قراءة في قصف مسيرتين مجهولتين للكرملين في قلب موسكو

لواء أ. ح. دكتور محمد قشقوش – أستاذ الأمن القومي والاستراتيجية بأكاديمية ناصر العسكرية العليا بالقاهرة

استيقظ العالم فجر يوم الأربعاء الثالث من مايو الحالي 2023 على خبر قصف مسيرتين (مجهولتين) لقبة الكرملين الروسي في قلب موسكو خلال الليلة الفائتة. والخبر أذاعته موسكو وتناقلته وكالات الأنباء حول العالم بسرعة البرق؛ فالخبر جلل حيث استهداف الهجوم المبنى الذي يعد (قدس الأقداس) الروسية بتاريخه ومكانته الاستراتيجية والمعنوية وهيبة الدولة منذ روسيا القيصرية والسوفيتية والحالية، وهوما يماثل في الولايات المتحدة كل من مبنيي الكابيتول -حيث مجلسي الشيوخ والنواب- والبيت الأبيض إذا ما وُضعا معًا.

ويتكون الكرملين من مبنى ضخم من ثلاثة طوابق ذي أسوار وأبراج تاريخية. به عدة مبانٍ رئاسية منها المجلس النيابي في ناحية والقصر الرئاسي في الناحية الأخرى، ويعلو سقفه قبة ضخمة تعلوها صارية العلم الروسي التاريخي (الأبيض والأزرق والأحمر). وتعد القبة أقرب إلى مجلس الشيوخ منها إلى القصر الجمهوري المقر الرسمي للرئيس فلاديمير بوتين. حيث انفجرت المسيرتان أو(فُجٍرَتا) بالتتالي وتساقطت بعض شظاياهما في فناء مجلس الشيوخ دون أي إصابات.

أعلنت الإدارة الروسية أنها (متأكدة) أن تلك العملية كانت تستهدف اغتيال الرئيس بوتين، وأن اوكرانيا هي من تقف وراء ذلك

وأعلنت الإدارة الروسية أنها (متأكدة) أن تلك العملية كانت تستهدف اغتيال الرئيس بوتين، وأن اوكرانيا هي من تقف وراء ذلك، وهو ما يستوجب الرد المناسب، حيث وصل بأحد المحللين الروس أن يعلن أن الرد المناسب هو تصفية الرئيس الأوكراني نفسه! خاصة أنه أشار إلى مهاجمة مسيرة في وقت سابق (لم يحدده) لمدينة صغيرة تقع جنوب شرق موسكو بحوالي 100 كم كان من المفترض أن يزورها الرئيس الروسي، بما يضفي صورة الاستهداف والتعقب. ذلك في الوقت الذي نفت فيه القيادة الأوكرانية أي علاقة بمهاجمة الكرملين. 

تنتمي هاتان المسيرتان الصغيرتان إلى ما يعرف (بالجراد) حيث يتراوح وزنها بين 20 و 30 كج إجمالًا

وتنتمي هاتان المسيرتان الصغيرتان إلى ما يعرف (بالجراد) حيث يتراوح وزنها بين 20 و 30 كج إجمالًا. وهناك ما هو أقل وزنًا من ذلك بما يعرف (بالذباب) حيث يستخدم بالمجموعات؛ فإذا تم اعتراض بعضها بالمضادات المتخصصة استطاع المتبقي النفاذ والوصول إلى الهدف أو الأهداف. 

يأتي ذلك عشية ظروف قتالية ميدانية وقومية استعدادًا لاحتفالات عيد النصر السنوية؛ فالموقف الميداني مرتبك مع قوات فاجنر في محور مدينة باخموت المتحكمة في المحور الشرقي المؤدي إلى مدينة خاركيف الاستراتيجية، حيث أعلن قائد فاجنر بعد شهر من مهاجمة باخموت والاستيلاء فقط على أجزاء منها أنه سينسحب من المدينة يوم 10 مايو الجاري 2023 بحجة نفاد الذخيرة -في إشارة إلى عدم تعاون الجيش- ويفضل أن يسلم المدينة إلى قوات الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، بما يعكس عمق خلاف قائد فاجنر (المقرب إلى الرئيس بوتين) مع قائد الجبهة/العملية وهو رئيس هيئة الاركان الروسية ذاتها، حيث يُحمّل كل منهما الآخر أسباب فشل الاستيلاء على كل مدينة باخموت المتوسطة بعد أكثر من شهر.

ويتزامن ذلك أيضًا مع الظروف القومية استعدادًا للاحتفال بعيد النصر للحلفاء (السوفيت والغرب) على المحور (النازية والفاشية) في الحرب العالمية الثانية 1939-1945 بهزيمة واستسلام ألمانيا في 8/9 مايو1945 حيث يفصل بين توقيت اليومين منتصف الليل بتوقيت برلين -حيث توقيع وثيقة الاستسلام- وفرق توقيت موسكو.

عرض عسكري في مدينة فلاديفوستوك الروسية، لإحياء الذكرى الـ78 لانتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب الوطنية العظمى، وهو مصطلح روسي للحرب العالمية الثانية

وهو ما يعرف لدى الروس بالحرب الوطنية العظمى، وفيه يتم استعراضان للأسلحة والمعدات: الأول لذات الأسلحة التي شاركت في القتال الفعلي سواء حقيقية أو نماذج لها، والثاني يمثل أحدث ما في الترسانة الروسية، وخاصة الصواريخ الحديثة (فرط صوتية) فائقة السرعة. ثم يأتي العرض المترجل سواء لكتيبة المجد لمن شاركوا في الحرب وما زالوا على قيد الحياة (فوق 90 عامًا) أو الأبناء والأحفاد الذين يحملون صور الآباء والأجداد ومنهم الرئيس بوتين الذي يحمل صورة والده الذي كان جنديًا إبان الحرب.

وهنا نعود إلى السؤال، من أطلق المسيرتين على الكرملين؟؟  والإجابة لا تخرج عن أحد سيناريوهات ثلاثة:

الأول: من أوكرانيا حيث تدرجت في استهداف الأراضي الروسية والقرم من الأقرب إلى الأبعد، علاوة على أن لديها مسيرات خفيفة يصل مداها إلى 800 كم، في حين تبلغ مسافة موسكو من الحدود الاوكرانية 450 كم فقط.

السناريو الثاني: ريما من المعارضة الروسية المتنامية، وخاصة من جيل الشباب الناقم على الحرب، والربط بينها وبين الرئيس بوتين شخصيًا والتعبئة العسكرية المتتالية.. وربما بتعاون مع استخبارات أوكرانية.

ليتبقى السيناريو الثالث والأخير الذي يشير إلى أن ذلك عمل استخباراتي روسي بامتياز، حيث اختيار الهدف المعنوي للشعب الروسي، واستخدام مسيرات صغيرة فقط لتوصيل الرسالة وليس التدمير، كما رأينا انفجار الأولى دون تأثير على صارية العلم أو إحراق العلم. مع التركيز على مقولة استهداف ومحاولة اغتيال الرئيس بوتين، ولاستدعاء الالتفاف المجتمعي حول الرئيس الذى يخسر جزئيًا تأييد المجتمع للحرب الأوكرانية ونتائجها حتى الآن، وللتجهيز لرد انتقامي كبير ضد أوكرانيا… فلنتابع ونرى ونقيم.