العميد م. ناجي ملاعب
أبعد مما يجري في أوكرانيا، فالكثير من سلوكيات الدول الغربية وروسيا والصين تنبئ بأننا نعيش واحدة من أخطر وأهم مراحل الصراع الدولي، وهي مرحلة الإقتراب المتدرج ثم المتسارع من جانب قوى دولية بعينها من خط النهاية لنظام دولي مرتبك، ومن حال الاستعداد والتعبئة العظمى لوضع بدائل لهذا النظام؛ بدائل، يتوقعها خبراء الإيدولوجيا، تتعلق بموقع القيادة وشكلها؛ أحادية أم ثنائية أم متعددة؛ بدائل تتعلق بنوع التفاعلات المطلوبة أو المتوقعة كالأحلاف والقواعد الحاكمة لسلوكيات الأطراف.
ويرى خبراء أن النتيجة التي انتهت إليها انتفاضة أو ثورة كازاخستان، العام الماضي (2021)، شكلت دافعاً للصين لتسرع بالوقوف إلى جانب روسيا ضد التدخل الأمريكي. ولم تتأخر الصين في انتهاز الفرصة لتؤكد أنها تقف مع التدخل الروسي قبل أن يستفحل التدخل الغربي.
أحداث اوكرانيا قرّبت من التصعيد المتبادل والمتزايد حساسية من مواقع الاشتباك. ولا شك من أن الولايات المتحدة وقيادة حلف شمال الأطلسي – الناتو وروسيا والصين، تدرك أن أي خطأ يقع فيه طرفٌ ما ستكون له تبعات وتداعيات تمس مباشرة مكان ومكانة هذا الطرف أو ذاك في النظام الدولي المرتقب أو في النظام الدولي الراهن ولكن بعد تعديله. ويدرك الجميع، أن النظام الراهن لن يبقى للمستقبل؛ لا مستقبل له إلا إذا نشبت معركة عسكرية عظمى، كما هو متخيل لدى البعض حول أوكرانيا، وخرجت أمريكا من المعركة منتصرة؛ بمعنى آخر، خرجت وخرج سالماً معها النظام الدولي الذي صنعته بنفسها قبل 75 عاماً.
وهذا التصوّر لن يتحقق والصين موجودة كقوة عظمى، وتساند القطب الروسي ولهما طموحاتهما المتصاعدة. القطبان – أحدهما جديد وصاعد بسرعة، والآخر قديم أخرجته أمريكا من القيادة بعد الحرب الباردة ويسعى للعودة بقوة أكبر – يسعيان لوضع حد للتصرفات الأمريكية في استخدام حقها بإشعال الثورات في الدول النامية أو في الدول الواقعة ضمن مناطق نفوذ كلتا الدولتين، روسيا والصين. لن يكون من حق واشنطن التدخل في هونج كونج وفرض أسلوب دولي خاص بتايوان ووضع عقبات أمام عودتها إلى الوطن الأم كما تصفه الصين.
ماذا عن أوكرانيا اليوم؟
أوكرانيا التي كانت، عبر التاريخ، ممراً لغزوين نُفّذا ضد روسيا، الأول قام به الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، والثاني الفهرور الألماني أدولف هتلر، ورغم فشلهما، ظلت كييف الحجر الأساس في بنية الأمن القومي لروسيا في الحقبتين السوفييتية والحالية، ما جعلها قُبلة المجال الحيوي غير القابلة للتفاوض، والهدف الروسي الاستراتيجي لتحييدها ومنعها من الدخول في حلف الناتو، وقد بدا هذا المطلب واضحاً وجلياً منذ بدء الهجوم الروسي، وهو تطبيق نظام الحياد باعتباره من وجهة نظر موسكو الوضع الذي يبعدها عن تشكيل أي خطر، إضافة إلى طيّ صفحة الدخول في حلف الأطلسي.
إن وقائع الحرب الدائرة حالياً تشي بمعطيات جمة، أبرزها طول أمد المعارك، وعدم القدرة على الحسم السريع والفعال الذي ينتج مشروع حل ما؛ وبالتالي، تذهب الأمور إلى تداعيات أخرى، من بينها ازدياد الاصطفاف الدولي، وانقسامه في ظل عدم وجود مؤشرات جدية لمساعدة أوكرانيا، أو أقلّه الولوج في مفاوضات حثيثة قابلة لإنتاج مشاريع حلول لاحقة؛ ما يعني المزيد من الوقت والأكلاف العالية على الصعيدين الأوروبي والدولي.
ومن الصعب توصيف الحرب القائمة حالياً بغير الورطة الاستراتيجية التي دخلت – أو أُدخلت – فيها موسكو، والتي لن تكون قادرة على الخروج منها إلا بأثمان باهظة، في وقت تهيئ واشنطن وأوروبا للمستنقع الكبير في ظل استعار أجواء الحرب الباردة والتي يمكن أن تنفجر في إطار حرب عالمية ثالثة.
في الماضي، قُسّمت بولندا – جارة أوكرانيا – ثلاث مرات، واختفت عن الجغرافيا السياسية الأوروبية، كما ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فهل تتجه أوكرانيا كما يوغسلافيا للتقسيم، كبداية لإشعال حرب ومقاومة ضروس كما حدث ضد السوفييت في أفغانستان؟ إن التدقيق في وقائع وظروف تلك الحقب تبدو متشابهة ومتطابقة في بعضها الآخر، ما يعزز تلك الفرضيات؛ وثمة من يدعي أن تورط الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، في سبعينات القرن الماضي، إضافة إلى مشروع “حرب النجوم” إضافة إلى عوامل أخرى، أدت إلى انهياره، فماذا عن أوكرانيا اليوم؟
ما بدا كنزاع حدودي، ومحاولة قوة عظمى استعراض عضلاتها لفرض إرادتها السياسية على دولة جارة تحوّل إلى صراع عالمي له أبعاد إيديولوجية وستكون تأثيراته الاقتصادية والسياسية الكبيرة والعابرة للقارات. وما كان ممكناً قبل حرب أوكرانيا لن يكون كذلك بعد اندلاعها، وهذا ينطبق على مواضيع عدة يشكل الدور الروسي جزءاً أساسياً منها.
فرز واصطفاف جديدين
أمريكا والقوى الأوروبية مصممتان على حرمان الرئيس فلاديمير بوتين من تحقيق أي نصر في أوكرانيا، وكان واضحا وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في تصريحه الأخير “أننا نهدف إلى إضعاف الجيش الروسي”، وهما تعملان جاهدتين على ذلك عبر مد أوكرانيا بأحدث الأسلحة ودعمها اقتصادياً وسياسياً، وكان آخرها موافقة الكونغرس على تخصيص مبلغ 40 مليار دولار لدعم أوكرانيا، وكذلك عبر موجات العقوبات الإقتصادية والدبلوماسية، ومحاصرة روسيا من الشمال بطلب كل من فنلندا والسويد الدخول إلى الناتو. فبعدما كانت فكرة التغاضي عن سيطرة روسيا على إقليم دونباس مقبولة في السابق لدى بعض القيادات الغربية، بات هذا الأمر مرفوضاً اليوم نتيجة الشحن الإعلامي والاصطفاف الإيديولوجي بين القوى الليبرالية الديموقراطية والقوى الأوتوقراطية، وبين القومية الأوروبية والقومية الروسية، وبين المصالح الأمريكية والمصالح الروسية والصينية.
هذه الاصطفافات الحادة تؤثر سلباً في الوساطات والجهود لإنهاء الحرب بين الطرفين. وكل حليف لروسيا هو اليوم عدو لدود للغرب في مناخ حرب يأخذ منحىً عقائدياً وتصاعدياً. وكلما طالت الحرب وعجز الرئيس بوتين عن تحقيق نصره المنشود في أوكرانيا، ستتراجع مكانة روسيا التي ستتحول إلى قوة عظمى نووية إنما من الصف الثاني، وربما الثالث في حال انهار اقتصادها بسبب العقوبات؛ لذلك، ستسعى روسيا بكل قوتها لتحقيق انتصار سريع وكاسح على الجبهة الشرقية لأوكرانيا وإقناع كييف بوقف الحرب ما سيمكنها من المحافظة على مكانتها الدولية. وعليه، سيتجمد العديد من الملفات وتسود حالة من الضبابية وسط تصعيد على بعض جبهات المنطقة في انتظار جلاء غبار الصراع الغربي – الروسي في أوكرانيا وخارجها.
ويبدو أن أطرافاً في الأزمة رفعت توقعاتها إلى حد أعلى كثيراً من القدرات والإمكانات المتوفرة وطبيعة الظروف المحيطة بفريقي الصراع، رافق تلك التوقعات، في الوقت نفسه، إغفال الضغوط المتصاعدة الآن على كل من موسكو وواشنطن من جانب حلفاء مهمين مثل الصين ودول البلطيق والسويد وشرق أوروبا والمملكة المتحدة والقوى النافذة داخل روسيا والولايات المتحدة. لكل من هؤلاء الحلفاء والخصوم مصلحة أو عقيدة تدفع في اتجاه أو آخر، ومع التصعيد المتتالي سوف تزداد الأزمة تعقيداً وربما تمهيداً لإعلان نهاية نظام دولي تجاوز عمره ثلاثة أرباع القرن.
الصين ومفهوم “تحوُّل القوة”
أين الصين من الإصطفاف الناشئ؟ وهل يؤدي التوافق الروسي الصيني إلى تحول في القوة العظمى؟ يشير مفهوم “تحوّل القوة” إلى فقدان دولة مهيمنة لموقعها القيادي في النظام الدولي لصالح قادم آخر تتنامى قوته بشكل متسارع؛ وبالتالي، يسعى هذا القادم للوصول إلى موقع الهيمنة. فمن أجل حدوث تحول للقوة، يجب على الدولة الصاعدة أن تمتلك مقومات للقوة تفوق تلك التي تمتلكها الدولة المهيمنة، أو على الأقل تعادلها؛ وبالتالي، على الدولة الصاعدة العمل على تضييق الفجوة بين مقدراتها القومية، ومقدرات الدولة المهيمنة. وعندما يكون الأمر مصحوباً بعدم رضا شديد عن الوضع الدولي القائم بالنسبة للدولة الصاعدة، فإنه من المتوقع نشوب الحروب.
المؤشرات التقليدية لمفهوم تحول القوة حصرها ديفيد سنجر في 6 مؤشرات: عدد السكان الكلي، عدد سكان الحضر، الأفراد العاملين بالقوات المسلحة، مقدار الإنفاق العسكري، صناعات الحديد والصلب، ومعدل استهلاك الطاقة. وقام تشارلز دوران – Charles Doran بتتبع صعود وهبوط المقدرات القومية للدول.
وأكد الباحثان أبرامو فيمو كينيث أورغانسكي – Abramo Fimo Kenneth Organski وجاسيك كوجلر – Jacek Kugler أن الدولة الصاعدة – أطلقا عليها تعبير “المتحدي الصاعد” rising challenger – تسلك سلوكاً تصادمياً مع القوة العظمى، للوصول إلى موقع الصدارة في النظام العالمي، ولهذا، تندلع الحروب بين القوة الصاعدة وتلك المسيطرة على الوضع القائم. فالحرب تندلع عندما يصبح توزيع القوة بين الدولة المهيمنة وتلك المتحدية متعادلاً بشكل تقريبي وتكون احتمالية اندلاع حرب كبرى عالية عند النقطة التي تتخطي فيها الدولة المتحدية نظيرتها المهيمنة.
فنشوب الحروب الكونية يمهد لنظام عالمي جديد – وفق ما اشار الباحثان جورج موديلاتسكي – George Modelski وويليام طومسون – Willaim Thompson بقولهما إن النظام العالمي منتظم في هياكل محددة حيث تكون مقاليد الأمور في يد دولة واحدة مهيمنة، ويعتبر المؤشر الأساسي في عملية تحول القوة وتدشين نظام عالمي جديد هو “نشوب الحروب غير القابلة للمنع”. فالحروب الكونية تعد مؤشرات لتولي قيادة عالمية جديدة لشؤون العالم؛ وبالتالي، فإن تفوقها العسكري يمنحها القدرة على تقديم السلع العامة كالأمن العسكري ووضع قواعد للعلاقات الاقتصادية الدولية. والأكثر من هذا أن إساءة تقدير دولة أو أكثر لقوتها النسبية بالمقارنة بقوة خصومها، تكون أكبر ما تكون عندما تتساوى أو تتعادل قوة كل طرف من الاطراف.
نظرية أخرى تقول أنه في توازن أو تعادل القوة ليس من المحتم قيام الحروب الكونية، لأن وجود الدول والتحالفات في حالة تكاد تتعادل فيها قوتها العسكرية أمر من شأنه أن يحول دون نشوب النزاع المسلح؛ وعليه، فإن بعضاً من الدول تسعى إلى الحفاظ على التوازن العسكري فيما بينها. ويعتبر سعي إحدى الدول لزيادة قدرتها العسكرية بالصورة التي تخل بتوازن القوى علمياً أمراً يدعو للاضطراب، ويولّد سعياً من قبل الدول الأخرى لتعزيز توازن القوى بمعاهدات تلتزم فيها الدول الأطراف بالحفاظ على قوتها العسكرية ضمن حدود مقبولة من الدول الأخرى. وفي معاهدات السلام التي تبرم بين الدول بعد إنقضاء الحروب، يتم في العادة التطرق لتوازن القوى والإشارة إلى الترتيبات التي من شأنها أن تحافظ عليه وتحول دون الإخلال به.
تساؤلات حول النظام العالمي المقبل
إن التدقيق في مجريات المعارك الميدانية للحرب المستعرة في أوكرانيا تشير إلى بداية تقسيم للمناطق الأوكرانية، شرق تسيطر عليه القوات الروسية، وغرب تحاول السلطة الأوكرانية تعزيز مواقعها فيه بدعم غربي، وصولاً إلى تسريب إمكانية إعلان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، حكومة في المناطق الشرقية لإطلاق المواجهة ضد موسكو بدعم غربي. فهل تستبق واشنطن “القوة العظمى” تصاعد المارد الصيني “القوة الصاعدة” الذي “ينتظر على ضفاف النهر” مآلات الحرب المفتوحة؟ وهل تسرع واشنطن في انتاج تسوية تمكنها من تحجيم طموحات القيصر الروسي، وتبقي قبضتها على أوروبا وتعيد النبض إلى الناتو، وبذلك تطيل من هيمنتها الحالية على النظام العالمي؟ أم أن الصين، المستفيدة من استنزاف القدرات “الحليف” الروسي نتيجة العقوبات وأكلاف الحرب المفتوحة، وقد امتلكت القوة البحرية والجوية والفضائية الموازية – أو تكاد – وتنامي الإقتصاد الصاعد، سوف تلتقط الفرصة للولوج في مسيرة تغيير النظام العالمي الأوحد، وأي نظام ينتظر العالم بعد نظام العولمة الوحشية؟، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أين تكمن مصلحة الصين، وهى المستفيد الأول من هذا النظام العالمي الحالي، والذي تُحرز في ظله تقدماً مستمراً، إذ باتت القوة التجارية الأكبر، والمصدر الأهم للإقراض العالمي، إلى جانب تحولها لمركز عالمي للابتكار، واقترب حجم اقتصادها من معادلة الاقتصاد الأمريكي؟ أليس الأرجح منطقياً أن تواصل هذا المنهج لما يحققه من نتائج آخذة في التراكم ما لم تحدث مفاجأة قد ترتبط بتفاعلات داخلية أو إقليمية، وتؤدي إلى اختلاف في المعطيات الحالية والمتوقعة فى الفترة القادمة؟ وهل يمكن، بالتالي، لأية حرب تشنها روسيا – أو غيرها – أن تثنى الصين عن هذا المنهج الذي يجعلها موضع ثقة الجميع تقريباً (استخدم مُنسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل عبارة “دولة موثوق بها من جميع الأطراف” في سياق حديثه، الذي نُشر في صحيفة “البايبس” الإسبانية في 4 مارس/آذار 2022، عن أنها التي قد تستطيع القيام بدور الوسيط لوقف الحرب)؟
في ظل هكذا معطيات، تستفيد الدولتان “المهيمنة” و”الصاعدة” من حروب تخاض بغير أدواتهما ومن دون خسارة جندي واحد. تبدو الصين الرابح الأول من الحرب فى أوكرانيا، وتليها الولايات المتحدة. أسئلة جمة تنتظر الإجابة تحت النار.
نشرت في مجلة الأمن الداخلي اللبناني