“ديسمبريات” العرب والصين

مسار عبد المحسن راضي

الحديث الإعلامي عن القمم العربية الثلاث مع الصين يُشبِهُ نشرةً لتحفيزِ قُرَّاء نشْرَة الطقس السياسي، على توقّعِ هطولِ أمطارٍ جيوستراتيجية صينيَّة، في حكايةٍ خياليَّة شهيرة عن الشرق الأوسط، تنتهي بوصولِ الضفدع والعقرب سالمين إلى الضَّفَةِ الأُخرى، بدل الغرق في الحكاية الأصلية، وهما يقولان لبعضهما: “أنت نسيت أيضاً أننا هنا في الشرق الأوسط”.

قبل أن نختار الهروب بعيداً، عن هذهِ الحكاية الخياليَّة؛ التي اختارها الكاتب، وانغ جنغ ليه، في تحريره لكتاب “رؤية تحليلية لاضطرابات الشرق الأوسط”، نُذكِّر باتفاقِ الغرب على كذبةٍ أصليَّة نحو المنطقة، والسبب، بحسب كلماتٍ سنقطعُها من أغصانِ كتاب “لماذا يكذب القادة/ حقيقة الكذب في السياسات الدولية” لـ جون ج. ميرشايمر: “لديه مصلحة كبيرة في قبول هذه القصص الباطِلة كحقيقة”.

هدفُ خلق الأساطير عن المنطقة، هو لإبقائِها طبقاً ساخِناً، في مطبخ توازنات القوى العظمى. السخونةُ لا تتحقّق (سنستخدِمُ غصناً آخر من ميرشايمر) إلَّا إن كان هناك ميلٌ مُتأصِّلٌ لـ: “رفض حلِّ الصراعات، والتي تكون في أحيانٍ أخرى قابِلة لتسويةٍ سلميّة”.

ولكن كيف نفرُّ بنجاحٍ من هذهِ الأساطير؟

فِرارِنا إلى واقع القمم الثلاث؛ التي بدأت في السابع من ديسمبر/ كانون الأول 2022، وانتهت في التاسع منه، يبدأ من أواخر عام 1958، في تعليقٍ لهوير ميلار على ثورة المجر، نختارُ منه: “لا نستطيع أن نعيش على رأس مال البروباغندا إلى الأبد، لأنها في عيون المحايدين فقدت معظم تميُّزِها”.

العرب، نجحوا في هذه الديسمبريَّات مع بكين، بتحفيزِ الرئيس جو بايدن، ومجلس الأمن القومي الأميركي، على الإدلاءِ بتعليقاتٍ، جمعت بين التصريحات والخُطب.

التصريحات التي عادةً ما تأتي، لغرضِ إيضاحِ مرامٍ سياسةٍ ما، أو لترشيق تأويلات سياسةٍ مُعيَّنة، يكونُ مجالُها داخلياً لا خارجيَّاً، أمّا البيانات (الخُطب) فهي متورِّطةٌ أكثر في العالم الدولي، رغم ثيابِها المحليَّة. هي بدورِها ذات جمجمة سياسية، ورأس تاريخي.

الرياض فازت في الديسمبريَّات الثلاثة بدفع الغرب للعِق أصابعه، واكتشاف جهة الريح السياسيَّة في المنطقة. هنري لورانس في كتابه عن الشرق الأوسط ذَكَرَ أنَّ الأميركيين دائماً ما اعتمدوا على القاهرة، في تحديد الوجهة السياسيَّة العربيَّة.

سياسات بكين مع المنطقة، ليس في حدّ ذاتِها شيءٌ جديد. البروفيسور جوناثان فولتون (جامعة زايد) نقل في تقريرٍ له “الدور الصيني المُتغيَّر في الشرق الأوسط باللغة الإنكليزيَّة”، ما قالهُ السفيرُ الصيني، إلى منتدى التعاون الصيني العربي، لي تشينغوين، قبل عدَّة سنوات: “إنَّ جذر المشاكل في الشرق الأوسط يقع في التطوّر، وأنّ الحل الوحيد هو أيضاً التطور”. 

كلمات السفير التي تبدو غامِضةً نوعاً ما، وطريفةً بالنسبة للوعي العالمي “المُغربن”، قد تُفهم بشكلٍ أكثر تحديداً، إذا ما رجعنا إلى سيقان جواب ماو تسي تونغ، عندما سئلَ عن ماهيَّة الحرب الثوريَّة: “لا أحد يعرِفُ ما هي حتّى يمارِسُ الحرب الثوريَّة”. النتيجة: إنَّ معرفة الشيء صينيَّاً تكون بتجريبِه.

وهنا نسأل: ما جديدُكِ يا صين؟

بكين حددت منذُ سنين (العُهدة على فولتون) أنَّ الرياض، أبوظبي، القاهرة، طهران، الجزائر، هن: “الدول الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ الذين ارتبطوا مع الصين بشراكاتٍ استراتيجية شاملة، مما يؤشِّر إلى أنّ الصين تعتبرهم الدول الإقليمية الأهم”.

الأهم وما لم يذكره التقرير أنَّ هذهِ الخمس قادِرة على التشبيك، وتمتلِكُ النفوذ مع جيرانِها. لعقُ أصابِعها إذاً يفتِنُ عن رحلات السياسات الخارجيَّة لغيرها.

بكين لم ولن تتورَّط في الملفات الساخِنة العربية: فلسطين، طهران، العلاقات العربية الأميركيَّة. الأرجح أنّها ستزيدُ درجة التشبيك الدبلوماسي، مع ملحٍ أمني، بين اللاعبين في الشرق الأوسط، عبر لعِبِ دور الناقل الأمين. 

درجة سخونة هذا التشبيك؛ والتمليح الأمني؛ ستعتمِدُ على هيكل الحزام والطريق. هذا يُفسِّرُ لنا لماذا أصرَّت إدارةُ الرئيس جو بايدن على التذكير بالتكامُل الدِفاعي الذي حققته في المنطقة، وجهود مكافحة طهران!

العلاقة الأمنيَّة وتجارة السلاح، بين بكين والدول العربيَّة؛ سيكون لها نصيبُ التنين. ارتباط تجارة السلاح بالمُتطلَّبات الأمنيَّة، يُناسِبُ الصين والدول العربيَّة، على اعتبارِ أن الثانيَّة لن تُغيَّر عقائِدها العسكريَّة؛ الدائِرةُ أغلبُها في الفلك الأميركي.

تنمية البنى التحتية وفتحُ مصرفٍ لها، بنُسختِه الصينية، قد يبدأ بالعمل أخيراً، عكس النُسخة الأميركيَّة؛ التي كان وزير الخارجيَّة الأميركي الأسبق جيمس بيكر قد  دعا لها، ومختصرُها: “مشروع مارشال للمنطقة وإنشاء بنك نهضة الشرق الأوسط”.

الأرجح أنَّ الولايات المتحدة الأميركية وجهازها التشريعي الأثقلُ وزناً. الكونغرس سيضطرُ إلى التخلّي عن تردّده بـ: “زيادة رأس مال صندوق النقد الدولي، والتي باتت ضرورية بسبب تعدّد مداخلاته”، كما رأى ذلك، عالم السياسة الفرنسي، تييري دو مونبريال ذلك، في الجزء الثاني من كتابه “عشرون عاماً قلبت موازين العالم/ من برلين إلى بكين”، فالأميركيون وبحسب دو مونبريال أيضاً: “براغماتيون ولا يتردّدون في تغيير مواقفِهم عندما لا تسير الأمور كما كانوا يتوقعون”.