إسرائيل ودبلوماسية الأسلحة والتكنولوجيا الفائقة

أ.د. غادة محمد عامر

كنت دائما أسال نفسي لماذا اليهود برغم أن عدد سكانهم  -حسب ما نشرته صحيفة يديعوت أحرنوت وحسب إحصائيات الوكالة اليهودية عام 2020م- يصل إلى نحو 16 مليون نسمة، يتركزون في العالم في 17 دولة، يشكلون قوة لا يستهان بها ولها تأثير كبير في معظم العالم وخاصة الكبرى منها، ولماذا يتحكمون اليوم في أغلب أنظمة العالم وموارده؟ وما كان يحيرني هو إن إسرائيل لم تكن يوماً كياناً تقليدياً ذا خصائصَ مُشابهةٍ لغيرها من الدول. فنشأتها المُصطنعة في بيئةٍ عِدائيةٍ ينخرطُ جميعُ مواطنيها في الجيش جعلت منها كيانا مختلف عن العالم أجمع. لكني أعتقد أنه استجابةً لظروف نشأتها الاستثنائية، سارت إسرائيل في طريق تبني عقيدة التقدُّمِ والتفوُّق التكنولوجيِّ بكلّ ما أوتيَت من قوّةٍ؛ فمُنذُ وقتٍ مُبكّرٍ أدركت أهمية العلم وخلق التكنولوجيا. وكانت حرب أكتوبر 1973 نقطة تحول رئيسة في تطور صناعة الأسلحة الإسرائيلية، حيث أدركت تل أبيب بعد الهزيمة -التـي كانت أكبر كارثة قومية تتعرض لها منذ نشأتها- استحالة الاعتماد الكلي على افراد الجيش الإسرائيلي أو المعدات التقليدية في تأمين بقائها، وأن عليها بناء ترسانة من الأسلحة المتطورة التـي تضمن تفوقها النوعي على جيرانها من العرب الذين يتفوقون عليها في القوة البشرية والعقيدة القتالية العالية والثروات الموروثة كالبترول. وبالتالي أصبح الابتكار والاعتماد على الذات ضرورة للبقاء، فبدأت إسرائيل منذ منتصف السبعينيات تطوير نظم تسليح بامتلاك أدوات تكنولوجية متطورة. فطورت طائرة “الكافير” بناء على “الميراج” الفرنسية، بعد سرقة أسرارها من عميل سويسري، وظهرت للمرة الأولى دبابة “الميركافا”، وصواريخ “غابريال” البحرية، وبنادق “العوزي”. كما قام جيش الدفاع الإسرائيلي بإطلاق برنامج “تالبيوت” عام 1979، والذي يستهدف انتقاء أهم العقول الإسرائيلية في مجال الرياضيات وعلوم الفيزياء والفضاء وتجنيدها لتطوير التكنولوجيا اللازمة للصناعات العسكرية في قطاعات الطيران والمدفعية والمشاة والاستخبارات. وما عزّز هذا النموّ التكنولوجي المتصاعد وبلوغُ الكيان الصهيونيِّ هذه المرتبة العالية يعودُ إلى استمرار نموِّ الاقتصاد الإسرائيلي بزخمٍ عالٍ. ومع الأسف في اتّجاهٍ آخرَ كان دولنا العربية تشهدُ تراجعاً علميا وتكنولوجيا. إن ما تحقق للكيان الإسرائيلي من إنه أصبح قوة عالمية مؤثرة، كان نتيجة لاستراتيجيته التي تبناها وحدد فيها أهداف البحث العلمي في شتى مجالات المعرفة، مكنته من أن ينتقل من كيان استيطاني يعتمد على الزراعة إلى دولة ترتكز بنيتها العسكرية والصناعية على الاقتصاد التكنولوجي والابتكار المحلي.

وبالتالي كانت الاجابة الواضحة لسؤالي الذي كان يحيرني منذ فترة، هي أن اليهود وصلوا لما وصلوا إليه لأنهم تبنوا دعم البحث العلمي والابتكار والتميز المعرفي، وقاموا باعتماده دستورا لأبنائهم، بل وأصبح لديهم كأحد أهم شعائر دينهم. لقد امتلك اليهود العالم بالعلم وليس بالسلاح ولا بعدد سكانهم ولا بالثروات الموروثة، لأنهم عن طريق البحث العلمي استشرفوا المستقبل وجعلوا هدف الشعب بأكمله هو التميز التكنولوجي والمعرفي،  وأصبح لديهم  القدرة على خلق المعرفة واكتشافها واختراعها، ثم التفضل بنشرها للغير مع الاحتفاظ بحق المعرفة مقابل القبول بهذا الكيان المغتصب. وبامتلاك المعرفة الحديثة وخلق الابتكارات استطاعوا ان يمتلكوا معظم الاسواق والمصارف العالمية، حتى قال عنهم القس جسى جاكسون: “إن اليهود لم يعودوا يستعملون الرصاص والحبال لقتل البشر ولكنهم يستخدمون الاقتصاد التكنولوجي والبنوك العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لهذا الغرض، لقد أصبح  اليهود سادة العالم في الاقتصاد والطب والتقنية والإعلام وايضا الفن”.

لكن ما يخيفني هو مقولة أنّ إسرائيل ستلتهمُ الأسواقَ العربيةَ مُستقبلاً، وهي تعملُ منذُ أوقاتٍ مُبكّرةٍ على أن تكون القوّةُ التكنولوجية العالميةُ في المنطقة. إنّ التطوّرَ المتسارِع لصناعة التكنولوجيا العالمية في إسرائيل وعملها على جذْبِ رؤوس الأموال الأجنبية ودأَبِها على توسيعِ أسواقِ مُنتجاتِها، يعني كلّ ذلك أنّ المواجهة العالمية الاقتصادية لزمن السِّلم ستكون أصعبَ بكثيرٍ منها في زمنِ الحرب. فلا تدر مبيعات الأسلحة والتكنولوجيا المرتبطة بها مجرد أرباح مادية كبيرة فقط، بل تساهم في بناء تحالفات بين الدول المتعاقدة، وكثيرًا ما كانت مصادر التسلح أكبر مؤشر على التحالف بين الدول. تدور دبلوماسية الأسلحة التكنولوجية حول هذا المعنـى، حيث تتجه الدول إلى تحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية من تصدير الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة وعمليات التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية. تعتبر هذه الدبلوماسية هي أداة إسرائيل الأقوى في بناء علاقات قوية مع كثير من القوى الدولية، وتلك التـي تبعد عن نطاق تأثيرها المباشر في الشرق الأوسط؛ أي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وللأسف مع الدول العربية الان. بل إن جزءًا أساسيًّا من تحالف إسرائيل مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة أصبح قائمًا على الإفادة من التكنولوجيا المتطورة التـي تتفوق فيها إسرائيل. فوفقًا لتقرير معهد ستوكهولم للسلام الدولي SIPRI عن تجارة الأسلحة العالمية في الفترة ٢٠١٥-٢٠١٩، تحتل إسرائيل الدولة ذات الثمانية ملايين نسمة المرتبة الثامنة في العالم من حيث تصدير السلاح، حيث ساهمت ب٣٪ من مجمل صادرات الأسلحة العالمية بحيث أصبح حجم صادرات الأسلحة الإسرائيلية هو الأعلى في تاريخها. ولا يعنـي هذا أن إسرائيل قد وصلت لدرجة الاكتفاء من التسلح، فهي ما زالت تستورد تكنولوجيات دفاعية معينة من الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا. ومع ذلك، تبقى إسرائيل هي الأولى في العالم من حيث نسبة تصدير السلاح بالنسبة للناتج القومي، وأن الفترة الأخيرة قد شهدت طفرة في تصدير إسرائيل لنظم المراقبة الإلكترونية والتحكم عن بعد (ما يعني اختراق كامل للدول المستوردة)، وشاركت بتوسع في تدريب أجهزة الشرطة، وتوفير تكتيكات قمع التمرد في الكثير من الدول حتى الدول التي كانت تنتقدها مثل الصين والهند وروسيا. فعلى العكس من أية دولة أخرى، تحولت التكنولوجيا الإسرائيلية من مجرد أداة للتنمية والدفاع، لآلية ضرورية لتحقيق مكاسب دبلوماسية، وأداة للضغط وربما لتعديل مواقف القوى الدولية، والأهم من هذا تحقيق استراتيجية الالتفاف حول الجوار العربي.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*