العميد م. ناجي ملاعب
هل ان نظام القوة المفرطة ما زال فاعلا
أدى الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر إلى قلب رغبة إدارة بايدن في تبني نظام عالمي جديد. في الشهر الماضي، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن الولايات المتحدة تجد نفسها في “لحظة مفصلية في التاريخ”. وأصر على أن “الافتراضات الأساسية التي شكلت نهجنا في التعامل مع حقبة ما بعد الحرب الباردة لم تعد قائمة”.
عكست تصريحات بلينكن رغبة الرئيس بايدن وفريقه في إعادة توجيه تركيز السياسة الخارجية بعيدًا عن “الحروب الأبدية” التي سيطرت على العقدين الماضيين ونحو حقبة جديدة من منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا. ويلوح التهديد الصيني بشكل كبير في أذهان الحزبين في واشنطن، وبدا الأمر وكأن نائب رئيس باراك أوباما أصبح أخيراً على أعتاب تحقيق “المحور الآسيوي” الاستراتيجي الذي طال انتظاره لرئيسه السابق.
وبدلاً من ذلك، أثبتت تصرفات حماس، التي تدعمها إيران (رغم أن إيران تنفي تورطها المباشر في أحداث 7 أكتوبر)، أن “الدول المارقة” – التي كانت تشكل التهديد المحدد للأمن الأمريكي والعالمي منذ النهاية من الحرب الباردة – لا تزال تشكل تهديدا قويا يهدد السلام والاستقرار الدوليين. وتستدعي الأنظمة المارقة مثل إيران الاهتمام المستمر والموارد من حكومة الولايات المتحدة وحلفائها أثناء عملهم على حماية النظام “القائم على القواعد” الذي أسسه أسلاف بايدن بعد زوال الاتحاد السوفيتي. ولصياغة سياسة خارجية ناجحة في هذه اللحظة المشحونة، يستطيع بايدن أن ينظر إلى الاستراتيجيات الناجحة التي صاغتها إدارة رونالد ريغان في نهاية الحرب الباردة لمكافحة التهديد الناشئ.
يشير الكاتب في مجلة تايمز الأميركية ماتيو فراكس14 MATTHEW FRAKES الى ما اعتمد من استراتيجية في ثمانينات القرن الماضي زمن حكم الرئيس رونالد ريغان، وينصح الإدارة الأميركية الحالية باعتماد ذات الإستراتيجية في الرد على الأحداث الأخيرة وصولاً الى استعمال القوة الأميركية، فيقول:
تصاعد الهجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها، زمن إدارة الرئيس رونالد ريغان – صاحب مشروع حرب النجوم – كان سبباً في إعادة ضبط النهج الأميركي في التعامل مع الإرهاب. فقد أعلن ريغان في يوليو 1985 أن الهجمات الإرهابية هي “أعمال حرب” وبدأ تنفيذ أول استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب في تاريخ الولايات المتحدة. وشددت هذه السياسة على التدابير الهجومية والدفاعية، بما في ذلك تركيز الاهتمام على الدول الراعية للإرهاب. وأعلن أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع “الهجمات التي تشنها دول خارجة عن القانون تديرها مجموعة أغراب من غير الأسوياء، والإيقاعات المعتوهة، والمجرمين البائسين منذ ظهور الرايخ الثالث15”.
بدأ الرئيس في نشر استراتيجيته الجديدة لمكافحة الإرهاب ضد نظام القذافي في أواخر عام 1985 وأوائل عام 1986. ونفذت إدارته خطة متعددة الأوجه جمعت بين المبادرات الدبلوماسية والاقتصادية والاستخباراتية، وفي نهاية المطاف العسكرية، في سلسلة متصاعدة من الخطوات لعزل نظام القذافي المارق. وتضمنت هذه الجهود فرض عقوبات اقتصادية واستعراض القوة العسكرية الأمريكية من خلال التدريبات البحرية قبالة الساحل الليبي. وبلغت ذروتها بغارات جوية في 14-15 أبريل 1986.
وعلى الرغم من تشبث القذافي بالسلطة، إلا أن دعمه للإرهاب تلاشى بشكل ملحوظ في أعقاب قصف ريغان لليبيا. وعاد عملاؤه إلى الظهور لشن هجوم كبير أخير في الأيام الأخيرة من رئاسة ريجان، حيث قصفوا طائرة بان أمريكان الرحلة رقم 103 فوق لوكربي باسكتلندا في ديسمبر/كانون الأول عام 1988 (رغم أن الاستخبارات الغربية لم تؤكد دور ليبيا لعدة سنوات). وفي الشهر نفسه، هدد ريغان بعمل عسكري لتدمير مصنع أسلحة كيماوية ليبي قيد الإنشاء. وبحلول الوقت الذي ترك فيه ريغان منصبه، كانت استراتيجيته ضد الدول المارقة قد نجحت إلى حد كبير في كبح التهديد الليبي، الذي لم يقترب مرة أخرى من ذروة التدمير التي بلغها في منتصف الثمانينيات16.
ما نشاهده حالياً من دعم للكيان الصهيوني من قبل الولايات المتحدة الأميركية يندرج في استراتيجية استعمال القوة، التي ينصح بها الكاتب، فهل تنجح؟ او ان هناك ارادات شعوب مقهورة من الاحتلال وما يمارسه من فضائع، وتغض القوة العالمية المتمثلة في الولايات المتحدة اليوم الطرف عن الحقوق الشرعية والقوانين والمواثيق الدولية وتنصاع الى استراتيجية وسمتها بقمع الإرهاب.
سبع حضارات في مجوعة واحدة – بريكس
في البداية، ضمت رابطة “بريك”، التي تم إنشاؤها عام 2006 بمبادرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أربع دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين ومثّلت البرازيل، وهي القوة الأكبر في أميركا الجنوبية، قارة أميركا اللاتينية. في حين أن كل من روسيا والصين والهند تتمتع في حد ذاتها بالحجم الكافي لاعتبارها حضارات واسعة النطاق، أي إنهم أكثر من مجرد دول قومية.
فروسيا هي طليعة أوراسيا، “المجال الأكبر” الأوراسي. والصين مسؤولة عن مساحة كبيرة من القوى المجاورة للهند الصينية وغيرها الكثير (وتعتبر مبادرة مشروع “حزام واحد وطريق واحد” هي الطريقة الملموسة لإنشاء هذا “المجال الأكبر” الصيني على أساس التعاون السلمي). كما تمد الهند نفوذها إلى ما هو أبعد من حدودها ـ على الأقل إلى بنجلاديش ونيبال-وتم تمثيل أكبر دولة أفريقية بشكل رمزي عندما انضمت جنوب أفريقيا إلى دول بريكس في عام 2011 (ومن هنا جاء اختصار “C” في نهاية “بريكس” دلالة على جنوب أفريقيا).
ولكن في القمة الخامسة عشرة، والتي عقدت في الفترة من 22 إلى 24 آب/ أغسطس 2023 في جوهانسبرج، تم التشكيل النهائي للنادي متعدد الأقطاب. بحيث كان دخول القوى الإسلامية الثلاث (إيران الشيعية والسعودية السنية والإمارات العربية المتحدة) هو أمراً أساسياً. وهكذا تم ضمان المشاركة المباشرة في العالم المتعدد الأقطاب للحضارة الإسلامية برمتها، ممثلة بفرعيها (السنة والشيعة). بالإضافة إلى ذلك، انضمت الأرجنتين الناطقة بالإسبانية، إلى جانب البرازيل الناطقة بالبرتغالية، وهي قوة أخرى قوية ومستقلة، إلى مجموعة “بريكس”، وحتى في منتصف القرن العشرين، كان منظرو توحيد أميركا الجنوبية في “المجال الأكبر” الموحّد ــ ومنهم في المقام الأول الجنرال الأرجنتيني خوان بيرون والرئيس البرازيلي جيتوليو فارغاس ــ يعتبرون أنّ التقارب الحاسم بين البرازيل والأرجنتين هو المبدأ الأول لهذه العملية. وإذا تم تحقيق ذلك، فإن عملية التكامل في عالم أميركا اللاتينية (مصطلح أ.بويلا) ستكون لا رجعة عنها. وهذا هو بالضبط ما يحدث الآن في سياق انضمام القوتين الرئيسيتين في أميركا الجنوبية، البرازيل والأرجنتين، إلى النادي المتعدد الأقطاب.
كذلك يعتبر قبول إثيوبيا أيضاً رمزياً للغاية، فهي الدولة الأفريقية الوحيدة التي ظلت مستقلة طوال الحقبة الاستعمارية، محتفظة بسيادتها واستقلالها وثقافتها الفريدة (الإثيوبيون هم أقدم شعب مسيحي). وبالتشارك مع جنوب أفريقيا، تعمل إثيوبيا على تعزيز وجودها في هذا النادي متعدد الأقطاب والذي سينعكس على القارة الأفريقية ككل.
وفي تصوّر الإتجاهات العالمية المستقبلية من وجهة نظر شرقية وفي رأي للكاتب الروسي ألكسندر دوغين، نشر في موقع الخنادق تحت عنوان: “سبع حضارات ستحكم النظام العالمي الجديد” يقول الكاتب: أنه من خلال التركيبة الجديدة لمجموعة “بريكس” نحصل على نموذج كامل لتوحيد جميع الأقطاب – الحضارات، “المساحات الكبرى”، باستثناء الغرب، الذي يسعى جاهداً للحفاظ على هيمنته وأسلوبه الأحادي القطب، ولكنه الآن لا يواجه بلداناً متباينة ومجزأة ومليئة بالتناقضات الداخلية والخارجية، بل يواجه قوة موحدة تتألف من أغلبية البشرية، وعازمة على بناء عالم متعدد الأقطاب،
ويضيف، لذا فإن رؤية صموئيل هنتنغتون، الذي رأى المستقبل في عودة الحضارات، قد تأكدت عملياً، في حين أصبح واضحاً مغالطة رؤية فرنسيس فوكوياما، التي اعتقدت أن الهيمنة العالمية للغرب الليبرالي (نهاية التاريخ) قد تحققت بالفعل. فلذلك، لم يعد أمام فوكوياما سوى إلقاء المحاضرات على النازيين الجدد الأوكرانيين، وهو الأمل الأخير لدعاة العولمة القائلة بوقف ظهور التعددية القطبية، هذه التعددية التي تقاتل روسيا من أجلها اليوم في أوكرانيا.
وبالتالي يمكن اعتبار آب/أغسطس 2023 عيد ميلاد العالم متعدد الأقطاب. فلقد تم تأسيس التعددية القطبية وإضفاء الطابع المؤسسي عليها نوعاً ما، وقد حان الوقت لإلقاء نظرة فاحصة على كيفية تفسير الأقطاب الحضارية للوضع الذي يجدون أنفسهم فيه. وهنا يجب أن نأخذ في عين الاعتبار أن كل حضارة ذات سيادة تقريباً ولديها فكرتها الخاصة عن بنية التاريخ، وطبيعة الزمن التاريخي، واتجاهه، والهدف والنهاية. وعلى عكس فوكوياما، الذي أعلن طموحاً عن نهاية واحدة للتاريخ (في نسخته الليبرالية)، فإن كل حضارة ذات سيادة تعمل بفهمها وتفسيرها ووصفها الخاص لنهاية التاريخ. لذا دعونا نفحص هذا الوضع بإيجاز17.
مايكل أوهانلون من معهد بروكينغز, ومؤلف مشارك مع جيم شتاينبرغ في كتاب “الطمأنينة الستراتيجية والحل: علاقات الولايات المتحدة والصين في القرن 21 ” يخالف رؤية دوغين فيكتب في الموضوع – في موقع السياسة الالكتروني – تحت عنوان هل بدأت تلوح مرحلة ما بعد اميركا:
الحقيقة أن دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) وسواها من الدول الصاعدة بشكل لافت تثبت أن نظاما دوليا مفتوحا يعمل بشكل جيد بالنسبة لمعظمها. والحقيقة القائلة إن قوة أميركا وقيادتها تساعدان على الاستقرار وعلى التمسك بهذا
النظام حقيقة مفقودة عما قريب. إن البديل عن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، إذا كان موجودا، لم يعرفه أحد في واقع الامر ولم يحدده أي منظر أو كاتب أو رجل دولة على قدر من المصداقية. ويخلصان الى أنه “لا توجد قذائف هاون في بلدان بريكس” فجونز يركز على عدم التقليل من شأن إنجازات أي من القوى الصاعدة. بل هو يبرهن بشكل مقنع وأصيل، أنها لم ولن تشكل كتلة جيوستراتيجية بديلة عن المجتمع الغربي (مثل الاتحاد الاوروبي والناتو ومجموعة السبعة) وما فيه من أنظمة ديمقراطية هي الأكثر تقدما بشكل عام من أي تجمع دولي آخر قائم. إن مصالح دول البريكس لا تجتمع بشكل طبيعي حول أي أجندة واضحة بل تختلف مع بعضها البعض بقدر ما تتوافق والكثير من مصالحها في الواقع تتماشى مع مصالح القوى الناشئة وهي تسعى إلى أفضل تعاون معها. وقد عبرت عن ذلك بأنفسها بالفعل.
قمة المناخ والمعالجات المنشودة
لا تزال التخفيضات في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بعيدة عن حيث يجب أن تكون للحفاظ على مناخ صالح للعيش، ولا يزال الدعم المقدم للبلدان الأكثر ضعفاً والمتضررة من آثار تغير المناخ ضعيفاً للغاية. إلا أنّ الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف أنتجت لبنات بناء جديدة لتعزيز تنفيذ اتفاق باريس من خلال الإجراءات التي يمكن أن تضع العالم في مسار أكثر استدامة وأقل إنتاجا للكربون18.
ونقلا عن صفحة الأمم المتحدة عن الموضوع نقرا: أعادت الدول التأكيد على هدف اتفاق باريس المتمثل في الحد من الزيادة في متوسط درجة الحرارة العالمية إلى أقل بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية ومواصلة الجهود للحد منها إلى 1.5 درجة مئوية. وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، معربين عن ” حالة الاستنفار والقلق البالغ من أن الأنشطة البشرية تسببت في ارتفاع درجة حرارة حوالي 1.1 درجة مئوية حتى الآن، وأن الآثار محسوسة بالفعل في كل منطقة، وأن ميزانيات الكربون المتسقة مع تحقيق هدف درجة حرارة اتفاق باريس هي الآن صغيرة ويتم استنفادها بسرعة. ” لقد أدركوا أن تأثيرات تغير المناخ ستكون أقل بكثير عند زيادة درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية مقارنة بـ 2 درجة مئوية.
وفي محاولة لتسريع العمل فقد شددت الدول على الضرورة الملحة للعمل “في هذا العقد الحرج”، حيث يجب خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 45 في المائة للوصول إلى صافي صفري في منتصف القرن تقريبًا. ولكن مع فشل خطط المناخ الحالية – المساهمات المحددة وطنياً – في تحقيق الطموح، يدعو ميثاق غلاسكو للمناخ جميع البلدان إلى تقديم خطط عمل وطنية أقوى في العام المقبل، بدلاً من عام 2025، وهو الجدول الزمني الأصلي. كما دعت البلدان اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ إلى إعداد تقرير تجميعي سنوي للمساهمات المحددة وطنيًا لقياس المستوى الحالي للطموح.
يخلص المفكر الفرنسي جاك أتالي في تحليله إلى أن التاريخ لن يكرر السيناريو ذاته، لن يتسنى لقوة ما بعينها أن تضحى قادرة على إدارة شؤون الكون، ولن توجد واحدة باستطاعتها الاضطلاع بهذه المهمة الثقيلة، لن تكون الولايات المتحدة حاكمة العالم ولن تملك الصين لا السبيل إلى ذلك ولا الرغبة فيه، وكذلك الحال بالنسبة إلى أوروبا ومجموعة العشرين، ثنائية مكونة من الولايات المتحدة والصين ستحل تدريجاً محل انفراد الولايات المتحدة بهذه السطوة الهائلة، من دون أن تملك إزاحتها من المشهد، أو أن تحكم العالم، لا أحد باستطاعته التصدي للمشكلات الجهازية التي تلوح في الأفق.