليه عن استخدام أجهزة الاتصال عالية التقنية لتجنب اختراقها ببرامج التجسس على الإتصالات الإسرائيلية والأمريكية.

من خلال الصور التي أنتشرت في وسائل الأعلام تبين أن أجهزة البيجر التي استخدمت في العملية كانت من ضمن الطلبية التي تلقتها شركة “غولد أبولو” كانت تتضمن حوالي خمسة آلاف جهاز، معظمها من طراز “Apollo Gold “AR-924 ويبدو أن الشحنة المملوكة لحزب الله والتي استوردت في الأشهر الأخيرة تعرضت لعملية تطلبت قدراً هائلاً من المهارة التي لا تستطيع أي دولة في العالم، وربما حتى الولايات المتحدة، تحقيقها حيث زرعت بطاريات مفخخة أو شرائح من المواد المتفجرة عالية القوة أو ماشابه على تلك الأجهزة المستوردة والتي وزعت على عناصر الحزب.

ومن المحتمل أن هذه المادة زرعت مسبقا قرب أو داخل بطاريات أجهزة البيجر التايوانية الصنع ربما خلال عملية الإنتاج وربما خلال سلسلة التوريد إلى أن تلقاها حزب الله وأنفجرت بشكل كامل عندما وصلت إليها رسالة مشفرة أدت إلى تفعيل المواد المتفجرة بشكل متزامن. 

وضمن تقارير صحفية حول الحدث أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” أن أجهزة النداء اللاسلكية “بيجر” التي انفجرت بأيدي عناصر حزب الله بشكل متزامن يوم الثلاثاء، تم تصنيعها في تايوان وقامت إسرائيل بتفخيخها قبل وصولها إلى لبنان. 

أستخدمت في العملية مادة متفجرة بلاستيكية هي RDX (سيكلونايت), أو مادة PETN أو خليط من الاثنين معاً، وهي من أكثر المواد الانفجارية قوة , ولها سرعة انفجار عالية ويمكن لكميات صغيرة منها التشظي وإحداث تفجير قاتل ومؤثر, مما زاد من خطورة نتائجها على الأفراد.

كان تأثير هذا الهجوم واسع النطاق، حيث أعلن عن مقتل أثني عشر شخصاً حتى الآن وأصابة أكثر من 2800 آخرون، من بينهم 200 في حالة حرجة وقد شمل بعض الضحايا المدنيين غير المنتمين لحزب الله تواجدوا لحظة التفجير في أماكن قريبة من عناصر الحزب.

وفي خطوة سريعة لتلافي مزيداً من الإصابات أبلغ الحزب جميع عناصره بالتخلي فورا عن تلك الأجهزة كإجراء إحترازي لتجنب ما قد يحدث مستقبلاً خاصة وأن الإختراق قد يكون أكبر من ذلك.

وقامت شركة غولد أبولو التايوانية المصنعة للأجهزة بنفي تورطها في تلك القضية، موضحة أن أجهزة اتصالات حزب الله المنفجرة ليست من صناعتها وأقرت في الوقت ذاته أن الأجهزة تحمل علامتها التجارية وصنعت بأوروبا.

الهجوم كشف عن إختراق أمني كبير في حزب الله وأجهزة الدولة اللبنانية بشكل عام لأن الوصول الى شحنة أجهزة بالآف وتفخيخها ليس بالأمر السهل خاصة وأن الحزب ينوي استخدامها للإفلات من عمليات المراقبة والتنصت التي يتعرض لها من عدوه اللدود وهنا تبرز العديد من التساؤلات حول أهمية التقيد بتعليمات الأمن و تأمين أنظمة المخابرة والأتصالات للحزب التي تعتبر العمود الفقري للتنظيم وعن سلسلة التوريد اللوجستي التي تتعامل بمهنية وسرية مع التخطيط والتنظيم والتنفيذ والرقابة على جميع العمليات المرتبطة بالتوريد والتوزيع والنقل وتخزين المواد والمنتجات التي تبين انها مخترقة وأفضل وسيلة لتلافي ذلك معالجة هذا الاختراق بسرعة وسرية.

ونشرت وسائل الإعلام خطابا للسيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب وهو يحذر من إستخدام الهواتف المحمولة وأجهزة الإتصالات ويعتبرها عميلاً قاتلاً للعدو ومنذ أكتوبر 2023 نجحت إسرائيل في تنفيذ عمليات اغتيال ناجحة طالت قيادات عسكرية في جنوب لبنان، وهذه العمليات نفذت بناء على معلومات استخباراتية دقيقة، وعكست أن هناك اختراق واسع للحزب يبدو أنه لم تكن هناك إجراءات حاسمة لمنعه مستقبلاً.

ويبقى الهجوم هو الحدث الأبرز والأكثر جرأة لضرب عناصر حزب الله في معقلهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر كما أنه يعتبر نقطة تحول في الصراع بين حزب الله وإسرائيل، وسيعيد تشكيل الديناميكيات الأمنية في المنطقة وبحسب تصريحات الحزب سيكون رد الحزب إنتقاميا على هجوم العدو المباغت.