تطور أجيال الحروب

العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري

تتنامى الحروب وتتطور في فنونها وأدواتها وطرق إدارتها عبر التاريخ من جيل إلى جيل شأنها شأن أي تطور طبيعي يطرأ على مناحي الحياة المختلفة فهي قدر محتوم على البشرية منذ قديم الأزل صورها مختلفة فتكون حيناً واقعاً مفروضاً للدفاع عن الأرض والعرض وتكون في حين آخر لتحقيق مطلب وحق أستعصي نيله بالطرق السلمية وتشتعل في صورة صراع بين طائفتين أو فئتين أو دولتين لتحقيق مكاسب معينة سواءاً إقتصادية أو سياسية أو أيدلوجية أو لتحقيق أغراضٍ توسعية يرى كل طرف أنها بمثابة حاجة ملحة لتأكيد وضع معين ، لكنها تبقى في النهاية تصرف غير عقلاني لا ينجو أحد من عواقبه لقسوتها وفظاظتها .

تصنف الحروب بأنها آخر وسيلة من وسائل فض المنازعات بين الدول , وقرارها يكون عادة بيد القادة السياسيين الذين لا يقدرون أبداً خطورتها ونتائجها ومع ذلك قلما يذكر التاريخ دورهم في أحداثها ، تتضمن أعمالها صراعاً مريراً يشمل إستخداماً مكثفاً لكافة مقومات الدولة  والقوات المسلحة بما يحقق الهدف الذي قامت من أجله , ومع تنتهي بتفاوض سلمي فيه الكثير من التنازلات التي قد تكون مهينة ومذلة دون النظر لعديد التضحيات وحجمها.

على الرغم مما قدمه الفكر الانساني من أفكار متقدمة لاقامة أنظمة غايتها سعادة الإنسان والمحافظة على كرامته ووطنه ونبذ الحروب وما قد يؤدي إليها من سلوك سياسي ومشاحنات ومنازعات لتحقيق أكبر مستوى من الأمن والآمان تحت قيم ومعايير اخلاقية تضمن للإنسان حقوقه إلا أن القصور البشري في فهم تلك المعايير هو ما يدفع بالحلول العنيفة لتسود وتصبح بذلك دول العالم ميادين للقتال والحروب فما أن تنطفىء نار حرب حتى تشتعل أخرى تدمر البشر والحجر وفوق كل ذلك فإن الحرب تفرض نفسها كواقع إجتماعي يستمد طبائعه من أخلاق الشعوب ذاتها بحيث تؤثر على بنية وسلوك أفراد المجتمع فما تتركه من حقد وخوف يجعلها تستمر في الخفاء حيناً من الزمن يترصد فيه كل طرف بآخر حتى تحين له فرصة الإنتقام ولا يمكن أن يلغي ذلك مبادرات التصالح السياسية , وهكذا حتى أن التاريخ يذكر حروباً قامت وأستمرت ردحاً من الزمان في صراع محتدم ولم تنتهي رسمياً إلا بإعتذار الدول لبعضها وهناك أخرى لا تزال جدوتها مشتعلة رغم أن المصالح تتغير مع الزمن .

خلال المراحل التاريخية التي مرت بها الشعوب في صراعاتها تطورت أجيال الحروب المتعاقبة لتلبي الإحتياجات المتزايدة لإدارة تلك الصراعات في شتى أنحاء العالم وبذلك إنتقلت أجيال الحروب عبر السنين من مرحلة إلى أخرى في تطور طبيعي حمل أفكاراً ورؤى أدت إلى تحديث كل منظومة الحرب من تدريب الأفراد إلى نوعية السلاح المستخدم إلى النظريات والخطط العسكرية المتبعة فيها ومن هذا المنطلق صنف خبراء الفكر العسكري الحروب تصنيفاً دقيقاً حسب الفترات التي دارت فيها وكذلك بحسب المعدات التي إستخدمت فيها , فكانت حروب الجيل الأول وهكذا تباعاً وأختص كل جيل من الحروب بنوع معين من التكتيكات والعمليات ونوعية الأسلحة والمعدات المستخدمة فيها.

هذه الإستمرارية في الحروب جعلت الخبراء العسكريون يعملون على تطوير آلياتها حتى تتوافق مع الزمان والمكان والتطور التقني والفني الذي بات يفرض نفسه على نوعية الحروب وبالتالي قسمت الحروب ومعداتها إلى أجيال متعاقبة يتوقف فهمها على طبيعة العمليات العسكرية التي تجرى فيها وطبيعة الأرض وأيضاً طبيعة الخصم.

وهنا يجذر القول بأن أجيال الحروب غير محددة بزمن وعدد سنين بل هي رهن لطبيعة الحرب ذاتها وتطورها الذي عادة ما يصاحب التطور الفكري والتقني للأمم والشعوب وبذلك قسمت الحروب إلى أجيال محددة كان آخرها الجيل الرابع والذي ذاع صيته مؤخراً سنتناول بالوصف في هذا المقال سمات كل جيل من أجيال الحروب بحسب تسلسلها بما يعطي نبذة موجزة عن مراحل تطور الحروب عبر اجيالها المتعاقبة.

1. حروب الجيل الأول :

أطلقت تسمية الجيل الأول من الحروب على الحروب التقليدية التي دارت رحاها بين جيشين على أرض واحدة وفي ميدان محدد تكون فيها المواجهات المباشرة بين الخصمين في جبهة واحدة بشكل تصادمي وهذا الجيل من الحروب سمته الرئيسية بروز مقومات الفروسية والشجاعة والإقدام على مستوى القادة والأفراد والقادة وتسمى أيضاً بالقتال الخطي والتلاحمي

نفذت خلال حروب الجيل الأول عدد محدود من العمليات العسكرية وحققت نجاحات كبيرة كعمليات المناورة والإلتفاف لتطويق الخصم وضربه في أجنحته للقضاء عليه وتدميره  بدأت هذه النوعية من الحروب مبكراً مع تطور محدود وعرفتها البشرية منذ القدم وأستمرت حتى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.

2. حروب الجيل الثاني :

تطورت حروب الجيل الثاني لتأخذ أشكالاً جديدة وتدخل عملياً لمرحلة ما يعرف بحرب العصابات أو الحرب الثورية والتي تكون عادة بين جيش نظامي تقليدي وبين مجموعات مقاتلة ذات هدف واحد صغيرة العدد نسبياً مقارنة بجيش متكامل وهي شبيهة إلى حد ما بحروب الجيل الأول ولكن التطور الذي حصل في تقنيات إستخدام النيران ووسائل قذفها وإدارتها من دبابات وطيران ووسائط بحرية بين الأطراف المتنازعة جعل لها خصوصية أكثر دقة من ناحية القدرة على إحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر في طرفي النزاع.

إستراتيجيتها نشأت من الصراع المستمر والطويل في نوعية القتال مما حتم عليها إتخاذ تدابير معينة ومحددة تبعاً للوسيلة والغاية فكان أسلوب المفاجأة والمباغتة في القتال ضد التنظيمات العسكرية التقليدية من ابرز سماتها , وكانت المجموعات التي تعمل باسلوبها مدعمة بتسليح أقل عدداً ونوعاً وتقاتل في ظروف غير ملائمة للجيش النظامي الخصم بما يحقق ضربات موجعة له في معارك ومواجهات صغيرة ومتعددة تحقق لهم الهدف الأساسي وهو إضعاف قدرة الخصم وجعله يتراجع عن أهدافه تحت وطء الضربات المتلاحقة من خصم يظهر ويختفي ويقاتل وفق عمليات يفرض فيها نفسه وشروطه يحدد فيها مكانها وزمانها بما يضمن له النجاح ، وتعتمد حرب العصابات على مساندة الإعلام بشكل رئيسي وذلك لتصوير ونشر العمليات العسكرية قبل وأثناء وبعد أي عملية عسكرية , وتميزت أيضاً بالإستخدام المكثف للحرب النفسي بكل أدواتها للتأثير المباشر في الخصم .

انتشرت هذه النوعية من الحروب في كثير من دول العالم ولعل أهم ما يميزها هو أنه ليس هناك مقياس محدد لتسليح العناصر القتالية في حرب العصابات ولكن لطبيعة ديناميكية الحركة والمناورة المستمرة فيها تكون الأسلحة الخفيفة والمتوسطة بأنواعها المتعددة هي المفضلة والمعتمدة خلال عملياتها.

3. حروب الجيل الثالث:

ظهرت حروب الجيل الثالث من وحي نظرية الردع بالشك وهي نظرية سياسية عسكرية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وهي تعني عملياً الضربة الاستباقية وشن الحرب ضد ما من شأنه  أن يهدد الأمن القومي الأمريكي أو السلم العالمي على حد تعبير الإدارة  الأمريكية.

ويطلق عليها كذلك حرب المناورات وهي إستراتيجية طورت سابقاً من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية وأستخدمت ضد بريطانيا بقصفها المتواصل بالطائرات وصواريخ 2V وتميزت العمليات الخاصة بحروب الجيل الثالث بالمرونة والسرعة في الحركة واستخدم فيها عنصر المفاجأة وأيضاً الضرب بشدة وراء خطوط العدو ويستخدم فيها عادة سلاح الطيران والقاذفات الإستراتيجية البعيدة المدى والصواريخ الموجهة على وجه الخصوص ولعل ما شاهده وسمع العالم عنه في حرب العراق الثانية يلقي كثيراً من الضوء على نوعية هذه الحروب وتصاحبها في العادة حملات إعلامية مركزة .

4. حروب الجيل الرابع :

تسمية الجيل الرابع أطلقها الأمريكان في الحرب على المنظمات الإرهابية وحسب المفهوم الأمريكي يكون طرفيها جيش نظامي لدولة ما مقابل لا دولة أو خصم على صورة خلايا خفية منتشرة في أنحاء العالم وقد اتفق الخبراء العسكريين على أن حرب الجيل الرابع هي حرب امريكية النشأة والصناعة طورت من قبل قيادة الجيش الأمريكي وأسموها بـــــالحرب اللا متماثلة.

هذه النوعية من الحروب نشأت عندما وجد الأمريكان أنفسهم يحاربون كياناً لا يعتمد وطناً له ولا دولة ولا جيش نظامي بل تنظيم يحمل طابع ديني أو سياسي بأيدلوجية محددة تنتشر حول العالم ويمتلك إمكانيات جيدة لضرب مصالح حيوية لدول أخرى لإضعافها أمام الرأي العام العالمي ، ومثال على هذه التنظيمات : تنظيم القاعدة بمختلف فروعه ، حزب الله ، أنصار الشريعة ، تنظيم الدولة داعش  وآخرها جماعة الأخوان المسلمين والتي صنفت مؤخراً في عدد من الدول كتنظيم إرهابي وفي هذا الجيل من الحروب تستغل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة إلى جانب العمليات الإستخبارية للقيام بدور كبير لإضعاف الخصم والتأثير عليه ومثالها الحرب على الإرهاب التي قادتها أمريكا في العراق وفي اليمن وفي أفغانستان وفي باكستان بضربات ماحقة وستقودها أينما إستشعرت الخطر على أمنها ومصالحها .

5. حروب الجيل الخامس :

يطلق عليها تسمية الحرب الهجينة وهي نوع متميز من القتال يعجز فيه الجيش النظامي على الإطاحة بخصمه المحنك الذي يخوض حرباً غير نظامية بأفكار مبتكرة تستخدم خليطاً من كل مفاهيم الحروب الساببقة “حرب شعبية وحرب الثورية وأسلوب حرب العصابات ووسائل الحرب الحديثة” وتتمتع الحرب الهجينة بتكنولوجيا فائقة لا تخضع لشكل معين وقواعد ثابتة بدءاً من القيادة وإنتهاءاً بالعمليات الجارية خلالها.

يستخدم في حروب الجيل الخامس العنف المسلح عبر مجموعات عقائدية مسلحة وعصابات التهريب منظمة وتنظيمات صغيرة مدربة لها خصوصية منهجية دينياً وعقائدياً وسياسياً، لصناعة نزاعات داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية داخل الدولة المستهدفة، لاستنزاف هذه الدولة وجعلها تعانى من صراعات داخلية تدعمها تهديدات خارجية عنيفة.

وتتميز عمليات الجيل الخامس بأنها صراع مفتوح تنفذ عملياته دون قيود أخلاقية تستخدم فيه كافة وسائل القوة المتوفرة المسلحة وغير المسلحة لإجبار الخصوم للخضوع لإرادة من يشن الحرب حتى وإن تضمن ذلك سقوط الضحايا دون وجه حق مع ما يصاحب عمليات الحروب من تعدي وظلم وطغيان حيث لا سبيل لتحقيق الغايات إلا بالدمار والقتل.

ومن مظاهر الجيل الخامس للحروب سعي الأفراد والمجموعات المقاتلة للوصول إلى المعرفة المتطورة والتكنولوجيا الحديثة واستخدامها كوسائل هجومية في معارك غير متماثلة لتحقيق المصالح الفردية والجماعية وذلك من خلال القدرة على تنفيذ الأعمال التخريبية من خلال الإنترنت والوسائط الإلكترونية المختلفة فيما بات يعرف بالحرب الرقمية التي ستكون عاملاً مهماً في سباق إدارة الأزمات وفن الحرب واستخدام تكتيكات جديدة في العمليات العسكرية والأمنية.

6. حروب الجيل السادس :

يمكن أن نطلق عليها تسمية الحرب عن بعد وهي حرب تعتمد التقنية عالية الدقة لإدارة وسائطها القتالية التي تدار عن بعد أسلحتها ومعداتها ذكية , وهذا التصنيف يعتبر الأحدث في أجيال الحروب أطلقته روسيا باعتبار أن هذا النوع من الحروب لا يعتمد على الاتصال بشكل مباشر بالخصم و بمعنى آخر أنها حرب تدار بشكل كامل عن بعد وتتسع دائرتها لتشمل كل ما هو معني بمفهوم الحرب سواء كانت أسلحة أو إمكانيات بدءا من الأسلحة النووية التكتيكية إلى إدارة الصراع الاقتصادي والمعلوماتي الى استهداف الأفراد أنفسهم عن بعد سواء كانوا فرادى أو مجموعات وقد صاغ مصطلح “الجيل السادس للحرب” لأول مرة الجنرال الروسي فلاديميرسليبتشينكو عند استخدام أنظمة تسليح عالية الدقة يمكنها أن تجعل من تسليح وتنظيم الجيوش التقليدية أمور  عفا عليها الزمن .

وأخطر ما في حروب الجيل السادس هو استهدافها للإنسان وعقله وعواطفه واستغلال كل ما في الطبيعة من حوله كسلاح يدار ويسيطر عليه كمشاريع التحكم في الطبيعة “مشروع هارب” وأيضاً تصرفات الكائنات الحية وغيرها من المشاريع المتطورة التي تستهدف إلحاق أكبر ضرر بالجنس البشري واستغلال الحشرات والطيور والأسماك وغيرها من الكائنات كأدوات للتجسس والسيطرة .

من سمات حروب الجيل السادس البراعة العالية في استخدام الوسائط القتالية والتفوق في تحقيق الأهداف والمصالح والسيطرة على الآخرين بأقصر الطرق واقل الخسائر وبذلك ستغدو معها كل تلك الترسانات من الأسلحة والمعدات وكأنها أسلحة شخصية لن تستطيع الجيوش إستخدامها مطلقاً .

وبذلك أعتقد بأن أجيال الحروب ستستمر في التقدم بصورة مضطردة وستشمل في صورها الجديدة أنواع متعددة سابقة وحديثة متداخلة من فنون القتال وأنواعه وستستغل كل ما تصل إليه التقنية والتطور العلمي في مختلف المجالات ولذلك فحروب المستقبل ستكون غير محددة بنوع ونمط قتالي معين عرفه العالم من قبل , الغاية فيه تبرر الوسيلة وهدفها الاسمى هو سحق الخصم حتى قبل أن يستعد للحرب والسيطرة على العالم ومصادر الماء والطاقة فيه بالقوة العسكرية المطلقة.

لم يتفق العالم وخبراء السياسة والعسكر على مقومات معينة تحدد أجيال الحروب وتركت لإجتهاد المحللين فهناك من لايزال يعتقد بأن الحروب و الأعمال العدائية والنزاعات المسلحة لا تزال ضمن الجيل الرابع وشخصياً أعتبر بأن الأمر قد تجاوز في تسارع كبير نحو الجيل السادس من الحروب التي بدأت وسائطه المعتمدة على التفوق التقني والذكاء الصناعي في الدخول للمناوبات القتالية والخدمة العملية في كثير من الجيوش وقد تداخلت فيها أجيال الحروب حتى أمتزج قديمها بجديدها في تطور فكري عسكري مستمر متناسق مع التطور العلمي الذي يسابق الزمن وظهرت نتائج ذلك في تدريب المقاتلين وحرفيتهم العالية والتطور النوعي في دقة الوسائط القتالية المستخدمة من الأسلحة الذكية والطائرات بدون طيار والمركبات المسيرة الغير مأهولة وأسلحة الفتك ذات الدقة العالية وتطور عمليات القيادة والسيطرة عبر الأقمار الصناعية.

… ختاماً كل أجيال الحروب وتطورها عبر التاريخ لم تكن لتثني جيوش الدول الصغيرة التي قد لا تملك التقنية والعتاد الحربي المتطور عن أن تقوم بأداء مهامها وواجباتها , لأن مهمة الدفاع عن الأرض والعرض مهمة وطنية مشرفة تقدسها الأديان وتبذل فيها المهج والأرواح ويتسابق فيها الجميع لنيل مرتبة الشهادة التي لا تعدلها مرتبة ويبقى الإيمان والعقيدة والمعنويات دافعاً مهماً للدفاع والذوذ عن الأوطان مهما تفوق الخصم ومهما تطورت أجيال الحروب.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*