الأمن السيبراني الاجتماعي مجال ناشئ ومهم للأمن القومي

الأمن السيبراني الاجتماعي مجال ناشئ ومهم للأمن القومي
الأمن السيبراني الاجتماعي مجال ناشئ ومهم للأمن القومي

أ.د. غادة عامر
عميد كلية الهندسة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا

لقد بزغ القرن العشرون بأكثر الحروب تناسقًا وحركية في تاريخ الحروب، في حين أن القرن الحادي والعشرين، الذي انطلق من عقود من المنافسة في الحرب الباردة، قد بزغ فجرًا بالعديد من الصراعات غير المتكافئة وغير اللامتماثلة وغير الحركية. خلال الحرب العالمية الأولى، ضحت الدول بمئات الآلاف من الأرواح لمجرد ياردات من التضاريس المادية. اليوم، يقوم العديد من الجهات الفاعلة بتطوير تصميمات معقدة لكسب “ساحات” في المجال البشري -ببطء- مع تداعيات خطيرة على المجال المادي. لقد حولت التكنولوجيا الدفة نحو البعد البشري. نوقش هذا التحول نحو المجال البشري بشدة داخل الجيش الأمريكي خلال ما أطلق عليه الحرب على الإرهاب. وهذا تم ذكره في مقال نشر عام 2009م في جريدة “Small Wars Journal ” والذي ذكر فيه النص التالي: “أحد التغييرات الأكثر عمقًا التي يجب على الجيش الأمريكي إجراؤها ليكون فعالاً في مواجهة التمرد هو تحويل مراكز الثقل الإستراتيجية من الجوانب المادية، إلى الجوانب البشرية، وهذا يمكن أن يكون مقبول بشكل عام في بيئات مكافحة التمرد، يبقى أن نرى كيف سيغير هذا التحول نحو المجال البشري العمليات القتالية واسعة النطاق”.

ثورة يناير بمصر /رويترز

لقد اكتسبت هذه النظرة إلى السكان -كمركز ثقل- معنى جديدًا في أعقاب ما أطلق عليه الربيع العربي، حيث كانت الحركات السكانية اللامركزية، التي مكنتها التكنولوجيا للإطاحة بالعديد من الأنظمة العربية على اختلاف قوتها. صدمت هذه الأعمال العالم ودرسها القادة في كل من الشرق والغرب. سلطت هذه الأحداث الضوء على قوة البعد الإنساني وقوة وسائل التواصل الاجتماعي في تعبئة الجماهير. وقد وثقت العديد من المقالات في المجلات العسكرية هذه الحركات، مع التركيز بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي التي كان لها دور كبير في تفتيت وخراب الدول المستهدفة. لقد اعتمدت الثورات العربية والتحالفات التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشكل كبير على موارد أخرى غير القوات العسكرية التقليدية لتشكيل الأحداث، وخاصة العمليات الإعلامية والنفسية عن طريق التكنولوجيا. لقد تم إدخال القوات العسكرية في اللحظات الأخيرة وبشكل محدد وبأقل تكلفة في بعض الدول كالعراق وسوريا. وقد اتفق جميع القادة العسكريين أن هذه الصراعات، كان لها تداعيات هائلة على المستوى التكتيكي من خلال المستويات الإستراتيجية للحرب، وهذا ما جعل “فاليري غيراسيموف” رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية ونائب وزير الدفاع الأول يقول “تفتح حرب المعلومات إمكانيات واسعة غير متكافئة لتقليل القدرة القتالية للعدو”. لا أحد يستطيع تحديد متى بدأ ظهور مجال الأمن السيبراني الاجتماعي. فمثلا المظاهر الناشئة لعمليات المعلومات الروسية مبنية على تاريخ طويل من عمليات الدعاية في الحقبة السوفيتية بعد دراسة مطولة للمجتمع المستهدف. وفي عام 1951م لخص أستاذ القانون بجامعة ييل “هارولد لاسويل” آلة الدعاية السوفيتية (التي يرثها جهاز الأمن الروسي الحالي) من خلال استنتاج أن الهدف الاستراتيجي الرئيسي للدعاية السوفيتية هو الاقتصاد في التكلفة المادية لحماية وتوسيع السلطة الروسية في الداخل والخارج. إن مثل هذه الدعاية هي صراع من أجل التحكم في عقل الإنسان، وبالتالي كسب الجانب المادي بأقل تكلفة. ومن ثم فإن الغرض من الدعاية الروسية كان التلاعب بعقول غالبية الناس في بلد معين كمقدمة للاستيلاء على السلطة في البلد المستهدف.

تفتح حرب المعلومات إمكانيات واسعة غير متكافئة لتقليل القدرة القتالية للعدو

 فاليري غيراسيموف – رئيس أركان الجيش الروسي الجنرال
رئيس أركان الجيش الروسي الجنرال فاليري غيراسيموف

وهذا الفكر كان سببا أساسيا في نشأة مجال الأمن السيبراني الاجتماعي كمجال فرعي ناشئ للأمن القومي، لأنه سيؤثر على جميع مستويات الحرب المستقبلية، التقليدية وغير التقليدية، مع عواقب استراتيجية. ويمكن تعريفه بأنه “هو مجال علمي ناشئ يركز على توصيف وفهم والتنبؤ بالتغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تتم بوساطة الإنترنت ويكون لها تأثير على السلوك البشري، وبناء البنية التحتية الإلكترونية اللازمة للمجتمع للحفاظ على هويته وعقيدته وثقافته في بيئة المعلومات عبر الإنترنت في ظل الظروف المتغيرة، والتهديدات السيبرانية الاجتماعية الفعلية أو الوشيكة”. وعلى الرغم من كونه تقنيًا بطبيعته، إلا أن الأمن السيبراني الاجتماعي يختلف عن الأمن السيبراني التقليدي. فالأمن السيبراني التقليدي يتضمن استخدام البشر للتكنولوجيا “لاختراق” التكنولوجيا، أي أن الهدف هو نظم المعلومات. بينما يشمل الأمن السيبراني الاجتماعي استخدام البشر للتكنولوجيا “لاختراق” البشر الآخرين. الأهداف هي البشر والمجتمع الذي يربطهم. يُشار أحيانًا إلى هذا التطور في النموذج الإلكتروني التقليدي باسم “القرصنة المعرفية”. لذك يجب أن يفهم جميع القادة والمجتمع معهم هذا النظام الناشئ للأمن السيبراني الاجتماعي وكيف يؤثر على قوتنا وأمتنا وقيمنا.  لقد أنشئ الأمن السيبراني الاجتماعي كعلم، وبالتالي له العديد من مجالات البحث مثل دراسة المعلومات المضللة، وسلوكيات المستخدمين على شبكات الويب، وكذلك دراسة علوم السياسة. أيضا يتضمن دراسة النشاط الجماعي، والتنقيب عن الآراء والمشاعر، والتأثير والتسويق، وأسلوب النشر، والهوية، والرقابة. وهذا المجال سوف يحدث تغيير ساحة المعركة على جميع مستويات الحرب، وذلك من خلال إضعاف الروح المعنوية للجنود والقادة على حد سواء والتلاعب بانفعالاتهم وهز ثقتهم في قواتهم، وبالنسبة للشعب اضعاف الثقة في المؤسسات الوطنية، وبالتالي يمكن لأي فاعل أن ينتصر في الحرب القادمة قبل أن تبدأ. لذلك إذا تُركت هذه الحرب “الاختراق السيبراني للمجتمع” الناشئة دون رادع، فستكون لها تأثيرات استراتيجية على قدم المساواة مع الحرب الخاطفة الجسدية التي أطلقت في بداية الحرب العالمية الثانية.

الخلاصة أن الهجوم السيبراني المجتمعي سيهيمن على حرب الجيل الجديد “الحروب اللامتماثلة” التي ستسعى إلى تحقيق سيطرة أفضل على القوات والأسلحة وخفض الروح المعنوية وتشتيت أفراد القوات المسلحة للدولة المستهدفة وكذلك التأثير على السكان أخلاقياً ونفسياً وتشكيكهم في كل شيء. وهذا سيكون إلى حد كبير الأساس للنصر. مثل أي مجال آخر من مجالات البحث، يتطور الأمن السيبراني باستمرار مع مرور الوقت. وأعتقد أن الأمن السيبراني الاجتماعي كعلم ناشئ سيصبح أحد الأركان الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة في عالم الإنترنت حيث يتزايد وجود التقنيات الجديدة التي سوف تسهل أكثر دراسة المجتمع والشخص المستهدف مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في مجالات حياتنا. الأهم أنه يجب أن يفهم القادة الأمن السيبراني الاجتماعي للدفاع عن نقاط الضعف الداخلية من التلاعب الخارجي، وتثقيف القوة العسكرية بشكل مباشر، وتثقيف المجتمع بكل فئاته بشكل غير مباشر حول الطبيعة اللامركزية لبيئة المعلومات الحديثة، والمخاطر القائمة، وطرق ووسائل تصفية الحقائق والآراء بشكل فردي، خاصة التي يمكن أن تصبح جزءًا من معتقداتنا وآرائنا في المستقبل.


الأستاذ الدكتور غادة عامر هي عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وزميل ومحاضر التكنولوجيا في كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا،   سفير تقني لوكالة الفضاء المصرية 2022 – 2024، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للعلوم والتكنولوجيا ونائب رئيس المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا. شغلت عددًا من المناصب الاخرى، مثل وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث بجامعة بنها مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في اكاديمية البحث العلمي – مصر، ومدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في جامعة بنها ، والرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمختبر الابتكار ASTF ، والرئيس السابق لقسم الهندسة الكهربائية بجامعة بنها والمدير التنفيذي للأوقاف العالمية. كما اختيرت لتكون ضمن أحد أعضاء لجنة تحكيم جوائز” رولكس” للابتكار بسويسرا.
تم الاعتراف بجهودها دوليًا اختيرت من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات التعليم الهندسي IFEES ومجلس عمداء الهندسة العالمي GEDC في الولايات المتحدة الأمريكية، كأحد أفضل القصص الملهمة للمرأة في مجال الهندسة والتكنولوجيا في أفريقيا.